لم يكن اليسارى التونسى المعروف الدكتور المنصف المرزوقى مجرد معارض لنظام بن على الاستبدادى ، فقد كان يرى أن قبوله بهذا الدور الديكورى سيدعم النظام ويقويه ويضفى عليه الشرعية ، لذلك طرح المرزوقى نفسه بديلا عن رأس الدولة وجهز قوى المعارضة بأطيافها المختلفة لتكون بديلا عن النظام . ولذلك تحمل كل ألوان الاضطهاد وواصل النضال الى النهاية من أجل تلك الغاية لأنه لم يكن يرى صلاحا واصلاحا وتغييرا حقيقيا الا بعد اسقاط الديكتاتور ونظامه البوليسى . وكان المرزوقى أول من دعا الى الاضراب العام والعصيان المدنى عام 2006م بعدما عاد الى تونس من منفاه فى فرنسا دون موافقة السلطات داعيا الشعب التونسى الى عصيان مدنى بهدف اسقاط حكم بن على ، ولم يكن ترشحه للرئاسة فى مواجهة بن على عام 1994م الا بعد عزله من رئاسة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ، فتحدى بن على ونظامه وقام بالترشح للرئاسة مدركا أنه سيدفع ثمنا غاليا لجرأته وتحديه ، ليثبت للتونسيين من جهة أن هناك أمل فى التغيير ، وأن بن على لا يمكن أن يظل فى منصبه هذا مدى الحياة ، ومن جهة أخرى ليفضح زيف تمثيلية الاقتراع الرئاسى أمام العالم ، فنتيجته فى كل الأحوال محسومة سلفا . واعتبرها المرزوقى مجرد خطوة رمزية ، وأما ترشحه الحقيقى لرئاسة تونس فلن يكون فى ظل حكم بن على الأراجوزى ، كما عبر عن ذلك المرزوقى فى أحد حواراته قائلا : " أنا مترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية فى ظل دستور جديد ونظام انتخابى جديد ووضع سياسى جديد يوجد بعد نهاية الدكتاتورية ، تعاد فيها الديمقراطية الى بلادنا ، أما ( أراكوز بن على ) والمهازل الانتخابية لديكتاتورية تحتضر فلا ناقة لى فيها ولا جمل " .

مقاومة لا معارضة

الفلسفة التى بنى عليها المرزوقى قناعاته ومواقفه النضالية بعدم الاعتراف بشرعية الحكم الديكتاتورى ومقاومته بكل السبل السلمية ، ليبدأ بناء الدولة من جديد على أسس شرعية وديمقراطية على يد أبنائها الشرفاء ، عبر عنها فى كتابه القيم ( عن أية ديمقراطية يتحدثون ) بقوله " لا مجال لمعارضة فى ظل نظام ديكتاتورى الا تصنعا وافتعالا أو تزييفا وتغطية ؛ اذ لا ينفع ضد الاستبداد الا المقاومة " ، لذلك دعا المرزوقى القوى السياسية بانهاء ما أسماه عبث المعارضة لتبدأ مرحلة مقاومة الحكم الاستبدادى قائلا : " نحن مطالبون بانهاء فترة المعارضة للدخول فى فترة المقاومة " . والظن أن الدكتور المرزوقى قد استوحى هذه الفلسفة من مواقف اثنين من الزعماء التاريخيين ، كانا بمثابة " ثروته فى الفكر والروح " بحسب تعبيره ، وهما الزعيم الهندى المهاتما غاندى والزعيم الافريقى نيلسون مانديلا الذى ضغط - ضمن حملة دولية - للافراج عنه بعدما حبسه بن على عقابا له على ترشحه ضده لرئاسة تونس . وكان من ولع المرزوقى بغاندى ومقاومته السلمية عن طريق العصيان المدنى الذى انتهى باستقلال الهند عن بريطانيا ، أن أطلق على حزبه اسم " المؤتمر من أجل الجمهورية " تيمنا باسم حزب " المؤتمر " الهندى الذى كان يتزعمه المهاتما غاندى ، وكان المرزوقى قد اشترك فى احدى المسابقات التى نظمتها الهند بمناسبة مئوية غاندى ، وفاز برحلة لمدة شهر جاب فيها الهند فى ضيافة الحكومة الهندية . أما تأثره بمانديلا فكانت تلك الارادة الحديدية لمواصلة النضال من أجل الحرية ومقاومة الظلم وانتزاع الحقوق ، كما انتهى نضال الزعيم الافريقى باستعادته جنوب افريقيا من نظام الفصل العنصرى ، وهذا يفسر سر ثبات المرزوقى وحيويته وصبره الطويل وعزيمته الفولاذية ، التى نراها فى نظرات عينيه الحادة اللامعة خلف نظارته الشهيرة ، ونسمعها فى كلماته الحماسية الحية ، ومنها ما سطره فى رأس مدونته " من السذاجة ارادة تغيير العالم ، لكن من الاجرام عدم المحاولة " ، وما قاله فى كتابه " تفتحت الزهور فى الصحراء " الذى هاجم فيه المفكرين والمثقفين العرب والغربيين الذين يدافعون عن النظم القمعية بحجج مختلفة ، وتنبأ فيه بسقوط بن على وبسقوط كافة الأنظمة الاستبدادية فى العالم العربى ، قال : " سيكون موعدنا مع الفجر الجديد قريبا " .

