صورة مُشعّة للواقع بتشكيل أدبي له عبقه الخاص


** تتشكّل الحروف ، و تتنوع المضامين ، و تعلو أو تنخفض مستويات المعايشة لواقع التجربة الأدبية ، و ربما تتجاور القهقات مع الألم ، و قد يدخل الكاتب في علاقات بينية مع المتناقضات كي يتسنَّى له التعبير عن حالة العصر الذي يعيشه ، و يتعايش مع ظروفه و أحداثه .. ما بين ازدهارٍ و انتكاسة .. ، مابين الحرف و النقطة .. ، مابين الأبيض و الأسود .. ، ما بين ثنائيات التناقض في هذا الوجود .
و في محاولة لالتقاط نقط التلاقي لهذه المتناقضات من خلال صورة شعرية واقعية كانت هذه القراءة في ديوان "هاموش في عش الدبابير" للصديق محمد العقاد ، والتي أظهرت من الوهْلة الأولى ثلاث سمات لهذا الإصدار ، و تتلخص في السخرية اللازعة تجاه ما يدور حوله من فوضى ورؤية غامضة للمستقبل ، مع سهولة اختيار اللفظة ، و التفعيلة ، كما ظهرت السمة أالثانية ، و هي كتابة الأغنية الشبابية ، بما يتواكب مع سرعة اللحن إلا أن نبضات الشعر الواعية آثرت أن تُحافظ على شكل الأغنية التي عهدناها في زمن الفن الجميل ، و أما السمة الثالثة هي التنوع سواء في الشكل الكتابي أو المضامين ،
فالشاعر هنا إذْ يكتب باللهجة المصرية الجنوبية ، يكتب أيضا بالعامية المعروفة لأهل الشمال ، و إذْ يكتب قصيدة التفعيلة الموغلة في القضايا يكتب كذلك الأغنية الخفيفة ..،
و يبدأ هذا الإصدار بأن يُعرِّفنا الكاتب على نفسه مُتخذاً في تعبيره شكل مربع فن الواو ليدل أنه ينتمي إلى الطبقة الشعبية ، يشعر بما يشعرون ، و يرفض ما يرفضون ، و يؤكد على ما يسكن في دواخلهم من تطلعات إلى التغيير ، و اعتزاز بالنفس والميراث الشعبي من العدل و الرضا ، و مواجهة القمع و القهر ..
يقول محمد سيد رجب الشهير بـ "محمد العقاد" للتعريف بنفسه :-


جدّي رجب أصله رفاعي
و ابـويا سيـّّد مكانُهْ
خلاّني للأفْـعى رفاعي
و اسأل عليَّه اللي كانوا

و كذلك يتعرض الشاعر لأكثر من مشكلة في قصيدة و احدة ، فهو إذْ يركِّز على الإشاعات يؤاخي بين الفول و الزيت ، تلك الأكلة الشعبية عند المصريين ، ومدى أهميتها في البيت ليكشف لنا عن الوقفات الاحتجاجية ، و الأمزجة الفوضوية ، و الاحتقان ، وكشف المعايير المزدوجة ، و عقدة شراء الصناعات غير المحلية ، وذلك بأسلوب ساخر ، و راقٍ ، مع الانسيابية في شرح الصورة ، بصورة أخرى ، وذلك من خلال مقطوعات .. يقول في قصيدة "الزيت في البيت" :-


كانوا بيقولوا العيشة مرار
حتى الزيت مليان أخطار
و كمان سعره .. بقا زيِّ النار
أوعوا تقوموا تاكلوا فيشار
أنا صاحب واجب ..
وانا عندي الواجب .
مِيـد إن بيت

و ينتقل الشاعر لمشكلة الأحلام و الحَمَوات ، و هناك دلالة قوية للعنوان الذي اختاره "محمد العقاد" لهذه القصيدة إذْ كان العنوان "أمي قبل بنتي" مماّ يوحي بمدى الشعور بالظلم و الحيرة ، وانتهاك الحقوق الإنسانية ، و خصوصاً انتهاك حقوق البسطاء مِمّن يأملون في إيجاد حلول لسداد الاحتياجات الحياتية من خلال استشارة أمهات الزوجات ، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
يقول في قصيدة "أمي قبل بنتي" :-

أصل البير مفهوش الميّهْ
وانا عندي حماتي مِيه المِيه..
ممكن تاخد مني مراتي
و انا و مراتي عارفين الديّهْ
بنتي هشيلها .. م الحضانة لباب كُلِّيه ..!


