لم يكنْ منه بدّ ..! لقد قادتني ساقاي المتعبتان منْ طول الوقوف الى ذلك المقعدِ الوحيد ..هناك أسفلَ الشاشة الملعونة!!
كان الموعد آنذاك في أحدِ الدوائرِ الحكومية ..وقد اقتطعتُ بطاقةَ الدّوْر لأجدُني خلفَ خمسةٍ وعشرين مراجعاً .. بحِسبةٍ بسيطة ، فإن عليّ الانتظار ساعة ًكاملة على أقلّ تقدير..
في قاعةِ الانتظار الكئيبة تنتظمُ خمسةُ صفوفٍ من مقاعد مثبتةٍ بأرضية القاعة أمام شاشةٍ بحجمِ أربعين بوصة.. على السقفِ مروحةُ هواءٍ أعياها تعاقبُ الدوران .. وأسفلُ الشاشة مقعدٌ بلاستيكي اغتنمتهُ قبل أنْ يسطو عليهِ أحدٌ من الوقوف..
لا يحركُ رتابةَ المشهد إلا صوتُ بائعِ القهوة وهو يتنقّـلُ ببطءٍ بين الصفوف.. وسعالُ ذلك الرجل المدخّـن.. كأنهُ يلاعب مروحةَ الهواء بما ينفثُ من دخان ،فتشتته بدورها بين أجواء القاعة .. ثمّ ذلك الصوت المنبعث منَ الشاشة التلفزيونية فوق أذنيّ مباشرة..
حين جلست تبين لي أنّ أغلبَ الجلوس هنا يناظرون الشاشة .. أي أنني سأكون في مرمى أعينهم ..لا بأس ..فلا شأن لي بهم ..وإن استرقَ أحدُهم النظرَ إليّ فعلى الرحب والسّعة .. فقد كنتُ عند المزيـّن بالأمس ،، وقميصي نظيفٌ أعياه الكيّ..! أمّا الابتسامة فلا أحسن تَصنّعها ..
الشاشةُ يحدّها من الخلفِ حائطٌ مصبوغٌ بلونٍ باهت ، رسمَ الزمانُ عليه شحوباً لمْ تـُزله أعمالُ الصيانة ، وتحدُّها من الأمام عيونٌ تناظر الصورَ وتستشفّ الخبر.. وأخرى نائمة ..ومن الأعلى ساعةٌ تطوفُ بها عقاربُ مترنحة ، بينما تحدُّها من الأسفل : رأسي..!
أنا الآن أقعُ أسفلَ الشاشة .. كلانا ظهرهُ إلى الحائط...الشاشةُ مثبتتةٌ بمساميرَ من الصّلب ، وأنا متشبثٌ بمساميرِ الانتظار وعينايَ تجولان بين الجالسين وهمْ يناظرون إلى الشاشة فوق مدى رأسي..
أنا الآن أسفل الشريط الإخباري الذي لا يفترّ عن الحركة .، لا يفصلهُ عن شعر رأسي أطول من نصف ذراع، وعلى مرارة وهولِ ما فيه فإنّ شعرَ رأسي لم يقفْ .. ولا أزال احتفظُ بهدوئي إلى الآن.
بعد دقائق كانت شارةُ انطلاقةِ نشرة الأخبار..صوتُ قصفٍ و إطلاقُ نارٍ من فوقي مباشرةً ..ولم أزلْ رابطَ الجـاش ، وقعُ أقدامٍ هنا فوق رأسي ..ولا أزال محتفظاً بضبط النفس!!، ذلك الرجل في المقعد الخلفي لا يبدو مريحاً لي .. معْ أنه يتابع باهتمام ..لكنّـه يسترق النظر فيمن حوله ، من يكون ؟ لعلـّه مخبرٌ ..ربما ،.. لا شأن لي بكلّ ذلك ..و لا بد أن تمضي هذه الساعة كما مضى غيرها.
على طرفِ الصفّ الأولِ من المقاعدِ رجلٌ نصفُ نائم .. يرسمُ نصفَ ابتسامةٍ ساخرةٍ من حينٍ لآخر ، ثمّ يعودُ إلى نومه ..أمّـا ذلك الرجلُ الذي يتوسطُ الجلوس ، فتبدو عليه علاماتُ الاستياء وهو يتابع الأخبار .. ها هو يضربُ بكفّه على فخذِه.. ثم يهتف ..
-" لعنة الله عليك يا إبن ال..." ، وإلى جانبه شابّ عشرينيّ يُحوقِل ..بينما الرجل المريبُ يراقب باهتمامٍ من آخر الصفوف..
إنه يشتم ويهمّ بالبصاق..والشابّ الذي بجانبه تفاعل معه..
- - لا عليك ! يومٌ ما سيأتي ويندم الطّـغاة ..
لست أدري عن من يتحدثون .. أغلب الجالسين هنا لائذون بالصمت وأنا لائذٌ بالكرسيّ والشاشة اللعينة فوقي...الآن ذلك الرجل المريب يتصدى لهما ..
- بل أنتم العملاء وأمثالكم .. هتف المريب..!
- أنتم أذيالٌ وحسبكم ..أليس كذلك ..؟! يستدير ليتوجهَ بسؤالهِ لمن حوله..
..لا أدري هل أغادر المكان الآن.. أنا بطبعي لا أتابع هذه النشراتِ وأصرف وقتي ما بين البيت والعملِ وزحمة السير بينهما ..لكنّ هذه الإهانات هل أدعها تمرّ من جواري من فوق رأسي مباشرةً ..وحتى متى أبقى هنا ..!
ينتقلُ الخبرُ هنا إلى النشرة الجوية .. ليسودَ الهدوء ، ذلكَ الرجل نصفُ النائم ..ينتبه من نصف رقاده و يتابع النشرةَ باهتمام .. ها هو جاحظٌ عينيه في الشاشة ، مـُقدمة النشرة بصوتها الحنون تجوب الكرةَ الأرضية في خمسةِ دقائق دون أدنى جلبة .. هكذا .. حتى أنني لويت عنقي مشرئباً إلى الأعلى لأستمع وأشاهد تقلبات الطقس اللطيفة ..
- البطـاقة رقم ٢٤٠ يرجى التوجه للشباك رقم ٣ ..
أخيراً سأتخلص من هذا المقعدِ وهذه الأجواء المقيتة .. قبلَ أن أمضي توقفتُ أمام الشاشة تماماً.. ربما سعياً لردّ الاعتبار ، جلتُ بناظري بين الحضور ..رفعت هامتي ونسّقتُ هندامي ..ثمّ مضيت..
عندَ خروجي لمحتُ في ساحةِ المواقف كلا الرّجلين : المريبَ والمتحمّس يتبادلانِ الابتساماتِ إلى جوار مركبةٍ يقبع فيها الشابّ العشرينيّ مقبوضاً عليه..!