الصدأ
يعدل ملابسه أمام الباب الفخم المغلق ويضبط ربطة عنقه موديل الستينات ويطمئن باصبعيه على حال شاربه الكثيف ويضبط نظارته المخدوشة على أنفه ، يسترجع سنوات خدمته فى الشركة وتفانيه فى العمل وكتمانه لأسرارها ، يستوقف عامل البوفيه ويلتقط كوب ماء ويبل ريقه برشفتين ويعيده على الصينية الفضية الباهتة معتذراً ومبتسماً ومربتاً على كتف العامل .. وبعد ساعة تردد وارتباك وعرق يعود الى مكتبه دون أن يطرق الباب الفخم ، ويلقى بورقة الملاحظات الاصلاحية فى سلة المهملات .
فى صالة الفندق الفسيحة يتجمع المصورون والفتيات حول نجم مجتمع شهير ، ويبتسم للكاميرات ويمط رأسه بزهو ، يتلقى رسالة من صديقه على الهاتف " لماذا تأخرت منتظرك فى الغرفة " .
فى المصعد تسأله بشهوانية عن المقابل ، ويهمس فى أذنها بثقة شديدة " سأفتح لك أبواب المجد ، ستنعمين بأضواء الشهرة والمال ، سأقدمك للطبقة العليا للمشاهير ، وأهم شئ أن تعرفيهم جيداً وأن يعرفونك " .
تخضع تماماً لتعليمات أمها ، تحاول الانصراف من أمام المرآة ، لكن الأم تشير اليها أن تتحرك الى الأمام والى الخلف ، تسألها عن السبب ، فتقول أمها " فى برامج الرقص ليست طريقة الرقص وحدها هى المعيار ، انما طريقة السير أيضاً " ، تتحرك الابنة بدلع وميوعة وترفع من معدلات الاثارة فتبدو على الأم علامات الزهو وتفرك يديها من فرط الاعجاب بابنتها .
يتخطى بسيارته جميع السيارات ويصعد على الأرصفة ويلعن المارة ويدخن بشراهة على صوت موسيقى أجنبية صاخبة ولا يأبه بالشتائم والتوبيخ من أصحاب المحلات والسيارات الأخرى ، ويسرع ليركن سيارته فى أثناء استعداد شخص آخر يحاول ركن سيارته فى نفس المكان ، ويحظى بحفاوة وتوقير نادرين فى البرنامج المسائى لايقاظ الوعى الشبابى .
يذهب الى العنوان المكتوب فى الورقة السرية ، يردد الجملة المتفق عليها " أريد أن أرى نور الحق " " أريد أن أرى نور الحق " ، يسأل أفراد الجماعة والزعيم الجالس فوق المنصة العالية ، ما قولكم فى هذه الآراء وتلك الأقوال وهؤلاء العلماء ، تتصاعد أصوات الطرق على النحاس وتتداخل الهمهمات والعبارات الغامضة ، وقبل أن يجيب على سؤال الزعيم " هل قرأت تعاليمى الخاصة ؟ " ، رفعوا العصابة من فوق عينيه وسلط كشاف كهربائى ضخم على وجهه ، وصفق الجميع مباركين بعد أن " رأى نور الحق " ليحصل على شرف العضوية .
تحكى له مأساتها بانكسار ، لا لا قبل أى شئ تعلم منى أولاً كيف تقسو على الجميع وكيف تضيع ابتسامتك وتصنع هيبتك ، كن بارداً مستفزاً ماكراً ، اضرب بقوة واسرق بمهارة ، وعد الى ملوحاً بالنقود فى يدك لأنهض وأضع على رأسك تاج الانتصار .
أرجوك ساعدنى يا دكتور أيها الزعيم الجهبذ برؤاك العميقة الاستشرافية واستنتاجاتك العبقرية واقتباساتك المفحمة وتأصيلاتك الفكرية المدهشة ، أرجوك أنقذنى فقد تشتت عقلى وأنهكتنى الحيرة وكاد الشك يهزمنى ، ما دلائل أننا الآن على الحق المبين ؟ يضع يده على رأسه سارحاً فى ملكوت التأمل : آه وجدتها ، أحد خصومنا السياسيين صدمته سيارة بالأمس وهو الآن بين الحياة والموت .. وهذا مدد من الله لنا وانتقام ربانى .. يقبل يده ، بوركت دماغك الموسوعية .
تبدو كالزهرة وسط مدينة القاذورات والقسوة تناضل للبقاء ، تدوس على أزرار كرسيها لتعلق على الحائط مقصوصة من احدى المجلات النسائية ، ترخى يديها وتتأمل فى صور الفتيات على الجدران ، ممتلئات بالبهجة والحياة .. وسط اليأس تصنع شيئاً جميلاً ، يعود يقتحم عليها الباب بربطة عنقه موديل الستينات وشاربه الكثيف ونظارته المخدوشة ، يتجهم فى وجهها ، ينزع الصور ، محذراً اياها من تكرار تلويث جدران الغرفة .