رفعت السعيد .. معارض أَسَرَته السلطة

على عكس اليسار التونسى تماما ، فقد تحولت المعارضة المصرية بفضل اليسارى المعروف الدكتور رفعت السعيد الى مجرد ديكور لنظام مبارك الشمولى ، وساهم السعيد بتحالفه مع نظام الحكم الى تفريغ المعارضة من محتواها واطالة عمر السلطة ، فأساء الى تاريخ اليسار الذى اشتهر تاريخه برموز معارضة حقيقية تمتعت بالنبل والمصداقية والتجرد أمثال المحامى اليسارى الشهير الأستاذ نبيل الهلالى وأيضا الرمز اليسارى المعروف الأستاذ خالد محيى الدين . فقد اليسار بريقه ومصداقيته فى الشارع كمدافع عن الفقراء والمظلومين ، عندما سار فى طريق تفتيت المعارضة وتفكيكها ، فبدلا من التحالف مع قوى المعارضة لتكوين جبهة نضال وطنى قوى تحقق الأهداف المشتركة ، عمل فى اتجاه مضاد وتحالف مع السلطة لتظل المعارضة ضعيفة لا أثر لها ولا قيمة لفعلها على الأرض ، وقبل السعيد بعدما استقر له أمر حزب التجمع هبات السلطة ومناصبها فكان ضمن المعينين الدائمين بمجلس الشورى مع اقصاء عناصر وطنية شريفة داخل الحزب واستبدالها بمدجنين يحسنون السمع والطاعة . ولعل الحيثيات التى ذكرها أعضاء حزب التجمع ببورسعيد المستقيلون من الحزب وعلى رأسهم المعارض اليسارى والبرلمانى المعروف البدرى فرغلى بعد فضحية اسقاطه فى الانتخابات بالتفاهم بين الحزب الوطنى وقيادة حزب التجمع ، كانت أصدق تعبير على مدى التردى والانهيار الذى كان رفعت السعيد عنوانه الأبرز ، فقد ذكروا فى أسباب استقالاتهم " انضمام التجمع الى صفوف الحزب الحاكم ليصبح ديكورا مجردا من المبادئ التى عرفناها منذ القيادة الرائدة لخالد محيى الدين " وقالوا : " ثبت خلال تجربة الانتخابات أن الحزب فقد مصداقيته فى الشارع نتيجة الصفقات المريبة والمتدنية التى حولت رموز الحزب الى دمى تتلاعب بها قيادات الحزب الحاكم " ، واتهم أعضاء الحزب المستقيلون - وعددهم 75 عضوا – الدكتور رفعت السعيد ب " تصفية العناصر الوطنية واستبدالها بعناصر مشبوهة ومعادية لمبادئ الحزب المعلنة " .

الصفقة .. متى وكيف ولماذا ؟!

