ليسَ كلُّ البشرِ
ملائكةً!
يوماً قُبيلَ صلاةِ المغربِ، سمعتُ طرفاً من حديثِ أبي محجوبٍ يتوددُ إلى رجلٍ مهمٍ في الحكومةِ، كي يجدَ لابنهِ عملاً. سألَ الرجلُ المهمُّ: وهل يمتلكُ ابنُكَ شهادةً قال أبو محجوب: لا، ولكنّهُ ذو صنعةٍ، فهوَ يمتلكُ خبرةً ممتازةً في عملِ المطاعم. فاعتذرَ الرجلُ المهمُّ بأدبٍ، إذْ إنِّه لا يعرفُ شاغراً يحتاجُ مثلَ هذهِ الخبرةِ في الحُكومةِ. ثمَّ انصرفَ الجميعُ للصَّلاةِ. وتكرَّر سؤالُ أبي محجوبٍ في أيامٍ تالياتٍ مُقبلاً على كلِّ رجلٍ قد يجدُ فيه ضالتَهُ، وإذ سمعتهُ يقولُ لآخرِ مرّة: لولا أطفالُه الثلاثةُ وزوجهُ لما بذلتُ وجهيَ وتكففتُ الناسَ.
تقدّمتُ إليه يوماً بعدَ أن رأيتهُ كفَّ، وكأنهُ قد يئسّ من السُّؤال، فأحزنني ماهوَ فيه وقد رانَ إلى الصَّمتِ والسُّكونِ والاستسلامِ. قلتُ: ماذا لو أشرتُ عليك؟! فانتبهَ الرجلُ من ذهولهِ يقولُ: وعليكَ السَّلامُ.
كررتُ السُّؤالَ: ماذا لو أشرتُ عليكَ بشأنِ ابنِكَ؟!
قالَ: أنا طوعُ أمرِكَ.
قلتُ: هل تقبلُ أن تشاركَني في عملِ مطعمٍ!
قال أبو محجوب: ولكنَّني لا أملكُ المالَ!
قلتُ: فانا أملكُ وابنُكَ يمتلكَ الخبرةَ في عملِ المطعمِ!
فانفرجتْ أساريرُ الرَّجُل وهشَّ وبشَّ. قال أبو محجوبٍ: وإنّه ليشرِّفُني ذلكَ.
قلتُ هناك مطعمٌ معروضٌ للبيعِ سأبتاعهُ لك، ونشرعُ الشراكةَ بيننا على الأرباحِ مناصفةً.
دفعتُ عشرةَ آلاف دينارٍ من مالي، وابتدأتْ شراكتُنا.
وإذ بلغتْ الأرباحُ نهايةَ الشَّهر الأولِ من العمل ألفاً وخمسمائةِ دينار. ثم بلغتْ ألفينِ في الشَّهرِ الذي يليه، ومضت بنا بركةُ الشَّراكةِ حتى الشَّهرِ السَّادسِ إذ كانتْ حصّتي من الأرباحِ حينئذٍ ألفي دينار.
عندها قالََ لي شريكي: هذه حصتُكَ من الأرباح، على أن نفضَّ الشراكةَ بينَنا..قلتُ: وهل يجوزُ ذلك، وقد كانتْ صلاةُ المغربِ تشهدُ عهدَنا..؟!
فاجأني قولُهُ كصخرةٍ سقطتْ من علٍ على كاهِلي، وآلمني قولُهُ كخنجرٍ عضَّ خاصرتي..
قال الشّابُّ لمّا بلغَ منهُ تأثُّري وانفعالي وقد لاحَ عليهِ بعضُ ذلك: والله يا عمُّ ما كنتُ لأودَّ ذلكَ، لولا والدي الذي ألحَّ عليَّ لفسخِ الشراكةِ، واستدعى عليّ في ذلك أمِّي ثمَّ بعدُ زوجي...
قلتُ: إذن سأواجهُ أباكَ اليومَ.
