العيد الأول .. بدون أبى
لا تجمعنى بأبى مسارات ودروب ومسالك فى مناهج الحياة وفلسفات التعاطى معها ، وفى الغالب كانت رؤانا السياسية على خلاف ، لكن تجمعنى به التفاصيل ، وكنت أرقبه فى صمت ولا أكثر الحديث لأحظى بالمزيد من رسم لوحات الحركة وردود الأفعال والجمل المنتقاة وأسلوب سيطرته فى الأحاديث والحوارات ونفوذه وحضوره الطاغى وضحكاته المجلجلة ونبرات صوته وبراعته فى التدرج الصوتى والأداء الحركى والمراوحة بين حركات اليدين وتعبيرات الوجه وتقطيباته وانبساطاته وبين ما يطرحه أثناء النقاش أو حتى المحادثة الهاتفية .
عالم التفاصيل عند أبى مليئ بكنوز وابداعات ، بصرف النظر عن موافقتى لأطروحاته أو أفكاره أو مواقفه الحياتية والسياسية من عدمه .
كنت – ولا زلت – حريصاً على القرب منه لأنى عاشق لتفاصيله ، ولشخصيته الثرية بتاريخها الاجتماعى والسياسى وتكوينها الثقافى بما لها وما عليها .
أحرص على رؤيته فى كامل أناقته ، وربما اعتراه الخجل فى بعض المرات لامعانى النظر اليه واطالته فى صمت ، وأحرص على رؤيته وسماعه أثناء لقائه بأصدقائه أو أحد منهم ، أو وهو يحادث أحدهم هاتفياً ، خاصة اذا كان حديثاً فى السياسة أو نقاشاً فى الرؤى والأفكار ، لدرجة أننى كونت عنه سياسياً وفكرياً ملفاً كاملاً محفوظاً فى ذهنى ترقباً للحظة لم ولن تأتى أبداً ، فقد حرصنا سوياً ألا نتوسع معاً فى هذا النقاش ولا أن نخوض فيه ، وكان بيننا اتفاق ضمنى صامت ، فقد كان يفهمنى جيداً وأفهمه أكثر مما يجب وهذا استدعى دبلوماسية متقنة ودقيقة للسير بالعلاقة بيننا الى بر الأمان ، مستمتعين بما فيها من بهجة وجمال ونضج وثراء غير محدود فى التفاصيل .
وأحرص على تتبع حركات جسده وطريقة مشيه ومشاغباته ولعبه الطريف مع الأطفال الصغار وطريقته فى تناول الطعام وارتشافه الشاى بعد العشاء ، ومشهده الأسطورى على الأريكة فى أوقات الاسترخاء ، وعلى متابعة كل ما يتعلق به وبتاريخه وحضوره المكانى والزمانى من تفاصيل ، وما لمست يداه ، والمساحات التى احتوته والفضاءات التى داعبت أنفاسه .
ولم أكن مغرماً بزراعة الأشجار والورود أمام البيت ، لكنى اليوم أسأل زوجتى هاتفياً وأنا فى سفر بعيد جداً أول ما أسألها : هل رويت الأشجار بالماء ! لأن أبى هو من زرعها وأحبها ، وفى أوراقها أرى تفاصيله وملامح وجهه وأناقته ويمتزج عطره فى أنفى بأريج أزهارها .
هذا هو العيد الأول لى بدون تفاصيل أبى ونظراته وضحكاته وزياراته وطلته الأنيقة وحضوره السينمائى الطاغى ولعبه مع الأولاد والبنات وتلطفه معهم .
المشهد بدون تفاصيل لا قيمة له ، والعيد بدون هذه الشخصية الرائعة بلا طعم ولا بهجة ، حتى أزهاره وأشجاره التى زرعها بيديه حزينة كسيرة ، لذلك اجتهدت بعد العبادة والذكر فى استقبال العيد باستدعاء التفاصيل ونحتها من جديد على تفاصيل المكان ، فى الحديقة وفى وقفته فى الشرفة بجوار أمى ، وفى الانصات لنبرات صوته التى تشبهها نبراتى ، وفى الاحتفاء بالصحف التى بها مقالاتى ، وفى أسلوب تناوله وقراءته للجريدة وفى غفواته أمام التلفاز وهو يتابع نشرات الأخبار ، وفى استيقاظه مبكراً متحمساً نشيطاً الى العمل حتى وهو مريض ، وفى خلواته فى زاوية غرفته يتلو القرآن ويقرأ الأذكار ، وفى فرحته بالأطفال وحلمه وصبره على استغلالهم لتضاريس جسده وساقيه وكرشه وتوظيفها كملاهى ومراجيح ، وفى رصانته وقوته ورجولته وصوته وصمته وسمته المليح .
