صمتٌ مطبق يسود أرجاء المدرسة لا يقطعه الا سعال الأستاذ محسن ..وصوت الاستاذ منصور وهو يتوعد الطلاب المتسيبين بالويل والثبور بينما يجول بين الصفوف في طابور الصباح..
لم يمضِ على قدوم الاستاذ منصور ناظر مدرستنا الجديد أكثر من ستة شهور..لم نكن نتوقع كطلبة أنْ يكتب لمهمته في ادارة المدرسة النجاحَ الكبير بعد حالات من التسيب السلوكي شهدتها مدرستنا الثانوية خلال العامين المنصرمين ، وهي المدرسة العريقة التي كانت متقدمةً فيما مضى على سواها من المدارس كنسبة نجاحٍ وتفوّق في الامتحان الوزاري.
الناظرُ الجديد في العقد الخامس من عمره، انيقٌ من غير ابتذال ، تعلو جبهتهُ حمرةٌ خفيفةٌ رسمتْ عليها التجاعيدُ خطوطاً غائرة ..حاجباه عريضان ، ومن تحتهما عينان حادّتان ،اذا دارَ بهما أرجاء المدرسة ارتسمتْ بين الأجواء دائرةٌ من الترقب والرهبة .. يتحرك مركز الدائرة مع تجوال الناظر الذي لا يكلّ في حركته .. يرتدي بذلةً سوداء ورماديةً أحياناً وربطةَ عنقٍ زاهية اللون .. متزنُ الخطوات ،جهوريّ.. لا يحتاج صوته لمكبر اذا توجّه للطلبة بالخطاب الذي كانت تسوده نبرة حزم ٍ ممزوجةٌ بالغضب ... بينما ترهف لكلماته ستمائة أذن .. وتتعلّق به من الأعين مثلُها ..بلْ أقلّ منها بواحدة بعدما فقدَ طالبٌ احدى عينيه في مشاجرة ضمّت العشرات ..
- لن أسمحَ هنا بايّ تجاوز.. ستغلقُ ابوابُ المدرسة أمامَ من يتأخر عن الطابور اكثر من خمس دقائق.. ومن لا يهتم بالحضور في الوقت المحدد فليسعهُ بيته..قلت لكم أكثر من مرة أنّ أيّ هاتف متحركٍ يضبط،.. يُصادَرُ من صاحبهِ فورًا ..
..ولن أسمح ابداً بايّ حديث اثناء طابور الصباح حتى الهمس ممنوع..فهمتم؟!
- أنت!! تقدم .. وأشار الينا حتى احتل الخوفُ بيننا دائرةً طالت العشرات ، كنت من بينهم..لكنني تنفست الصعداء عندما أردف :
- أنت ! يا ذا الشعر الأشقر ..
صفعتان رسمتا على وجه الطالب أصابعَ حمراء ..يعودُ بعدها الى الطابور مترنحاً تكادُ الدموعُ تفرّ من عينيه..بينما سادَ صمتٌ وترقبٌ ساحة المدرسة..
كثيرٌ من الطلبة كانوا يتناجونَ بالنيلِ منه .. كنتُ أنكرُ عليه غلظته، الا انني أكبرتُ فيه حرصهُ على الانتظام والضبط حتى لمستُ الفرق والتغيير كأنه شاهدٌ يتحدّث الينا .. رأيت في شخص الناظر خبرة السنين تحكيها كلماته وأفعاله..كنتُ أخفي اعجابي بشخصه خشية من حنق زملائي ! كانت أسوار المدرسة تتراءى لي وهي تتبادلُ مع جدرانها الحجرية القديمة وأشجارها الباسقة ابتساماتِ سعادة ورضىً..
بعيداً عن الانتظام وطابور الصباح ..فقد نظّم الناظرُ الجديدُ دروساً للتقوية .. بينما عقد للطلبة المتفوقين برامج خاصة لتطويرهم ..
" وليد" وهو احد زملائنا في لجنةِ الخطّ العربي .. جاءنا ببشرى كنا نتنافس عليها ، أخيراً لمحَ السيد الناظر وهو يضحك بينما كان في الطابق الأرضي برفقة الاستاذ محسن مشرف اللجنة.. حاول وليد أن يثبتَ زعمه بدليل أنّ أحد أسنان الناظر مكسيّة بالذهب، لم نصدقْ حينها ما قالهُ وليد .. فهو مغرمٌ بالروايات الكلاسيكية ومدمنٌ على نشرات الأخبار ، وربما اختلط عليه الامر وشطحتْ به الاوهامُ والرؤى !
نحن على بعد اسبوع من زيارة معالي الوزير والترتيبات على قدمٍ وساق ..أعمالُ تنظيفٍ غير مسبوقة ..تفتيش دوري على الطلاب..اسوار المدرسة تمّت صباغتها ، الاستاذ محسن وبالاستعانة بلجنة الخطّ قام باعمال تزيين الجدران بعبارات الترحيب والشعارات الممجدة للعلم والمرحّبة بمعاليه..
يوم الزيارة كان مشهودًا وناجحاً بكلّ المقاييس ، لم تستغرق زيارة معاليه اكثر من ساعتين .. لم يـُثرْ فضولنا الا ضحكةُ السيد الناظر التي اسفرت عن سنّه الذهبي ..بينما يواكب خطوات معالي الوزير ويحيب باهتمام عن كل اسئلته.. حينها اختال علينا "وليد" وقد ثبتتْ مقولته في السيد الناظر .
بعد تلك الزيارة لم نعد نرى السيد الناظر كثيراً .. باستثناء مرة شاهدناه فيها وقد تحلّق حوله مجموعةٌ من المدرسين وكانت تبدو عليه علامات الامتعاض..
الآن، وقد انقضى اسبوعان على تلك الزيارة ، اختفى الأستاذ منصور عن المشهد..سرّب الينا الاستاذ محسن انّ هناك ناظرًا جديداً للمدرسة لكنه الآن قابعٌ في مكتبه يعكفُ على خطة تطويرٍ شاملة ..أما الأستاذ منصور فقد تمت ترقيته..!