صلاح المختار
لماذا يجب رفض المشاركة في الانتخابات؟
تزدادا لعبة الخداع والتضليل حدة وتسارعا في العراق مع اقتراب موعد ما اسماه الاحتلال (انتخابات)، وسط حملات اعلامية وتحركات سياسية داخلية وخارجية، هندست لأجل أنقاذ الاحتلال الامريكي في العراق من ورطته القاتلة، وإخراجه من مستنقع اخذ يخنقه ويستنزف قواه بسرعة. ان نظرة سريعة لما صدر من تصريحات عن الادارة الامريكية وجنرالات الجيش الامريكي والخبراء والكتاب والصحفيين في امريكا، وغيرها، يؤكد بما لا يقبل الشك ان امريكا تنهار في العراق، وان المقاومة تقترب من النصر الحاسم بسرعة، بفضل تفوقها القتالي المطلق وتدميرها لكل خيارات الاحتلال وايران (لمعرفة حجم وطبيعة الانهيار الامريكي انظر موضوعنا المعنون- واخيرا أبتدأ الهروب الكبير- المنشور في عدة مواقع ومنها البصرة والتجديد العربي ودورية العراق). لذلك لجأت أمريكا الى لعبة الانتخابات كمحاولة اخيرة لانقاذ الاحتلال عبر شق الصف الوطني المناهض للاحتلال، والوصول من خلاله لشق المقاومة المسلحة، وهو ما تظن انه كفيل بتغيير مجرى الصراع في العراق لصالحها.
ان السؤال الحاسم في هذه الايام هو التالي: هل حقا ان الانتخابات يمكن ان تكون وسيلة لاخراج الاحتلال من العراق، كما يقول من تعوزهم الخبرة اذا افترضنا حسن النية، وتقريب ذلك الهدف؟ والجواب الحاسم، والذي قدمته واكدته احداث السنتين ونصف الماضية، هو كلا، فالانتخابات ما هي الا محاولة لانقاذ الاحتلال من ورطته ومحاولة الالتفاف حول المقاومة المسلحة بطرق تضليلية، وخداع الراي العام العالمي الذي اخذ يكتشف حقيقة ما يجري في العراق، وبالاخص تيقنه من ان المقاومة المسلحة تنتصر والاحتلال يتداعي، وان ايامه اصبحت معدودة، لذلك بدأت اوساط كانت ضد المقاومة تنفتح عليها، وتقترب من طروحاتها وتزداد رفضا للاحتلال. ولكي لا يتحول الموضوع الى جدل بيزنطي سنبين الاسباب الرئيسية التي تجعلنا واثقين من ان الانتخابات ما هي الا حبل انقاذ للاحتلال ومحاولة لادامة وجوده والتغلب على التحديات القاتلة التي صنعتها انتصارات المقاومة العراقية. ما هي هذه الاسباب؟
الغاء الشرعية العراقية:
من الغريب جدا ان نلاحظ ان بعض من يقولون انهم ضد الاحتلال يتخذون موقفا يدعم اصل خطته وجوهرها، وهو تاييد احتلاله بقبول طي صفحة الشرعية العراقية التي مثلها النظام الوطني، الذي نزل تحت الارض وشرع بالمقاومة المسلحة منذ احتلت القوات الامريكية بغداد، والتعامل مع الوضع العراقي وكأن الاحتلال طبيعي وان الدولة العراقية قد انتهت وان المطلوب بناء دولة جديدة في ظل الاحتلال وفي اطار خطته! فالعراق كان عضوا مؤسسا للامم المتحدة وحكومته كانت معترفا بها عربيا وعالميا، واصدر العالم بغالبيته الساحقة قرارا واضحا وهو ان امريكا وبريطانيا تريدان احتلال بلد مستقل فيه حكومة شرعية معترف بها من قبل الجميع، بما في ذلك حكومتي امريكا وبريطانيا. ومن اجل هذه الحقائق خرج اكثر من خمسين مليون انسان في العالم في يوم واحد في نهاية عام 2002 ليعربوا عن رفضهم لخطة غزو العراق ويدعون الى احترام الشرعية الدولية.