عرض التيار الاسلامى على الدكتور رفعت السعيد الانضمام الى جبهة معارضة وطنية تضم اليسار واليمين للوقوف صفا واحدا فى مواجهة السلطة المستبدة والتحديات الكبيرة فقابله بالاستخاف والرفض ، ففى مناظرة شهيرة لرفعت السعيد مع المفكر الاسلامى والمناضل السياسى الأستاذ عادل حسين رحمه الله ، وجه فيها حسين النصح للمثقفين الجادين من غير الاسلاميين بعدم الاستعلاء على الحركة الاسلامية التى وصفها بالجبارة والتاريخية " فلم يعد مقبولا أن يقف المثقفون موقفا متعاليا فى حين أن الجماهير لها خيار واضح " ، وشرح عادل حسين مبادرته قائلا : " نحن غالبيتنا نؤمن بالاسلام كدين ومعنا الاخوة المسيحيون ؛ فالاسلام ان كان دين الغالبية فهو التاريخ المشترك للكل ، والسلوك السائد للمسيحى لا يختلف عن سلوك المسلم ، نحن أمام ارث حضارى مشترك حتى ولو اختلف الدين ولو اتسع الأمر فسوف يقيم أساسا صلبا فى مواجهة المشروع الصهيونى والأمريكان " ، ومد حسين يده للسعيد أمام الجماهير الحاشدة داخل مقر حزب التجمع قائلا : " نحن أمام طغيان أمريكى يهدد هذه الأمة فى تاريخها وحاضرها ومستقبلها ، فى اطار أننا جميعا نتحاور لكى نؤكد الوجه الصحيح للاسلام ، ويمكننا أن نضع أهدافا واضحة لننسق جهودنا ، وان كان المقصود أن نخطط نموا اقتصاديا لبلادنا نحررها به من التبعية، ويمكننا الوصول الى نقاط اتفاق بيننا بحكم التقارب فى الأهداف ، للنضال ضد التبعية وتحقيق العدل " . رفض الدكتور رفعت السعيد التحالف مع المعارضة ضد الاستبداد ، وفى المقابل وضع يده فى يد السلطة ضد الحركة الاسلامية ، فكانت معركته هى معركة السلطة وكان الهدف واحدا وهو عرقلة المشروع الاسلامى ومنع صعود الاسلاميين بكل الحيل والوسائل . يقول السعيد فى كتابه ( التأسلم فكر مسلح ) : " معركتنا ضد التأسلم .. نرفض فكرة الوصاية على العقل المصرى باسم الدين ونرفض فكرة تسييس الدين أو تدنيس السياسة " . لم يرفض السعيد فقط التحالف مع الاسلاميين ، بل استعلى عليهم ، وقسم المجتمع قسمين – كما فى حوار له بصحيفة الأهرام " قوى ليبرالية ووطنية تقدمية فى كفة ، وهذه الكفة تضم اليسار ، وقوى اخوانية سلفية تريد الذهاب بمصر الى متاهة لا يعلم حدودها الا الله " ، وفى أحد اطلالاته الفضائية عبر السعيد عن الفكرة بمثال " العربية الغارزة " قائلا : " مصر الآن عاملة زى العربية الغارزة فى الرمل ، فيه ناس عاوزة تزقها لورا مارشليه وترجع بينا الى قرون بعيدة ، وناس عاوزة تزقها لقدام " !