جلسَتُ أنتظرُ توقيعَ الشيكِ من القاضي ، وجلسَ معيَ قومٌ آخرونَ حالهُم كحالي. جلستُ على المقعدِ الخشبيِّ الطويلِ غير المريحِ، جوارَ الرَّجلِ الذي جاوزَ الستينَ والذي توزّعت نظراتهُ في كلِّ اتِّجاهٍ وقد شغلهُ مللُ الانتظار. قلتُ ربما إذا جاذبتهُ أطرافَ الحديثِ أخففُ عنهُ وعنِّي. سألتُ الرَّجلَ: كنتُ أراكَ بين الحينِ والآخرِ تجلسُ على كرسيٍّ في ذلكَ المطعمِ الذي احترقَ مُؤخراً بسببٍ تماسٍ كهربائي، فبدا لي أنَّ لكَ بصاحبهِ علاقةً. فما هي حكايتُك ههنا عندَ محاسبِ الحقوقِ. تنهَّدَ وقالَ: كما ترى فهذهِ حكايتي؛ أنَّني آتي كلَّ شهرٍ لأستلمَ شيكاً بمائةِ دينار منْ صاحبِ المطعمِ الذي كنتُ يوماً شريكَه. هذه المائةُ التي كانتْ يوماً عشرةَ آلاف.
قُبيلَ صلاةِ المغربِ، بعد أن توضأتُ فأسبغتُ الماءَ على جوارحي، وانطلقتُ داخلا المسجدَ رأيتهُ على بعدٍ يتحدثُ إلى شخصٍ آخر، لكنه لمّا رآني اكفهرَّ وجههُ وانسدلَ خدّاهُ وانتفخ منخراهُ. ذاك الوجهُ الذي عهدتهُ من قبلُ مُنبسطاً، وذلكما الخدّانِ اللذانِ عهدتُهما منفرجينِ لابتسامٍ، والمنخرانِ وقد كانَ يكفيهما نسمةٌ من هواءٍ. واجهتهُ فتلاقتْ عيناهُ بعيني فكأنَّهما أنكرتاني، ولسانُ حالُه يقولُ" والله لو خرجتُ من وشاحِ وضوئِكَ ما عرفتُكَ" فتذكرتُ حكايةَ المَرْوزيِّ والكندي، ورأيتُ أنّ بسطَ الحديثِ معهُ قُبيلَ الصلاةِ على عُجالةٍ إنما هو حصادٌ في هشيم.
إلا إنني قلتُ يصوتٍ يكاد مسموعاً "قال صلى الله عليه وسلم: أنا ثالثُ الشريكين ما لم يخُنْ أحدُهما صاحبَه"، فالتفتَ الإمامُ إلى الصَّوتِ الذي حجبَ بعضَ نداءِ القيامِِ
ولما قُضيتْ الصّلاةُ ودقيقتانِ لاستغفارٍ، لمحتُ أبا محجوبٍ همَّ للقيامِ، فانفتلتُ ولحقتهُ حتى إذا أدركتهُ وواجهتهُ لدى البابِ، سألتُ: وكيف ستعيد إليَّ مالي؟!
فالتسنَ وقد حُلَّ من لسانهِ ما عُقدَ:
سنعيدُ إليكَ مالَكَ على أقساطٍ.. كلَّ شهرٍ مائتي دينارٍ!
ولولا أنني في بيتِ الله لانقضضتُ عليهِ وأمسكتُ بعنقهِ، إلاّ إنني كظمتُ غيظي بتحدٍّ قائلاً:
لا أقبلُ إلا أن تعيدَ ليَ المبلغَ كلّه كاملاً!
قالَ: إذن فالقضاءُ بيننا!
قلتْ: وهل كان القضاءُ سيجدُ لابنكَ العاطلِ عملاً قبلَ العهدِ الذي كانَ بيننا، فلم يُحرْ جواباً، وتولّى كِبْرَه وانسلَّ مُغاضبا.
ولما هممتُ بالخروجِ، حانتْ مني التفاتةٌ نحو الإمامِ الّذي ما برِح جالساً في محرابهِ يستغفرُ، فشيعنِّي بابتسامةٍ حالهُا يقولُ:
هوِّن عليك..فبعضُ ما يأتي ههنا شياطينُ البشرِ!