صوت طرق الحديد ودخان يتصاعد أمام شباك الغرفة والسيارات المتراصة أشعلت الأرض حول البنايات المرتفعة بالألوان ، والجسد ممدد والغرفة باردة والأعين شاردة والأنفاس محبوسة والمجهول مرسوم على ملامح الجميع والسرير يئن من قسوة الألم .
فى الطابق الثالث من المستشفى تطل الغرفة على مساحة واسعة من أرض فضاء تربض على فراغاتها بقايا متناثرة لمنزل قديم يشبه القصر يقترب تصميمه من الطراز الانجليزى ، وتقف المستشفى بجوار الأرض الفضاء التى تفصلها عن الطريق الرئيسى كعلامة استفهام فى نهاية سؤال حائر حول الزمان والمكان والتضاريس وحول التاريخ والمستقبل والمصير .
فى الأرض الفضاء تدخل سيارات وتخرج ويجد أناس غرباء بغيتهم فى المنفعة العابرة ، رجل يأوى بسيارته الفارهة وآخر بالكارو وسيدة من الريف تستريح وعلى رأسها سبت أصفر فاقع مغطى بجلابية متهالكة ، ويدخل خلق كثيرون الى المستشفى ويخرجون على كل الأشكال والألوان ، والسؤال عالق فى الأفق يشتكى ضمن شكاواه تقصير المارة العابرين على هامش الأحداث فى ربط تاريخ الانسان ومصيره بتاريخ ومصير المكان .
السيارات التى تعاركت منذ برهة على أسبقية المرور فى الشارع الضيق المحازى للمستشفى من الجهة اليمنى تتصالح فى المساحة الواسعة بالأرض الفضاء ، وينقل الميكانيكى نشاط ورشته فى اصلاح سيارة أو سيارتين بجانب طلل باق من القصر العتيق والحداد حجز زاوية لفرنه أمام ورشته مباشرة ، ونشط صبيانه فى تجهيز الأعواد للطرق بالحرق وتليين الصلب بالنار .
اشتعل رأس الحداد شيباً وانحنى ظهره لكنه يحتفظ بقوته ونشاطه بثياب سوداء قديمة يبدو أنه لم يبدلها منذ سنين مضت ، بوجه صغير فى حجم قبضة اليد يضج بالمتناقضات بالقوة والضعف والطيبة والقسوة والوضوح والمكر والتسامح والعناد كحال المدينة الكالحة التى تتزين بالبهجة وداخلها مطلى بالسواد .
المستشفى تشاهد وتتابع بقامتها المرتفعة وتبتلع بشراً وتضخ آخرين ، وهو فوق سريره الحديدى الأبيض فى غرفته الباردة يبتلع الدواء فى صمت ويتقبل ما يصنعونه به فى استسلام أسطورى غامض ، ولا حديث عن معركته وحربه التى يخوضها ، انما تتحدث الصورة والحركات والنظرات والصمت الطويل .
الصمت يلعب دور البطولة فى ادارة الحوار الانسانى ، وقد تجمعوا حول بطلهم يتلمسون همسه ، يخرجون ويدخلون ، يشترون ويأكلون ويقصون الحكايات ، ينشطون حول السرير الحديدى الأبيض وينامون خلفه ، لا روائح محاليل ولا دم ولا دواء رغم وفرتها فى الغرفة على زاوية السرير اليسرى وفوق الكوميدينو الصغير الأبيض ، وحركة لا تمل ولا تهدأ للأطباء والممرضات ، وتطغى روائح الدعاء والذكر والتسابيح ويرتفع صوت الشيخ عبد الباسط مرتلاً من موبايل حديث وترتفع فى وهن يدا صاحب السرير الى السماء ، والصخب يطغى على الشارع وأصوات الباعة تتداخل وقد ضعفت ونحفت يد الحداد العجوز لكنها لا تزال قادرة على الصعود بالمطرقة والنزول بها ساحقة على رأس الأسياخ المحترقة .
ملتفون حوله يفتنه الصمت ويغويه ، لا يشاركهم الحديث والضحك ، مرسوم وجهه على لوحة الألم فى مجد لا تحظى به لوحات المشاهير متقمصين هول اللحظة وعظمة الحدث ، يتجاوب مع ملكوت خارج فضاء الغرفة الباردة الضيق ، فيما هم غارقون فى ملكوتهم ، يتحينون رؤية ابتسامته ويمنحها خلسة على غير موعد للأطفال .
راض عما يصنعونه ويدعو لهم فى وهن ويطلب رؤيتهم واحداً واحداً ، ويراوحون الوقوف أمامه ، يتبادل معهم الأمنيات ويشيح بوجهه وتسقط دموعه بسلاسة عند الحديث عن الذكريات أو ورود أفكار عن شكل المستقبل والمصير .
يحملونه بحذر وثبات وتصرخ أركان السرير فور تركه وحيداً وتستسلم الغرفة لمشاعر الغربة مع زائرين جدد ، وفى المسافة بين الغرفة والمصعد يعود ببصره الى الخلف من بين الأيدى المتشابكة ويردد بلسانه رقم الغرفة .
يسرعون به الى مكان السيارة ، ويحتوى تضاريس المكان بعينين خبيرتين ويحتفل بالأصوات والألوان ويتفكر ويميل برأسه وبصره يميناً وشمالاً والى أعلى ويشبك أصابع يديه ، ويدرس فى صمت وتأمل جغرافيا المنطقة ويبدى دهشته لواقع الأرض الفضاء .
يستقر فى سيارته ممدداً ويطلب التوقف أمام ورشة الحداد .
يسأل الحداد العجوز عن صاحب الأرض الفضاء .
كان صديقى وهو من تبرع بأرض المستشفى فى مرض موته .. يجيبه بعد نظرة تأمل سريعة وتنهيدة مكتومة .
ولماذا هذه الأرض هكذا بدون تعمير فى هذا الموقع النادر ؟
بين أبنائه خلافات .
أين هم ؟
لم أرهم منذ آخر مرة ، كانوا ملتفين حوله صامتاً فى غرفة واسعة كانت تطل على شارع المستشفى من غرف القصر .
أشار بيده شاكراً ومضت السيارة ، وسمعهم يتحدثون عن برنامج اليوم والأحداث ، فيمَ كان يردد بلسانه دون صوت رقم الغرفة .