فى تونس رفض الدكتور المنصف المرزوقى هذه الصفقة ؛ فقد سعى زين العابدين بن على لاستخدام اليسار وقوى المعارضة غير الاسلامية فى استئصال جذور الحركة الاسلامية وتجفيف منابعها ، بخلق أرضية مشتركة مع حركة حقوق الانسان ؛ فاحتضن فكرة انشاء المعهد العربى لحقوق الانسان ، وقام بتعيين رئيس سابق للمعهد وزيرا للتعليم وجعل من تونس عاصمة للمؤتمرات الدولية والاقليمية الافريقية والعربية لحقوق الانسان ، وغيرها من المزايا والهبات فى مقابل غمض الحقوقيين والناشطين السياسيين – وعلى رأسهم المرزوقى – أعينهم عما سيلحق بالاسلاميين من اضطهاد وتنكيل فى السجون مع القبول باستمرار القيود الصارمة على حرية الرأى والتعبير والمشاركة السياسية ، فكان موقف المرزوقى ورفاقه هو الرفض التام لهذه الصفقة مع السلطة ، مؤكدين أن الخصم المشترك بينهم وبين الاسلاميين هو الطاغية ونظامه وليس العكس ، ومدركين مبكرا أن الثمن لن يقتصر على فقدان حركة حقوق الانسان شرفها ومصداقيتها فحسب ، بل أيضا ستنفتح شهية النظام لينقض بعد ذلك على فصائل المعارضة غير الاسلامية على طريقة " أُكِلْتُ يوم أكل الثور الأبيض " . فكان موقف المرزوقى فى تونس معاكسا تماما لموقف رفعت السعيد فى مصر ؛ فبينما عقد السعيد صفقته مع النظام ضد الاسلاميين ، كانت صفقة المرزوقى فى تونس مع الاسلاميين فى مواجهة النظام ، وكان المرزوقى بالفعل أول المنتقدين والمهاجمين لزين العابدين بن على بسبب قمعه للاسلاميين . وشبه المرزوقى هذا التحالف بين القوى الوطنية من اليسار واليمين بالعائلة فى كتابه " حقوق الانسان " معبرا عن ذلك بقوله : " علاقة المسئولية بالانتماء هى علاقة النتيجة بالسبب والظاهرة بالآليات ، نولد عائلة تحمينا وترعانا وتميزنا ، يولد انتماؤنا اليها شعورنا بالمسئولية أى ضرورة اطلاعنا فى اطار عملية أخذ وعطاء لا تنتهى من الدعم والحماية بجملة من الواجبات " .
كانت غاية المرزوقى هى اسقاط الاستبداد فلا اصلاح ولا تغيير حقيقى والطاغية يحكم ، لذلك تحالف مع جميع القوى المعارضة " المتواجدون داخل أجهزة الدولة وداخل الأحزاب العلمانية وداخل حركة النهضة وداخل القطاعات الصامتة " ، وتحمل انتقادات غلاة اليساريين والعلمانيين الذين وصفوه بالتزلف والانتهازية بسبب تحالفه مع الاسلاميين . وقاد مقاومة شرسة هدفها الاستراتيجى " اعادة الحقوق للتونسيين وتحقيق الديمقراطية والتداول السلمى للسلطة " ، وهدفها التكتيكى " أن تكون سنة 2005م سنة تجمع المقاومين من جميع الاتجاهات حول هيكل ومشروع حتى يعود ( الرقاص ) الذى ذهب الى أبعد نقط الانهزامية والخنوع الى نقطة توازن تعيد للتونسيين احترامهم لأنفسهم " .

المرزوقى يبطل مفعول فزاعة الاسلاميين

وصلت حملة الدكتور رفعت السعيد للتخويف من الاسلاميين ذروتها مع انطلاق الحملة الانتخابية لبرلمان الثورة ، الذى فضل السعيد خوض انتخاباته متحالفا مع الكتلة المصرية ، مؤكدا أن الاسلاميين " يريدون أن يكون الشعب سبايا لديهم حتى يتحكموا فيه وفى مستقبله ، ويعتقدون أنهم أسياد الكون ، لكنهم ضد المواطنة ، وما يقولونه كذب وخزى وعار ، وأنا أتحداهم بأن يعترفوا بأخطائهم " .
وقال السعيد : " الاسلام ليس حلا كما يقولون والاخوان لن يتركوا الحكم فى حال الوصول اليه " ، وفى حواره مع الأهرام بتاريخ 25 نوفمبر 2011م ارتفعت نبرة التحذير مؤكدا للمصريين أن الاخوان المسلمين ليس وراءهم غير الخراب وأنهم سوف يفعلون بمصر كما فعل هتلر بألمانيا ، وهتلر كان الأقوى جماهيريا مثل الاخوان بمصر ، لكنه – بحسب تعبير السعيد – " ذهب بألمانيا فى ستين داهية " . ولا يفوت السعيد على الدوام تخويف الأقباط فهو – حسب تعبير جمال أسعد عبد الملاك فى كتابه ( انى أعترف ) - : " حامى حمى الأقباط والمتحدث الرسمى باسم الأقباط فى مصر " ؛ ففى مقابلة فضائية مع وائل الابراشى أكد السعيد أن الأقباط منهم من هاجر بالفعل من البلاد ومنهم من يستعد للرحيل بعد أن تأكد حصول الاسلاميين على أغلبية فى البرلمان ، ووافقهم السعيد على فكرة الهجرة حتى لا يأتى أحد ويطالبهم بالجزية قائلا " بلاها أحسن " .
