استقبلت الإسكندرية خطواتي الأولى بلفحات نسيم باردة في بداية نهار ممطر تكسوه الغيومُ ـ وقد أخذت حبيبات رذاذ المطر تتناثر على وجهي وجسدي , وبالرغم من برودتها فقد أحسست بالانتعاش , وبدت لي هذه المدينة الصاخبة المزدحمة صيفا بشكل مختلف كُليًْا في الشتاء .. فقد بدت عروس البحر وقد اكتسى صباحُها المشرق بدكنة المغيب , وكشفت عن وجه مغسول , وخضرة يانعة , وطرقات متألقة , وهدوء نفتقده في الصيف ـ وكان هناك لحْنًا جميلا يعزفه تلاطم الأمواج وسقوط الماء على الطرقات .
بدأت الوصايا العشر لأمي تدور في عقلي تباعا ..
ـ عادل .. عندما تصبح في الإسكندرية , توجّه مباشرة إلى منزل ابنة عمتك , هي تنتظرك
ستعطيك مفتاح شقتها في ميامي, التي تؤجرها في الصيف وتبقي فارغة في الشتاء, ثم
توجّه فورا إلى المكتبة .
ـ عادل .. انتبه إلى أمتعتك ونقودك .. في الغربة نقودك هي أهلك وعزوتك.
ـ عادل .. حبيبي .. لا تنس أن تأكل , أنا أعرفك عندما تنهمك في عمل ما تنسى الطعام
والشراب . قاطعتها ضاحكا : أمي لم أعد صغيرا بعد .. تأكدي سأنفذ كل أوامرك واهنئي .
حاولت قريبتي استضافتي في منزلها, شكرتها قائلا : إن زيارتي للإسكندرية لها هدف واحد
هو إكمال رسالة الماجستير التي أعدها ـ وقد جئت أبحث عن مخطوطات , وكتب معينة
علمت إني لن أجدها إلا في مكتبة الإسكندرية , ولا بد أن أكون على راحتي .
وفى تلك المكتبة العريقة العملاقة انهمكت في بحث متواصل بين الكتب , فلم أشعر
بالساعات تمر وأنا بين باحث , وقارئ , ومصور , ومسجل لما أريد من معلومات , ولم
أتوقف إلا عندما أوشكت المكتبة أن تقفل أبوابها
مضيت بغنيمتي من المعلومات الثمينة , وإذا بدوار مفاجئ يأخذني , فتذكرت إنني لم
أتناول أي شئ منذ الصباح , فابتسمت متذكرا كلمات أمي وبعثت لها قبلة في الهواء
عرجت على أول مطعم , وأخذت بعض الشطائر وزجاجة مياه , وتوجهت بعدها
إلى الشقة.
تعجبت من شكل العمارة .. فقد كانت تقريبا مظلمة لا ضوء فيها ـ سألت البواب : هل الكهرباء مقطوعة . قال : لا يابيه .. ولكن معظم أصحاب الشقق هنا يأجرونها للمصطافين في الصيف , وتبقي مظلمة فارغة في الشتاء .
وجدت الشقة جميلة .. أثاثها بسيط , ولكنه مريح ونظيف ـ وضعت الزجاجة علي طاولة الطعام , وجلست ألتهم الشطائر التهاما .. ارتخت أعصابي , وتخدرت أطرافي , وبدأت أشعر بتعب ذلك اليوم المشحون وقد حل فجأة , فتمددت علي الأريكة وتدثرت بمعطفي وما هي إلا لحظات حتي رحت في سبات عميق .
لا أعرف كم مر علي من الوقت وأنا نائم , شيئا ما أيقظني فجأة .. كأني سمعت خطوات تسير بجانبي
انتبهت .. صحت قائلا : من هناك ؟؟ لم يجبني أحد , فوقفت وأخذت أبحث في الشقة فلم أجد أحدا . قلت لنفسي : يبدو إنني كنت أحلم .
رجعت إلي الأريكة , وحاولت أن أنام .. أقفلت عيني , ولكن كل حواسي كانت في حالة انتباه تام .
لم يمض وقت طويل حتى دوي صوت اصطفاق خشبي .. وقفت مرتاعا ..
رأيت نافذة الصالة مفتوحة ـ ابتسمت قلت لنفسي كأنني أحاول إقناعها : إنها رياح الشتاء
فتحت النافذة .. ولكن من الغريب إني وجدت إن ضلفتي الزجاج مفتوحتان إلي الداخل ,
بينما الضلفة الخشبية مغلقة .. أي ريح هذه ؟؟ وكيف فتحته ؟؟
تشنجت أطرافي وأخذت أشعل كل أضواء الشقة , وأخذت أصفر بفمي لكي أؤنس وحدتي
جلست وكل أعصابي في حالة تشنج وانتباه تام .
وجدت نفسي أتمتم بشفتي المعوزات ثم كل ما أحفظ من القرآن .. ثم بدأ صوتي يعلو رويدا
رويدا .. ولكني توقفت فجأة , فقد التقطت أذناي صوتا ما .. إنه صوت قطرات ماء ..
تنزل قطرة .. قطرة .. أخذت أتنصت لصوت القطرات وقد ارتخى نصفي الأسفل وكأنه
قد أصبح مفصولا عني ـ وفجأة نزل الماء منهمرا في غزارة .. وقفت مرتعبا , توجهت
في سرعة إلي الحمام , كانت صنابير المياه مقفلة .. ولكن في الحوض كانت هناك آثارا
لقطرات الماء . جرجرت قدماي جرا .. رجعت إلي الصالة وأخذت زجاجة الماء أريد
أن أرطب فمي الذي أصبح يابسا تماما , فتصلبت عيناي علي الزجاجة .. لم يكن ما بها
ماء , بل سائل أحمر قاني كالدم . لم أشعر بنفسي إلا وأنا أفتح باب الشقة وأنزل قافزا علي
درجات السلم .. وأجري .. أجري بكل قوتي .. لم أتوقف إلا عندما وجدت أمامي فندق
صغير فدلفت داخلا .
قلت لاهثا للموظف الذي استيقظ من نومه عند دخولي : أريد غرفة من فضلك ـ نظر إلي شزرا
فتفقدت نفسي فوجدت إني بملابس النوم , حافي القدمين , فارغ اليدين ..
قال متأففا : لا يوجد عندنا غرف خالية .
قلت بتوسل وأنا أجلس علي أول مقعد في استماتة : لم يبق علي الفجر إلا القليل , سأجلس
بجوارك إلى الصباح .
في الصباح .. كان يجب أن أذهب إلي الشقة لآخذ متاعي , وأقفل الشقة , وأرجع المفتاح
إلي صاحبته ـ كانت مهمة صعبة جدا ـ أن أرجع إلي هذا المكان ثانية , قلت مطمئنا لنفسي
لا تخاف .. ففي الصباح تهرب كل الشياطين .
سمعت صوت البواب . فعزمت أن أناديه لكي يصعد يؤنسني , ولكنه كان منهمكا في
حديث في هاتفه النقال .. سمعته يقول : لا تخف يابيه .. عملنا اللازم وزيادة ..
كلها يومين بالكثير ويأتي أصحاب الشقة ليبيعوها بأي ثمن ..هههههه .