وهنا يجب ان نميز بوضوح تام بين تأييد ودعم العالم لشرعية الحكومة الوطنية العراقية التي هاجمها الاحتلال، وبين الاتفاق معها حول مجموعة من القضايا الداخلية والخارجية، فلئن كان الجميع تقريبا ضد الاحتلال فان الكثيرين منهم لم يكونوا على اتفاق مع حكومة العراق الوطنية لاسباب مختلفة. وهذا امر طبيعي جدا وشهدته كل ازمات العالم، بما فيها الثورة الفيتنامية والتي ايدها العالم رغم رفض الكثيرين لافكار وسياسات الحزب الشيوعي الفيتنامي. فالتاييد هو للشرعية وليس لحكومة ما، وهو رفض لسياسات الهيمنة والتجاوز على القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة، اللذان قاما اساسا على مبدأ السيادة، والذي يعني تحديدا رفض وادانة احتلال دولة ما وتدمير حكومتها المعترف بها.
اذن فان من بديهيات وتقاليد التعامل الدولي النزيه بديهية رفض ليس الاحتلال فقط بل رفض التعرض للحكومة التي كان العالم يعترف بها، وكانت تمثل البلد في الامم المتحدة والمنظمات الاقليمية، وابقاء العلاقات معها بصفتها الممثل الشرعي لشعب الدولة التي احتلت. وحينما ينشأ الاحتلال ويقع ويصبح امرا واقعا، تزول شرعية الحكومة في حالة واحدة وهي انعدام مقاومتها هي واجهزتها الاساسية كالجيش والامن والمنظمات الحزبية والنقابية، واستقرار الوضع، الامر الذي يفرض البحث عن بديل والعمل على اضفاء صفة الشرعية عليه. اما اذا نشأت مقاومة مسلحة ورفض جماهيري للاحتلال، وكان الشعب يقف مع المقاومة، فان شرعية الحكومة والدولة تبقى قائمة وتصبح ممثلة بمقاومتها المسلحة تلقائيا. فهل الوضع في العراق المحتل يشهد استقرار الاوضاع وانعدام المقاومة المسلحة؟
بسبب ادراك قيادة الدولة العراقية الشرعية لحقيقة انها تتصدى لقوة اعظم منها ولا تستطيع الصمود عسكريا بوجهها الا لفترة محددة، لجأت الى اعداد المجتمع لخوض مقاومة مسلحة وفقا لمبادئ حرب العصابات، الامر الذي يتطلب اختفاءها ونزول كوادرها تحت الارض لخوض قتال طويل الامد من اجل استنزاف العدو واجباره على الوصول الى نتيجة واضحة، وهي ان مكاسبه اقل بكثير من خسائره، ويترتب على ذلك اتخاذه قرارا بالانسحاب لتجنب الانهيار او التعرض لخسارة جسيمة لم يكن يريدها قبل الغزو،لان الغزو بالاصل خطط له كي يكون مصدر ارباح ونهب.
لكن من المؤسف ملاحظة ان البعض ولاسباب غير موضوعية ولا عقلانية وجد في نزول اجهزة الدولة الشرعية تحت الارض فرصة استغلها لتصفية خلافات او محاولة تحقيق مكاسب انانية لا تفسير لها سوى قبول اهم ماقام به الاحتلال: تدمير الدولة وحكومتها الوطنية، والبناء عليه والعمل في اطار خطة الاحتلال لانشاء دولة جديدة تكون على قد مقاسات الاحتلال ومصالحه. ان تخلي البعض عن شرعية الدولة العراقية وحكومتها الوطنية شكل خدمة مباشرة للاحتلال، وتماه تام معه في اول اهدافه: الغاء الدولة واسقاط الحكومة الوطنية. فهل تقبل معايير الوطنية والنزاهة واحترام القانون ذلك؟ والى اين سيؤدي هذا النهج الغريب؟
ان اول اسباب مقاومة الاحتلال كان يجب ان تكون رفض تغيير الوضع القانوني للعراق، وهذا ما تنص عليه القوانين الدولية كما سنلاحظ، ودعم الحكومة الوطنية في سعيها لطرد الاحتلال، مهما كانت الخلافات الداخلية حادة وقوية. وتزداد هذه الضرورة اذا اعلنت الحكومة الشرعية انها ستعمل من اجل صيغة اخرى بعد التحرير تتميز بمشاركة الجميع في الحكم وفقا لقواعد النظام الديمقراطي، عندها تسقط كل الحجج التي قد تستخدم لعدم دعم الحكومة الشرعية.