ليختم هذا النص بالإشارة إلى موتِ حماته من خلال الصورة المعلقة ذكرى لحياتها ، ثم يربط بين صفتين و اسم بجناس كامل و تورية لكلمة "حية" .. ، و أما الصفتان فهما للصورة ، إذْ تأتي الأولى من الحياة ، و الثانية من الحياء ..، ثم يحذر ابنته من اسم "الحية" ، وهي الأفعى التي تبثُّ سمومها


أصل مراتي قالتها زمان :-
أُمي الـ قبلا ، وْ بعدين بنتي
و انتِ يا إنتِ
إنا مش عارف .. مستنيه أكيد ترجعلكْ
بعد ما بعتِ أبوها وْ بعْلك
كانت بصرة .. بس ده ليكي
أما لبنتي ..
إنتِ أكيد غلطانة يا إنتِ
يمكن تِحْلى فْ عينك ستِّي
تاخدي ساعتها الدرجة يدوب حنيّه
يمكن يعرف قلبك منها شوية
يمكن تضحك للبير .. تاني المَيَّة
و الفاتحة لروح الصورة الحية
إوعي يا بنتي ..
إوعي الحية ..!


و لأن للأدب رسالته في معالجة القضايا المجتمعية و سلوكيات الأفراد ، فإن الشاعر "محمد العقاد" أخذ يُوَجِّه صديقه الذي اعتاد تضييع الوقت ، و ظلم نفسه بالغرور ، و التعالي على مَنْ هم أفضل منه ، و لم يعطهم قدْرهم رغم أنهم منحوه من النصائح ، و الجهد الكثير ..
يقول العقاد في نص "مغرور يا ابني" :-
مغرور يا ابني .. عايش مغرور
ظالم نفسك كده بالزور
شِلْت كتير أكتر من طاقتك
ما توريني ياعم بطاقتك
ليه بتضيّع وقتي و وقتك
كُنْت تملي تلفّ تدور
و في نفس القصيدة يستعمل فيها أسلوب الأغنية ، فكأن البيتين "كوبليه" ينتهي بالمُرجِّع ، ليُسلِّم إلى المذهب الذي ينتهي برويّ هو نفسه رويّ "الكوبليه" ، فضلاً عن وجود الجناس الناقص في نفس "الكوبليه" بين كلمات (عيدك ، مواعيدك ، ايدك) .. يقول :-

لماَّ اخترت ضياع يوم عيدك
نور الشمع انطفى على إيدك
رُحْت وْ جيت خالف مواعيدك
و على الفاضي تملي تفور
مغرور يا ابني .. عايش مغرور
ظالم نفسك كده بالزور


و لم ينس الشاعر محبوبته ، و فرحة اللقاء ، تلك الفرحة التي ما إن تلمس أحاسيس المُحبّ ، يُشاركه المجتمع بأسره .. يقول في "نادية" :-
الزهور في عنيكي نادية
زيّ بستان في الربيع
و النجوم للبدرِ شادية
و الفَرَحْ عمّ الجميع

و أيضاً يأخذ التلاعب اللفظي دوره ، فهنا كلمة نادية قدْ تأتي صفة للزهور عندما تراها المحبوبة ، و قد تكون اسم المحبوبة ، و كأنه يقول "الزهور في عينيكِ يا نادية زي بستان في الربيع" .. ، و كذا ينطبق الحال على لفظة شادية ، و كأن النجوم تشدو ، و بالتالي يعمّ الفرح .. ، أو كأن لفظة "شادية" تعود على المحبوبة صفةً أو اسماً ..

و هكذا .. فإن هذا الكتاب صورة مُشعّة للواقع الفوضوي ، وتعبير حيٌّ لما يعانيه لسان حال البسطاء ، و مرآة مستوية لفئة الأغلبية من أبناء الوطن الغالي .. ، كما إنه يمثل نبضات التغيير اللازمة لعمليات التطوير المجتمعي و الإصلاح في شتى المجالات بتشكيلٍ أدبيٍّ له عبقه الخاص