أعشق هذه التفاصيل ولأننى أشبهها ، لدرجة أننى أعيشها بدقة فى كل نبرة وحركة ، فلم أشعر بفراق أبى لأنه معى بتفاصيله ، أتحرك حركاته وأحاول تقليد أناقته وأرتشف رشفاته وأسترخى بطريقته وأروى شجيراته وأسمع نبرات صوته فى صوتى .
مرَ نزار بتجربة مماثلة ، ووصف بمن قال له " مات أبوك " بالمضللين ، فهو – مثلى – لا يموت أبى ، ففى البيت منه روائح رب – بالذكر والتلاوة والقرآن ، وذكرى نبى ؛ لأنها لا تنسى ولا تكاد تنسى ، وكيف تنسى وأنا هو وهو أنا ؟
يعيش نزار فى التفاصيل ويحياها بتفاصيلها ؛ فهو حى يتنفس ، جريدته تقرأ ودخان سيجارته يتصاعد وفنجانه ونظارتاه .
ووجوده فى الحياة لا يحتاج لاجابة ودليل ، فكل شئ يدل عليه ويحكى عنه ويلعب بطولته ويتقمص شخصيته ويتشكل بملامحه ، فهو حاضر يتنفس ويضحك ويمشى ويشع نوره فى كل هذه التفاصيل .
نزار أيضاً يشبه أباه مثلى فى التفاصيل " حتى تهيأ للناس أني أبي..أشيلك حتى بنبرة صوتي فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟ "
سؤال أسأله وصوتى يتردد بنبرته وأنا واقف أمام شجيراته : فكيف ذهبت .. ولا زلت بى ؟
العيد لم يأت بدونه ، ولن يأتى أى شئ بدونه ، فهو حاضر فى انتظار الأشياء والمفاجآت وفى استقبالها ، واذا غاب قليلاً عن عيوننا فهو فى سفر أو رحلة سريعة وسيعود لأشيائه وأهله وناسه وأحفاده وتفاصيله وشجيراته .. " فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي .. "
ونحن على انتظار .
يقول نزار "
أمات أبوك ؟
ضلالٌ ! أنا لا يموت أبي.
ففي البيت منه
روائح ربٍ.. وذكرى نبي
هنا ركنه.. تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصنٍ صبي
جريدته. تبغه. متكاه
كأن أبي – بعد – لم يذهب
وصحن الرماد.. وفنجانه
على حاله.. بعد لم يشرب
ونظارتاه.. أيسلو الزجاج
عيوناً أشف من المغرب؟
بقاياه، في الحجرات الفساح
بقايا النور على الملعب
أجول الزوايا عليه، فحيث
أمر .. أمر على معشب
أشد يديه.. أميل عليه
أصلي على صدره المتعب
أبي.. لم يزل بيننا، والحديث
حديث الكؤوس على المشرب
يسامرنا.. فالدوالي الحبالى
توالد من ثغره الطيب..
أبي خبراً كان من جنةٍ
ومعنى من الأرحب الأرحب..
وعينا أبي.. ملجأٌ للنجوم
فهل يذكر الشرق عيني أبي؟
بذاكرة الصيف من والدي
كرومٌ، وذاكرة الكوكب..
*
أبي يا أبي .. إن تاريخ طيبٍ
وراءك يمشي، فلا تعتب..
على اسمك نمضي، فمن طيبٍ
شهي المجاني، إلى أطيب
حملتك في صحو عيني.. حتى
تهيأ للناس أني أبي..
أشيلك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟
*
إذا فلة الدار أعطت لدينا
ففي البيت ألف فمٍ مذهب
فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي ..