كلما نظرت لعيني سلمى أبصرني ،وكلما أبصرتني تخفض نظرها كي لا يعلق وجهي بعينها ،لأنها ستسأل عنه إذ ما بحث والدها في عينها عن أشخاص تخبئهم هناك ..يفصل بين غرفتي وغرفة سلمى، جدار أحسه سيتهدم بين الحين والحين ،غير انه لا يفعل. عندما تصرخ اسمعها ،وعندما تتوجع اسمعها، وعندما تسأل أجيب بدلا عنها ،أخاف عليها كما كنت أخاف علي حين الغضب والسرور ،فصعب أن تعيش في منزل جدرانه آيلة للسقوط في كل حين ..تجبر سلمى على الحديث ،على الصمت ،على الابتسام ،على الدراسة ،على اللعب، فكل شيء بحياتها في كتاب مسطر بوقت معلوم، ولأنها تكره أن تكون كغيرها من الفتيات اللواتي وهبن نصف طفولتهن لآباء يجبرهن على الكبر في لمح البصر، فهي دوما في صراع بينها وبين والدها ووالدتها وأختها الصغرى..
في لحظات فرارها المتكررة من سجن والدها لها ،تقف عند سور حديقتنا المطلة على فراغ يجمعنا وهم ،تحاول أن تقفز على سور الحديقة قبل أن تطالها يد والدها أو والدتها ،غير أنها تسقط ،فتقوم من جديد وتحاول، وعند كل محاولة لها لمحو ذلك الفراغ الذي يفصل بيننا، تكبر مساحة البعد ،و عوضا أن أحاول مساعدتها كي تمحو ذلك الفراغ، أطلب منها الانصراف قبل أن يبصرها والدها، فيرسم على جسدها علامات ستذكرها أن تبتعد عن سور الحديقة لأيام عدة قبل أن تحاول مجددا العبور...
سألتني يوما ويدها على سور الحديقة
إن كنت بخير.
فأجبتها بنعم.
وسألتها عنها
أجابتني بخير ،وصمتت تم ضحكت وهي تقول بصوت مازح:
تعرفين أين اختفى ضرسي ؟
قلت لها بهمس:
أخذته الملائكة !!
أجابتني بصوت هامس، كي لا يصل صوتها لوالدتها :
نعم ،هو الآن في الجنة ،وتابعت القول هل تشبه الجنة حديقة منزلنا؟
أجبتها :
لا ،لن تشبه الجنة حديقة منزلنا ،فهي أجمل بكثير منها ،في الجنة لن تجدي سورا يفصل بيننا
قالت بصوت هامس :
كم أكره أن تكوني هناك وأنا هنا.
أجبتها بهمس :
وأنا أيضا أكره ذلك ،لكننا مازلنا نستطيع الحديث .
أرخت بصرها نحو الفراغ وهي تقول:
نعم ،لكننا لم نعد نلعب كما كنا ،لم اعد استطيع أن أقول لك صباح الخير دون أن أرقب إن كان يرقبني أحد.. وقبل أن تنهي كلامها نادتها والدتها بغضب كي تعود للبيت ففرت هاربة ،وكأن جيشا يطاردها ...
في لحظات الصمت المتخيل في عالمها ،ترسم عالما من قوس قزح، وتسكن اللون الأخضر فيه، قالت لي مرة أنها تكره اللون الأحمر، سألتها لماذا؟أجابتني بحزن :يخيفني عندما يقطر من جسدي..
عندما يصل صراخها إلي ،أتخيلها تسبح في قطرات من دماء، ويختفي قوس قزح من السماء، فتمطر دموعا تغرق البيت ،فأبكي وتبكي ويستمر الغرق...وعندما تصمت سلمى، لا أستطيع أن أصمت ،أتخيلها تعاند لأجل البقاء، أتخيل جسدها منهار على الأرض، تطلب السماح على ذنب ارتكبته في لحظة طفولة اجتاحتها فجأة،
كـ غناءها ليلا عند النوم بصوت مسموع ،أو لعبها الغمضية مع أطفال الحي ،أو الرقص على أنغام الموسيقى، أو عدم كتابتها لفرضها المنزلي أتناء العطلة الصيفية ،أو الخروج من منزلهم كي ترقب ذلك الفراغ الذي يفصل بيننا ...عندما تسترجع أنفاسها ،يصلني صوتها وهي تطلب السماح، فتدخل في صمت يدوم لأيام عدة، قبل أن تعاود الكلام من جديد، فيغتصب الصمت مجددا عالم الضجيج لديها إثر خطأ طفلة ارتكبته بدون قصد ...
عالم سلمى موجع، وبرغم الوجع فيه، فهي مازالت تبتسم ،مازالت تقاوم صمتها كي تتحدث بلا خوف ،ترقب المغيب وتغني بصوت هامس كي لا يصل صوتها لوالدها أو والدتها ،وعندما تتعب من الغناء تلعب الغميضة مع الدمى، تطلب من أختها أن تمارس طقوس طفولتها بلا خوف، غير أن أختها ترفض سماع كلامها،
لذلك تعيش وأختها في عالمين مختلفين، فضلت أختها الصمت ،وتعلم أسلوب حياة الكبار، فهي تنام بموعد، وتستيقظ بموعد، تأكل حين يطلب منها ذلك ،وتلعب عندما يوافق والدها على لعبها ،تعودت أن تفعل كل شيء عندما يسمح لها بفعله فأصبحت فارغة ...
حياة الأطفال موجعة، وحياة الكبار موجعة بالمثل، أن تكون صغيرا معناه أن تتخلى عن لحظات طفولتك، عن ذكريات سوف تطعمك حين تقنط منك وتحاصرك أمطار اليأس، وأن تكون كبيرا معناه أن تعلم الصغار كيف يكبرون في لمح بصر ..
وبين ان تكون صغيرا وان تكون كبيرا ،يوجد أشباه سلمى ،أطفال قلم الرصاص الذين يعيشون دوما بممحاة تمحي حياتهم، غير أنهم يعودون من جديد ليسطروا ملامحهم على أوراق دفتر سوف تذكر الجميع بهم، كما أذكر سلمى واذكرني من خلال سلمى..