كان هذا حال رفعت السعيد الذى وصفه يوما الناشط السياسى والكاتب الصحفى عبد الحليم قنديل بأنه " الجناح السياسى للأمن المركزى " . أما المرزقوقى فى تونس فقد لعب دورا بارزا فى طمأنة الداخل التونسى والخارج الغربى من ناحية الاسلاميين ، محذرا فى البداية من معاداة الدين ذاته وليس معاداة مجرد أفراد ، فهو يرى أن " لب المشكل عند العلمانيين المتطرفين أن جرفهم التيار الى أبعد من النقطة التى كان لهم الحق فى الوصول اليها " ، مؤكدا أن " عداء الدين هذا سخافة ؛ لأنك لا تستأصل الحاجة الدينية من البشر مثلما لا تستأصل منهم الشهوة الجنسية أو حاجة الكرامة ، وعداء الدين سخافة أيضا لأن كبرى الحضارات البشرية مشبعة بالدين " .
أبطل المرزوقى فزاعة الاسلاميين التى طالما استخدمها طغاة العرب لتسويغ حرمان الشعوب من الديمقراطية والحرية ولاطالة أعمارهم فى السلطة ، وأكد للجميع أن الاسلاميين اذا وصلوا للحكم " فسوف يتبنون الخيارات الديمقراطية رغما عنهم " لأننا نعيش فى عصر الديمقراطية " ، واعتبر المرزوقى – فى مقابلة مع صحيفة ( جورنال دوديمانش ) الفرنسية – أن " المخاوف حيال حركة النهضة عبثية ؛ لأن مجتمعنا يشمل حيزا محافظا وحيزا عصريا ، والتعبير السياسى للمحافظة هو الاسلام ، لديكم أحزاب ديمقراطية مسيحية فى أوربا ، ولدينا حزب ديمقراطى اسلامى " . وبينما كان الدكتور رفعت السعيد استعدائيا واستعلائيا فى خطابه مع الاسلاميين وعنهم ، معتبرا نفسه منتميا الى " القوى التقدمية المتنورة " ، أما هم فقوى " متخلفة تسعى لجر البلاد الى ما قبل أربعة عشر قرنا من الزمان " ، كان الدكتور المنصف المرزقى أكثر توازنا وانصافا ، فقد وقف مع الاسلاميين على أرضية مشتركة ، فهو يبحث معهم عن الحرية والاستقلال ، وهو يؤمن معهم بهوية تونس العربية الاسلامية . وعندما سُئل عن سر اصراره على عقد المؤتمر الأول لحزبه فى مدينة " القيروان " وليس فى تونس العاصمة ، جاءت اجابته كاشفة لحنينه وشعوره بالامتداد الطبيعى لعروبة تونس واسلامها ، فهو يقول : " لأن القيروان أول عاصمة عربية اسلامية فى هذه الربوع ، وحزبنا متمسك بالهوية العربية الاسلامية " ، وقال الدكتور المرزوقى : " لن نفرط فى تونس فى أمرين نعتبرهما من الثوابت التى يقوم عليها المجتمع : الدين والحرية " ، وكان قد أكد قبل ذلك بسنوات فى كتابه " لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ " على أن " الدين هو حقا قوام الشخصية العربية الاسلامية وعمادها ، ومن ثم نحن لا نستطيع أن نبنى أى صرح طالما لم نعتبر هذه الدعامة " .

