خدعة
كان اليوم يوم افتتاح معرضه الأول هنا بمسقط رأسه، هو الذي أمضى عمرا من العمر مشتتا على العواصم، ولهذا لم يكن غريبا – وقد تطرقت إلى أعماله الكثير من المجلات المتخصصة – أن يحضر العديد من التشكيليين من مختلف التيارات: تكعيبيون وسورياليون وواقعيون وتجريديون وانطباعيون.. وقد تحلقوا حول اللوحات المعلقة على الجدران الباردة زمرا ومثنى يتبادلون بشأنها الأفكار والرؤى، أما هو فقد انزوى وحيدا مبتعدا عن الجمع حتى يتمكن من مراقبتهم عن كثب من وراء دخان غليونه ذي المبسم الفضي. من وقت لآخر كان يومئ برأسه أو يشير بيده تحية لهذا أو تلك دون أن تفارقه ابتسامة لم يستطع فك شيفرتها أحد.
اقتربت منه صحفية باحثة في صمت خبراته المتراكمة عن سَبْق ما:
ما الذي بإمكان حضرتك أن تقوله لنا عن مجمل أعمالك؟
نظر إليها في صمت وابتسامته تزداد اتساعا قبل ان يرد في هدوء:
لا شيء.
لا شيء؟!
تدلت عيناها دهشة.. ضحك لمنظرها.. انسحبت في خفوت.. عاد للاستمتاع بتعليقاتهم التي تنافسوا في ابتكارها حتى تكون بمستوى الحدث. فجأة قرر اختبارهم بخدعته القديمة تلك:
أيها السادة.. رجاء.
صفق بيديه فإذ بهم يقفون أمامه على شكل قوس ومَن بالوراء يتطاولون حتى يتمكنوا من رؤيته. ضم كفيه في توتر.. تنهد.. استجمع أنفاسه ثم قال:
أنا حقا في غاية الأسف. لم أنتبه إلى أن إحدى اللوحات قد عُلقت بشكل مقلوب.
عادت الوجوه الورائية للاختباء.. شحبت الوجوه الأمامية.. ساد الصمت وقد بلغت القلوب الحناجر وغابت الأحداق في المحاجر.. انتابه ذات الفرح الطفولي لمرآهم. قرر أخيرا أن يرأف بهم قائلا:
لكن لا عليكم، لقد تم تدارك الأمر. شكرا لكم، وبقية فرجة ممتعة. شكرا.