هل يمكن اجراء انتخابات في ظل الاحتلال؟
من بين اهم قواعد القانون الدولي قاعدة عدم تغيير الاحتلال لقوانين وانظمة الدولة المحتلة، تنص اتفاقية لاهاي لعام 1907 المتعلقه بقوانين الحرب البريه وفي القسم الثالث على ما يلي:
المادة 42 تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها.
المادة 43 إذا انتقلت سلطة القوة الشرعية بصورة فعلية إلى يد قوة الاحتلال، يتعين على هذه الأخيرة، قدر الإمكان، تحقيق الأمن والنظام العام وضمانه، مع احترام القوانين السارية في البلاد، إلا في حالات الضرورة القصوى التي تحول دون ذلك.
تنص الإتفاقيه صراحة على أن قوات ألأحتلال عليها إحترام القوانين الساريه وليس إلغائها وإصدار قوانين جديده، كما تراعي ألأتفاقيه أن قوات ألأحتلال تعتبر مسؤولا إداريا ليس له حق الأمتلاك أو تغيير القوانين.
المادة 55 لا تعتبر دولة الاحتلال نفسها سوى مسئول إداري ومنتفع من المؤسسات والمباني العمومية والغابات والأراضي الزراعية التي تملكها الدولة المعادية والتي توجد في البلد الواقع تحت الاحتلال. وينبغي عليها صيانة باطن هذه الممتلكات وإدارتها وفقاً لقواعد الانتفاع.
المادة 56 يجب معاملة ممتلكات البلديات وممتلكات المؤسسات المخصصة للعبادة والأعمال الخيرية والتربوية، والمؤسسات الفنية والعلمية، كممتلكات خاصة، حتى عندما تكون ملكاً للدولة.
يحظر كل حجز أو تدمير أو إتلاف عمدي لمثل هذه المؤسسات، والآثار التاريخية والفنية والعلمية، وتتخذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي هذه الأعمال.
ما معنى هذه النصوص؟ انها تعني امرا واحدا لا غير وهو ان سلطات الاحتلال لا يحق لها اجراء انتخابات في البلد المحتل، بل ادارته وفقا لقوانينه وعدم اجراء تغييرات جوهرية في الدولة والمجتمع. ويترتب على ذلك ان اجراء انتخابات في العراق وهو تحت الاحتلال غير منسجم مع القانون الدولي، ويشكل نقضا له. هل نحتاج لشاهد منحاز لامريكا لاثبات هذه الحقيقة؟ نعم، لقد قالها صريحة واضحة، الرئيس الامريكي جورج بوش، حينما كان مفروضا اجراء الانتخابات في لبنان، في ظل الوجود السوري فيه، (لا يمكن اجراء انتخابات حرة في ظل الاحتلال السوري، وعلى سوريا ان تخرج قبل اجرائها)! بوش قال هذا مع ان الوجود السوري في لبنان، كما هو معروف، تم بناء على طلب الحكومة اللبنانية الشرعية. الا ينطبق ذلك اكثر واكثر على العراق المحتل طبقا لما اعترفت به امريكا والامم المتحدة؟
الانتخابات تجري وفق قوانين الاحتلال:
قام الاحتلال منذ يومه الاول بتفكيك الدولة العراقية والغاء الجيش والاجهزة الامنية وحل الوزارات ....الخ، ثم اصدر قوانين لفرض سيطرته على العراق، ومن بينها قانون اسماه (قانون ادارة الدولة) وقانون اخر حدد فيه اسس دستور جديد مناقض تماما للدستور الشرعي للعراق، وضع أسسه الصهيوني الامريكي نوح فيلدمان، وفرضت ادارة الاحتلال مضامينه على من ناقش مسودة الدستورواقرها فرضا، لان المطلوب هو الاعداد لتقسيم العراق من خلال قاعدة الفدرالية، وهي في الواقع كونفدرالية، كما تؤكد النصوص التي تضمنها الدستور، وليس فدرالية.