الثابت والمتحول

تميز المرزوقى على امتداد تاريخ نضاله بالثبات ، فلم يرضخ للضغوط ولم يضعف أمام المساومات والمطاردات والتضييق والسجن والنفى ، ولم يخذل شعبه بالدخول فى صفقات مع النظام الديكتاتورى ، ولم يقدم مصلحته ومصلحة حزبه على مصلحة وطنه ومصالح عموم التونسيين ، ولم يتردد فى مواقف متناقضة ، جريئا فى خصومته وصريحا وصادقا فى تحالفاته ، " يوالى على معيار ثابت ويخاصم على معيار ثابت ، ولا يميز فى هذا بين قريب أيديولوجيا وبعيد فكريا " . وكان كلامه دائما معبرا عن فعله وعن مواقفه الفعلية على الأرض ، وظل كما هو دائما – باعتراف الخصوم والأصدقاء – ثابتا لم يتغير فظل لصيقا بالنضال فى كل أحواله وفى عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ؛ فكان فى بداية نضاله كما كان فى السجن ، وكان داخل تونس كما كان فى المنفى يعرف العالم بقضية وطنه عبر المحافل الدولية ووسائل الاعلام . فكانت الثورة مدينة له كما كان هو مدينا للثورة ، ولم يكن مستغربا أن يصل باليسار التونسى وبرمزيته المناضلة الى أعلى منصب فى الجمهورية التونسية على قاطرة الثورة الشعبية ، ليبدأ مع التونسيين مرحلة جديدة أصعب وأخطر فى النضال ، كما ذكر فى خطاب تنصيبه : " ليس لكم عندى سوى العمل والدموع لنصل جميعا لوضع تتطلعون اليه ، فليس أمامنا جميعا سوى أن نصنع عالمنا بأيدينا " . أما رفعت السعيد فكم كانت المسافة بعيدة بين أقواله وأفعاله ، وبين قناعاته المعلنة وتحالفاته ، ويكفى الدكتور رفعت تحولا أن تحول اليسار - ممثلا فى حزب التجمع - من قوة معارضة حقيقية الى حزب مستأنس مروض لا يهش ولا ينش ، كان على يده التى صافحت السلطة وأبت مصافحة المعارضة . وتلك كانت كافية لصنع شهرة رفعت السعيد ولدخوله التاريخ من بابه الخلفى ليعاكس صفحات النضال اليسارى وينحدر بتاريخ اليسار المصرى من الثورية السرية والمعلنة قبل ثورة 1952م وبعدها ، الى المعارضة الناعمة على عهد السادات ، الى الانحياز الكامل للنظام الديكتاتورى الشمولى فى محاولات للمساهمة فى ترميمه وابقائه أطول فترة ممكنة ، اعتماداً على تحقيق انتصارات مزيفة ضد قوى سياسية معارضة تتبنى أيديولوجيات مخالفة ، ضارباً بعرض الحائط المصلحة العليا للوطن ، مولياً ظهره لمعاناة المصريين ، متلذذاً بالدور الذى وكله اليه النظام الحاكم للقيام به لتفتيت المعارضة واضعافها ، عن طريق استخدام رموزها لضرب بعضهم ببعض . واستمراراً لمسلسل التحولات على طريق الهبوط ، فقد هاجم الدكتور رفعت السعيد الثورة والثوار فى بداياتها ، وبدا الرجل منسجماً جداً مع تاريخ تحولاته عندما عاد ليدافع عن الثورة بعد ظهور بوادر سقوط مبارك ، وليصف نظام مبارك بالفاسد والمستبد !
استحق رفعت السعيد المقارنة مع المنصف المرزوقى ؛ فالثانى قاد نضالا ومقاومة يسارية حقيقية ، وبفضل سمعته وحنكته وتاريخه المشرف حقق حزبه نتيجة مبهرة لم يتوقعها المحللون وفاز ب29 مقعداً فى المجلس التأسيسى ، ليحل ثانياً بعد حركة النهضة الاسلامية ، ولينتخبه نواب الشعب رئيساً للبلاد ، أما الأول فدهسته قاطرة الثورة وأسقطه الشعب تماماً من حساباته .
واليوم بعد تتبع الدور الذى قامَ به الدكتور رفعت السعيد كقيادى فى جبهة الانقاذ وصولاً الى ما بعد 30 يونيو ؛ فنحن أمام يساريين ، أحدهما فى مصر يصعد كعادته على أنقاض الاسلاميين ، والآخر فى تونس ، يصعد كعادته بمشاركة الاسلاميين .