لقمة عيش وزوادة
مأمون أحمد مصطفي
وحين سقطت العيون على الجثة تعالى صراخ: \" هذا أبو إبراهيم، أبو إبراهيم استشهد، لا اله إلا الله محمد رسول الله \"، ومن فيه إلى فيه سرى الخبر في المخيم سريان الدم بالوريد حتى لاصق والتصق بأذني أم إبراهيم التي وقفت على عتبة البيت وأولادها يلتصقون بها، ويتشبثون بثوبها والدموع المتمحورة بالرعب تطفح في عيونهم.
ادخلوه بيته، بيته الذي غادره صباحا بعد ان جثا على الأرض ممسدا جباه الأطفال، مقبلا اكفهم الصغيرة، مالئا رئتيه من أنفاسهم الهادئة الوادعة، وسجوه وسط البيت، تدافع الجيران، أهل المخيم، امتلأت الأزقة وضجت، دعوات ودموع، شهقات حارقة، ذهول ودهشة، حزن، حزن قاتم داكن. وأم إبراهيم تقف مكانها وكأنها ماسورة، مأخوذة. في عينيها جمود صواني حائر، تائه،والأطفال لا زالوا يتشبثون بثوبها، يصرخون، يبكون، تنهمر الدموع من أعينهم كشلالات، وفي وسط هذه الرؤية لتلك العيون الصغيرة، في مركزها تستقر جثة والدهم المنخولة بالرصاص وفي يدها زوادة.
إكرام الشهيد دفنه، ودعوه، جاء صوت من بعيد، من بين الناس المتجمهرة والمحتشدة، الشباب جهزوا القبر في مقبرة الشهداء في ذنابه، الشيخ قادم، ودعوه، تناوب الحشد في الوداع، قبلات حارة، صادقة، تطبع على الجبهة والخدين، أدعية تتعالى رحمة على روحه، نساء ورجال وأطفال، عجائز ومسنون، توحدوا في الدعاء الصاعد للسماء. والأطفال يفتتهم الحزن، يمزقهم الأسى، يطحنهم منظر جسد والدهم المنخول، وأم إبراهيم تمد يديها لتلف الأطفال في قلبها.
وجاء الصوت من جديد، افتحوا الطريق لأطفاله وزوجته، وفتحت الطريق، انقسم الناس لصفين، وتقدمت أم إبراهيم وهي تدفع الأطفال أمامها، جثت قرب رأسه، وجثا الأطفال معها، لمست جبهته بحنان كبير، مد الأطفال أيديهم، تحسسوا الوجه، تحسسوا الجسد، ودوى صراخهم حين سقطوا فوق الجسد يتمرغون بدمائه ورائحة عرقه، طبعوا قبلاتهم على كل جسده، رووا جسده بدموعهم. بكى الرجال، تساقطت الدموع غزيرة، وتلاقت النظرات وتشابكت، عويل الأطفال جاء من كل زاوية، تفاقم الحزن واشتد، ولكن الرجال لم يكن أمامهم إلا خلع الأطفال عن الجسد وهم يربتون على أكتافهم. وجاء الصوت من جديد، ودعيه يا أم إبراهيم، رحمة الله عليه، ودعيه فإكرام الشهيد دفنه.
رفعت رأسها نظرت لأطفالها الذين كانوا يتفلتون من بين سواعد الرجال، نظرت للجثة، أحنت رأسها فسقطت الدموع مرة واحدة كمطر مفاجىء، قبلته، ضمت رأسه بين يديها، رفعته نحو صدرها وشهقت.
أنهضها الرجال، اقتربوا من الجثة، حاولوا نزع الزوادة من يده، لكن يده كانت تتمسك بها وكأنها حية، حاولوا مرارا، وحين عجزوا عن فتح يده فكروا بتمزيق الكيس. في هذه اللحظة بالذات ارتفع صوت أم إبراهيم: لا، لا تنزعوا الزوادة من يده، اتركوها تذهب معه للقبر، لقد مات دون ان يعرف ماذا أعددت له، لكنه الان حين يوضع في القبر ليصحو على الملكين، سيفتح الزوادة لتكون شاهدة على شهادته، وعندها سيعرف ماذا أعددت له.