اذن هناك مجموعة ضوابط صارمة تحدد مسار العراق في ظل الاحتلال ودستور الاحتلال، ولا يمكن لاي كان من الذين انخرطوا، او سينخرطون في العملية السياسية، تغيير التوجه العام نحو تفكيك العراق تدريجيا، مما يجعل المساهمة في الانتخابات دعم للتوجه الامريكي- الصهيوني لتقسيم العراق، ما دامت تجري وفق قوانين بريمر ودستور نوح فيلدمان، من جهة، ولانها تستبطن هدفا خطيرا وهو اضفاء الشرعية على الاحتلال وعلى الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات كي تنفذ اهداف الاحتلال من جهة ثانية. وبما ان الاحتلال غير شرعي، وهو لذلك لايحق له اصدار قوانين او تبني دستور كما تنص اتفاقية لاهاي المشار اليها، فان اجراء الانتخابات في ظله هو الاخر، وبالتبعية ، غير شرعي وغير ملائم للوصول الى حالة شرعية وتخدم البلد المحتل.
الأشراف المنحاز:
وحتى لو افترضنا ان الانتخابات تجري في ظل اوضاع طبيعية وبدون وجود الاحتلال، فان ثمة قاعدة يجب الاعتماد عليها في إجراءه، وهي أشراف سلطة محايدة وقانونية، كالمراقبين والقضاة، فهل توفر ذلك في العراق؟ الجواب هو كلا لان من سيشرف على الانتخابات جهة أنشأها الحاكم الاستعماري الامريكي بول بريمير واطلق عليها اسم (المفوضية العليا للانتخابات)، وضمت اشخاص من عملاء الاحتلال بشكل خالص، وهي ليست تابعة للامم المتحدة، كما قد يوحي اسمها. والسؤال هنا هو: من سيضمن نزاهة الانتخابات اذا كانت تجري باشراف من لهم مصلحة في فوز عملاء الاحتلال والقوى الانفصالية والتقسيمية؟ ان تجربتي انتخابات مطلع هذا العام والاستفتاء الذي جرى مؤخرا تثبتان بما لا يدع مجالا للشك بان الانتخابات القادمة ستزور كما زورت الانتخابات والاستفتاء، نتيجة للغياب التام للاشراف المحايد والقانوني على العملية. ان المثل العراقي الذي يقول (حاميها حراميها) ينطبق على المفوضية بدقة.
تأثيرات الاحتلال
لم تكن صدفة او اجتهاد شخص تحريم اجراء انتخابات في ظل الاحتلال، وفقا لقوانين دولية صارمة ومعروفة صاغها الغرب وأخصائييه، بل هي نتاج خبرة الانسانية منذ الاف السنين، والتي اسست لقاعدة بداهة تقول ان المحتل لا يسمح باي شكل من الاشكال بحرمانه من الاستفادة من نتائج احتلاله، بأي وسيلة ومنها اجراء انتخابات حرة تؤدي إلى طرده بوسائل ديمقراطية، بعد ان سفح الدم وبذل المال وتعرض لمشاكل كبيرة. وطبقا لهذه الحقيقة التاريخية والقانونية استبعدت تماما فرضية انهاء الاحتلال عبر الانتخابات الحرة، خصوصا حينما يكون الاحتلال يمثل قوة كبرى تملك القدرة على رفض القرارات او الضغوط الدولية، ومن ثم استبعاد وجود أشراف دولي على الانتخابات، الأمر الذي يجعلها وسيلة من وسائل تعزيز سيطرة الاحتلال وإضفاء نوع من الشرعية عليها.
