المساجد باندونيسيا مؤسسات لها ادارتها وموظفوها وحراسها ولها طابعها المعمارى المميز ويلفت النظر فيها النظام والاحترام والنظافة ومظاهر الهيبة والجلال ، وحلقات العلم يرتادها الرجال والنساء ، وحتى غير المحجبات لا يحرمن أنفسهن من هذا الخير ومن العبادة بالمساجد حيث يرتدين بالمسجد الحجاب والزى الفضفاض ويحرصن على التلقى والتواصل وفهم ما يُطرح من معارف ورؤى وأفكار . صعدتُ على منبر مسجد طيبة بمنطقة كبون جروك بقلب جاكرتا ذى الطراز المعمارى الخاص بعد صلاة التراويح مع مترجمى أخى الحبيب الدكتور زين العارفين فانفتحت الستارة الحاجز التى تفصل بين الرجال والنساء أثناء الصلاة فى المسجد الكبير ، ليكون التلقى من المحاضر متكاملاً يشمل السماع والرؤية . المحاضرة عنوانها " مكانة الصوم فى الشريعة " ، ركزتُ خلالها على شمولية الاسلام وشريعته التى يحاول البعض حصرها فى بعض الفرعيات ، مؤكداً على أن ما نقوم به من طاعات وعبادات جزء أصيل وأساسى وليس هامشى فى الشريعة . الشريعة ليست قانون جنائى ولا عقوبات انما هى الدين كله بعقائده وعباداته وأخلاقه وشعائره وآدابه ومعاملاته ، وكذلك بتفاصيله القانونية والفقهية ومواد قوانينه العقابية . " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " ، الامام الطبرى أكد فى تفسيره أن " الشريعة هى الدين " . والا فكيف يُؤلف الآجرى كتاباً عنوانه " الشريعة " وقوامه ومضمونه فى العقائد ولم يتطرق لمسائل قانونية فقهية ، وكذلك الراغب الأصفهانى الذى ألف كتاب " الذريعة الى مكارم الشريعة " ، وهو كتاب أخلاق ! هنا ندرك معنى الشريعة ومعنى الدين بشمولية ووضوح وبرؤية أكثر ايجابية تغذى روح العمل والنضال والرغبة فى الاستكمال والتكامل والبناء ، لا الصراع والتشاؤم والانتقاص والهدم . وبهذه الرؤية التكاملية الشاملة نرد بقوة وثبات وثقة على بعض الشباب المتشدد الذين يزعمون أن اندونيسيا بالرغم مما نص عليه دستورها من اعتبار الاسلام وتوحيد الخالق قيمة ومرجعية عليا ، وبما يتمتع به نظامها السياسى من شورى فى اقامة نظام الحكم ومشاورة أثناء أداء السلطة لمهامها ، وهذا وضح فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة – وتلك هى الكليات الدستورية - ، وبالرغم مما نراه من عمران للمساجد التى تضج بالمصلين والصائمين والقائمين القارئين للقرآن ، والحريصين على الحج وزيارة الرسول أكثر من أى شعب آخر – وتلك هى الكليات التعبدية - ، وبما نراه من احترام للكبير وتواضع العلماء وذوى والوجاهة وكرم الضيافة والعفو والتسامح والمحبة – وتلك هى الكليات الأخلاقية – وبما نراه من نظام واحترام قوانين المرور واللوائح ونظام الدولة العام – وهى كليات ادارية مستمدة من الشرع - ، وكذلك القوانين الخاصة بالأسرة المستمدة من الشريعة والموافقة لها ، والحرص عى اقامة العدل والمساواة أمام القانون وقيم التنوع والتعددية والحرية ، فهذا جميعه التزام بكليات ومبادئ الشريعة العليا ، فهل يعى ذلك الشباب الذين يزعمون أن الشريعة معطلة باندونيسيا أو أن الحكام ومعاونيهم هناك طواغيت بسبب بعض المخالفات فى قانون العقوبات واختلاف العقوبة عما هو معمول به فى الشرع رغم الاتفاق على تجريم هذه الأفعال والجرائم وملاحقة مرتكبيها وانزال العقوبة عليهم ؟ قانون العقوبات ليس من الكليات والقيم الدستورية انما هو فرع من هذه القيم العليا ، والشريعة أكبر وأشمل من هذا التصور بكثير جداً . العبادة والصوم والصلاة تربى الضمائر ، التى عندما رباها الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان الرجل المذنب يأتى بنفسه ليطهره النبى بالعقوبة الدنيوية ويخضع للقانون ، بينما ما قيمة القوانين بلا ضمائر حية تستجيب ، انما تحرص على التهرب والتحايل على الشرع وعلى أعتى القوانين وأقساها وأشدها . تربية الضمائر وتزكية النفوس بالعبادات والقيم جزء أصيل من الشريعة ؛ فعليه الاعتماد بشكل كبير لاحترام الشريعة وصاحبها جل فى علاه والسعى لتطبيقها بشكل فعلى ؛ فالشريعة روح تسرى فى القلوب ، وليست شعارات عنترية ووجوه متهجمة وأخرى ملثمة ، وبعض مشاهد تقطيع الأيدى وجلد الظهور ، هناك وهنا . والحمد لله رب العالمين . وللحديث عن رحلة اندونيسيا الدعوية والفكرية بقية ان شاء الله