يسألونني : من أنت..؟!
أقلب كأسي المتعبة ..لأغمس فرشاةَ المساءِ بالنبيذِ المُعَتّقِ المُنسَكِبِ، ومُقتنياتُ عُمُرِهِ الصاخبِ تروي القصةَ المُخبّأةَ..
غُبارٌ يعلو ابتسامتي المُتعبة.. أتمتمُ بحروفٍ مُتلعثِمَة : سأشرح لكم عنه باختصار :
هوَ مَنْ لجأتْ لهُ الشمسُ بلا صُراخ ، كان له لغة كُلّما ضَحِكَ العِطْرُ في قلبهِ كان النَّيْلُ منه مُباحًا !
وجهُهُ رُسِمَ على مَرايا الأيام . لغتُهُ عِطرٌ ، و أجُمَلُ . أبٌ صُوفِيٌّ و أكثر !
و الآن ، تساؤلاتُ الوَحدةِ تحتسي نبيذَ المرارةِ بِنشوةٍ .كنتُ أراقبهُ مُتصفَّحَهً أقاويلَ مشاعرِهِ .
أجيبهم - و قدْ أوْقدتُ لِنفسي رُوحًا لعِشرينَ عُمُرًا أخرَ - هو مَن يَقفُ كما العظماءُ،
رأيتهُ يومًا يلبسُ الوجعَ ويُعَنوِنُ قاموسَ حياتهِ وجسدَهُ المُتعَبَ بـ " الخُلود "،
ذاكرتُه مُهترئةٌ مُهَشَّمةٌ أصابعُهُ لمْ تنضُجْ في عُلَبِ الحلوى !
من يكون ؟
يتساءلونَ أخرى ..
هو أبو الوليد الذي عاش مرتين . يَستلُّ مِنَ الرملِ العُشْبَةَ الخالدةَ ,
و يُفتشُ في جُثثِ الأمنياتِ العجيبة عن خريفِ الخمسينَ الماضية ..
يهمِس لي : اسألي شجرةَ الصنوبرِ عني، ففي ظِلِّها سِلسلهٌ مِن ذكرياتٍ تروى .
هنا كتبتْني ، هنا رعَتْني ، هنا آوَتْني . أنكَرتْ فضائلَ الجميعِ شجرة الصنوبر، إلاّ فضائلَهُ ..
الكلُّ يسألُني : مَنْ يكون.. ؟!
أجيبهم : اقرؤوا ما كُتِبَ على جوازِ سفره، اقرؤوا الحقيقة الوحيدة !
أجيبوا عن سؤاله : " هل ما زالَ المقعدُ الشاحبُ ، والشباكُ الخشبيُّ ؟ "
لم يزلْ في شوقٍ لحِكاياتِ الصُّورِ , وظِلُّهُ رَسَمَهُ الشّجَر .. والحياة تسرِقُ إيقاعاتِ نَبضِهِ فيها.
هُناكَ مُتَّسعٌ للماضي في ذاكرته . هو من يَصرِخُ بأعلى صوتِه، يُنادي :
" مَن شَوَّهَ عُذريّةَ القدَر ؟! "
كمْ مَرّةٍ نادى : " أيا ولدي .. " !!
عبثًا يُنادي الغيومَ الخاليةَ مِنَ المطر !!
بِمُدنِهِ المهجورة تٌقَلبُ مِلفاتُ ذاكرته .. يبكي .. يبتسمُ .. عُمُرُهُ يمضي كالمجنونِ عكْسًا !!
ها هُمْ عادوا ليسألوا : من يكون ؟!
أجيبهم ألا تعلمون..؟! هوَ مَن عنونَ اسمَه الزمانُ والمكان .. يُمسِكُ بيدِهِ الألوان ، .الكل طوع يديه ..
ألا يحِق له ؟
لمَ لا، و أنتم تسألون ولا تعلمون من يكون !
هو أبو الشهيد ، والدُ الوليد الذي عاشَ مرّتَيْن . في ظُلمَةِ فراغِهِ يُنادي : "حكايتي مبتورةٌ وملاكي لا يُسْتَرَدُّ " .
يعلو صوتُه ليقولَ :
" كفى ، أنا بعيدٌ عنكَ يا وطنَ الشهيدِ . نبذتُكم يا بني البشرِ هناكَ. أنا أعلنُ رحيلي عن حَصادِكُم فحياتكم مَسرحُ دُمًى تسخرُ منها كلُّ الحقائقِ !
إنّها سرابٌ، حِقدٌ ..في زمن اللهيب ! "
على نافذة قلبهِ سقطتْ دمعتُه . حدودُه ليستْ أرضًا، ليستْ سماءً، حدودُه كلُّ الفضاء ..
يتحدّى الفراغَ، يدفعُ عنه غُبارَ الجُنونِ، يَطرُق بَوّابةَ الحُلم في صَفحاتِ الليل؛ ليقولَ :
" وَلدي وُلِدَ، وعُمرُهُ في جِنانِ الخُلدِ قدْ كُتبَ .
سيهمِسُ البحرُ لي : عادَ المحبوب، وتفيضُ بعَبَقِ طِيبِه الأزقة والدروب .
ستعودُ يا وَلدي يومًا، وسوفَ تتفجّرُ تلك السدود .
.ستعودُ.. ستعود ..
#n_a