ان الاحتلال يقوم اول ما يحدث باعادة ترتيب اوضاع البلد المحتل لتصبح خادمة له ومساعدة على تنفيذ اهدافه المعلنة او الخفية. وهذه هي اول سمة معروفة لاي احتلال. ومن بين الخطوات التي يقوم بها الاحتلال تنظيم حملات دعائية لاجل اعادة تشكيل وعي شريحة قد تكون مهمة من الناس، وجعلها مؤهلة للتعامل الايجابي معه وتقبل بخططه، من جهة، كما انه يبدأ بتنفيذ خطة شيطنة حكومة الدولة التي تم احتلالها، بوسائل مختلفة تتقرر تبعا لمشاكل وظروف البلد المحتل، من جهة ثانية .ان ما حدث ويحدث في العراق لا يخرج عن قاعدة البداهة هذه، فلقد قام الاحتلال بعد حصوله بتصعيد حملات الشيطنة للنظام الوطني ورموزه وسياساته، والتي ابتدأت سنوات طويلة قبل الاحتلال، مثل ترويج قصص المقابر الجماعية ومجزرة حلبجة وغيرها من القصص، التي كشفت الوقائع انها كانت مسيسة ومشوهة هدفها القاء المسؤولية على البعث ونظامه الوطني لاجل اقناع شريحة من الناس بان الاحتلال جاء لانقاذهم، وتبرئة من قام بها في الواقع!
واقترنت هذه الحملة الدعائية بحرمان الطرف الوطني، الذي وجهت اليه الاتهامات، من حق الرد والدفاع، بتغييب صوته وتعريضه لحملة ابادة جسدية واضطهاد سياسي، وفقا لقانون اصدره الاحتلال اطلق عليه تسمية فاشية ابادية لم يشهدها أي احتلال في العصور الحديثة، وهي (قانون اجتثاث البعث)! كما ان الاحتلال تعمد تدمير وحل الدولة العراقية ونشر الفقر والجريمة المنظمة والقضاء على اغلب فرص العمل، فنشأ وضع صعب جدا اصبح فيه العيش تحديا خطيرا، مما اعاد الفساد بكافة اشكاله الى العراق، وسمح بل وشجع على اعتماد معايير الرشوة ودفع المال لمن يؤيد الاحتلال وعملاء الاحتلال. ان الفقر هو المصدر الاساس للمفاسد والانحرافات الجوهرية، ومن بينها بيع الضمير واللصوصية، لذلك لا مجال للشك ابدا في ان الاحتلال الامريكي للعراق تعمد نشر الفقر المدقع ومنع تحسين الاحوال المعيشية للناس لاجل ضمان العثور على من تضطره اوضاعه للعمل في خدمة الاحتلال. فهل يمكن القول بان ظروف الاحتلال وتأثيراته تسمح باجراء انتخابات حرة ونزيهة؟
انتخابات تأسيسية وليست عادية
يعترف الاحتلال والاحزاب التي استوردها من الخارج بان الانتخابات مصممة لصنع عراق جديد مختلف عن العراق السابق للاحتلال، بتعبير اخر ان المطلوب هو تأسيس عراق جديد! واستنادا الى هذا المطلب الامريكي فان الانتخابات ولكي تعبر عن راي الشعب العراقي يجب ان تضمن مشاركة الاغلبية الساحقة من الشعب كي يكتسب الوضع المترتب عليها الشرعية التمثيلية المطلوبة، والتي تعني، اول ما تعني، ان العراق الجديد يجب ان يمثل كل الشرائح الاساسية في العراق وان لا يتم اقصاء فئة ما، صغيرة كانت ام كبيرة، لان الاستقرار الدائم والعدالة تفرضان ارضاء المكونات الاساسية للشعب وليس ارضاء اقلية او اغلبية. هذا هو السبب الذي يجعل من الانتخابات التأسيسية مختلفة تماما عن الانتخابات العادية خصوصا في نقطة جوهرية وهي ان التوافق والاجماع بالتراضي على الصيغ الدستورية الجديدة يجب ان يكونا القاعدة الاساسية للعمل تحت ظل الوضع الجديد، وليس معايير الاغلبية والاقلية التي تتحكم في الانتخابات العادية.
هل حصل ذلك في العراق المحتل؟ الجواب هو كلا لان الانتخابات السابقة والاستفتاء والانتخابات التي ستجري تمت وستتم في ظل اقصاء اغلبية الشعب العراقي المعارض للاحتلال، والذي يتعرض لحملات ابادة جماعية للسكان وتطهير عرقي (في الشمال) وطائفي (في الجنوب)، وتهجير مئات الالاف من السكان واعتقال عشرات الالاف واغتيال الشخصيات البارزة. وهذه الحقيقة ليست اتهاما نوجهه نحن بل ان الاحتلال يعترف بها ويقول انه يقوم (بتطهير المدن من المتمردين قبل اجراء الانتخابات)! وهذه الحملات الاجتثاثية والتدميرية تطال بالاساس معارضي ورافضي الاحتلال، وهم لكثرتهم وكونهم يمثلون الاغلبية الساحقة من الشعب العراقي ،عجزت قوات الاحتلال عن قهرهم واعترفت ان جيوشها قد فشلت في القضاء عليهم ، ولو كانوا اقلية لامكن القضاء عليهم بقوة امريكا الفائقة.
اذن نحن بأزاء انتخابات تشمل جزء صغيرا من الشعب العراقي، بل حتى لو افترضنا لاغراض النقاش ان من يشارك في الانتخابات يمثلون شريحة كبرى، فان الوظيفة الاساسية للانتخابات، كما يعلن الاحتلال، وهي بناء (عراق جديد) تلزم بالعمل الجاد كي تتم بمشاركة كل فئات الشعب العراقي وليس غالبيته، طبقا لمبدأ التوافق الوطني العام. ان الانتخابات والدستور يراد لهما ان يحكما العراق لاجيال عديدة وهذا الهدف يتطلب ان يوافق العراق بكافة اطيافه عليهما، وان تسقط الفكرة الزائفة عن وجود اقلية واغلبية. من هنا فان نتائج الانتخابات المقررة سلفا مرفوضة حتى لو تمت في اجواء طبيعية (أي بدون وجود الاحتلال) لانها ان صلحت لاجراء انتخابات عادية فانها لاتصلح ابدا لانتخابات تاسيسية.
الانتخابات تجري في اجواء الحرب الشاملة
لم يشهد تأريخ الشعوب اجراء انتخابات في ظل الحرب، لسبب بسيط هو ان الحرب تتحكم فيها قوانين الحرب وليس قوانين السلم، في حين ان الانتخابات تتحكم فيها قوانين السلم، المعتمدة على العدالة القانونية وطلب الاثباتات الدامغة قبل الحكم وامكانية استئناف الحكم. ما معنى ذلك؟ وماهي نتائجه العملية؟ ان من يقرأ تاريخ الحروب والممارسات الديمقراطية يعرف بسهولة تامة ان قوانين الحرب لا يمكن، ولا يجوز ان تطبق في ظلها قوانين تسهم في تقرير مصير البلد تنتمي لفترة السلم، لان الحرب تعني الاحكام العرفية واعتماد اساليب تخدم هدف الحرب، ولذلك فان القوانين العادية تعلق اثناء الحرب، وتنشأ محاكم ميدانية سريعة تقوم على قوانين عسكرية تخدم اهداف الحرب وليس تحقيق العدالة القانونية، ومنها اعدام من يثبت تعامله مع العدو دون استئناف وتنفيذ الحكم فورا، وهذا امر لا تقبله قوانين السلم.
في حالة العراق لا يوجد انسان الا ويعرف، ويعترف أيضا، بان هناك حربا شرسة تدور بين قوات الاحتلال الاستعماري وطليعة الشعب العراقي البطلة وهي المقاومة المسلحة العراقية، منذ الايام الاولى للغزو، وفي مقدمة المعترفين بوجود الحرب الرئيس الامريكي ومساعديه، ابتداء برامزفيلد وزير الحرب وانتهاء بكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، مرورا بالكونغرس الامريكي والاعلام، كل هؤلاء يعترفون بان امريكا تواجه اخطر تحد لها في تاريخها كله. ولعل أن ادق وصف لحالة امريكا في العراق هو الذي ورد في مقال عنوانه (الكارثة الستراتيجية الاعظم في التاريخ الامريكي) The Greatest Strategic Disaster in American History للكاتب الامريكي مارك وتني (اورك نيت انفو 27 . 11 . 2005)، وترجمته ونشرته شبكة البصرة، اكد ان غزو العراق هو الكارثة الستراتيجية الاعظم في كل التاريخ الامريكي، وهذا اعتراف صريح بان حرب العراق اخطر واهم بكثير من حرب فيتنام. هل بالغ؟ كلا فلقد سبقه هنري كيسنجر، اعظم المخططين الستراتيجيين الامريكيين المعاصرين، حينما حذر من ان انسحابا متسرعا للقوات الامريكية من العراق قد يؤدي الي كارثة سياسية وعسكرية (طبقا لوكالة اف ب 29 . 11 . 2005)، واوضح كيسنجر الذي كان وزيرا للخارجية في ادارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ان الانسحاب من العراق قد يؤدي الي كارثة، وقال في مقابلة مع محطة سي ان ان التلفزيونية يجب ان نتذكر دائما هدفنا فاذا تركنا العراق في ظل ظروف قد تؤدي الي قيام حكومة راديكالية فيه ،او ان يتحول جزء من هذا البلد الي ملاذ للارهاب، سيتحول الوضع الي كارثة ستؤثر علي العالم باسره. واضاف ان الطبيعة العالمية للارهاب تجعل من الصعب تحديد استراتيجية لانسحاب القوات الامريكية من العراق. كيسنجر هنا يعترف صراحة بان الاطروحة الرئيسية التي تسود اوساط صناع القرار الامريكي ومساعديهم هي الانسحاب وكيف ومتى، وليس الانتصار.
اذن الحرب الدائرة في العراق جعلت امريكا تواجه الكارثة الستراتيجية الاعظم في تاريخها، ومن ثم فان حرب العراق اخطر واشرس من حرب فيتنام، فهل يجوز لاي عاقل ومنصف ان يتوقع اجراء انتخابات حرة في العراق مع ان قوانين الحرب هي السائدة، والتي جعلت امريكا تتخلى عن قوانين السلم وتخالفها وتنقض الدستور الامريكي الذي يحظر التعذيب والاعتقال والقتل العشوائي وتخرق كل قوانين الحرب ايضا؟ ان مدنا عراقية تباد وتدمر مثل الفلوجة وتلعفر، ومدنا اخرى تدمر اجزاء اساسية منها، مثل القائم والرمادي وهيت وراوة والكرابلة وبعقوبة والنجف الاشرف وحديثة وغيرها، وعشرات الالاف من السكان يهجرون بالقوة ويوضعون في خيم لاجئين في بلدهم. فكيف يمكن اجراء انتخابات في ظل الابادة الوحشية وتهجير السكان واغتصاب النساء وقتل الناس عشوائيا واعتقال عشرات الالاف، والتي تشكل تجاوزا حتى على قوانين الحرب التي تحمي المدنيين وتتعامل مع المقاتلين وفقا لاتفاقيات الحروب المثبتة في القانون الدولي؟
ان حالة العراق اقسى واخطر من حالة الحرب العادية بكثير، من حيث خرق كل القوانين وقواعد التعامل من قبل الاحتلال، لذلك لن يكون منطقيا وعمليا اجراء انتخابات حرة في ظلها.
غياب الامن:
ان ما سبق تثبيته يقود الى نتيجة حتمية: غياب الامن، وهي حالة تجعل من المستحيل اجراء انتخابات حرة وحقيقية، لان امن المواطن مفقود وحياته معرضة للخطر لدرجة ان المواطن العراقي حينما يخرج للعمل او التسوق، او لاي غرض، يردد الشهادة قبل الخروج لانه يتوقع ان يقتل في أي لحظة. واذا درسنا الحالات الطبيعية لاجراء انتخابات في بلدان الديمقراطية الغربية وغيرها وجدنا ان أي اخلال بالامن يؤدي الى تأجيل او الغاء الانتخابات لحين توفره وضمان سلامة المواطنين. ومع ذلك يصر الاحتلال الامريكي في العراق على اجراء انتخابات لن توفر الحد الادنى من الامن لمن يريد المشاركة فيها.