أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17

الموضوع: مقالة هامة للدكتور موفق الجوادي

  1. #1
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي مقالة هامة للدكتور موفق الجوادي

    منهج النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في إقامة الدولة
    قراءة أخرى في معطيات السيرة النبوية
    د.موفق سالم نوري.
    بعض المسلمات:
    مما هو مسلم به أن الإسلام دين شمولي، لم يدع زاوية من زوايا الحياة الإنسانية إلا وعمل على تنظيمها على وفق المنهج الذي أراده الله تعالى، وقد اشتمل الإسلام على الأحكام والقواعد والآليات والمنهج الذي جعله قادراً على حلِّ مشكلات الحياة الإنسانية كافة في كل زمان ومكان.
    فللإسلام محاور تعبدية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وما إلى ذلك من نواحي الحياة الأخرى، وبذلك فإن الإسلام يمثل التصور الأخير للحياة، كما أراده الله تعالى للبشر حتى قيام الساعة.
    والإسلام بهذه الأبعاد والمحاور ليس ديناً للأفراد وحسب، بل هو دين للجماعة أيضاً، فشريعة الإسلام لم تختص بمسائل العبادة والآخرة، بل امتدت إلى شؤون الجماعة بكل معطياتها الدنيوية، بل إن العبادات في الإسلام لا تقوم على الهيئة الفردية أو الشكل الفردي لها، بل إن ذلك جاء متداخلاً بشكل عميق مع الشكل الجماعي للعبادات، فالصلاة تمثل صلة عميقة (للفرد) مع خالقه، غير أن هذه الصلاة تكون أعظم شاناً إذا تمت في إطار الجماعة، بل إن بعض فروضها وسننها لا تصح إلا في إطار الجماعة، كما في صلاة الجمعة والعيدين، وكما أن الحج تطهير (للفرد)من ذنوبه وآثامه الماضية، إلا أن هذه الفريضة لا تصح ولا تكون إلا باجتماع المسلمين لأدائها في مؤتمر عام يضم ملايين المسلمين في زمان ومكان محددين، ومع أن الصوم جهد الفرد في مكابدته للجوع والعطش إلا أن بعض الحكمة من الصوم يتمثل بترسيخ الإحساس بالجماعة وهذا ما يمكن قوله أيضاً بشأن الزكاة والصدقة.
    فإذا ما أضفنا إلى هذا البعد (الجماعي) للعبادات جوانب أخرى توازيها في الأهمية مثل إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي، ومثله النظام الاجتماعي، يتبين لنا أن إقامة الإسلام ليس جهداً فردياً، ولا عملاً شخصياً، يقيمه الأفراد في حياتهم الخاصة، بل إن الأمر يحتاج إلى جهد (الجماعة) لإقامته.
    وحتى يكون جهد الجماعة أو المجتمع منظماً سائراً في اتجاهاته الصحيحة، فإن هذه المهمة تتولاها (الدولة) بالنيابة عن المجتمع، فالدولة كيان منظم، يمتلك المقومات اللازمة لإقامة (دولة) الإسلام بكل نظمه ومعطياته.
    ومشروعية الدولة في الإسلام أظهر من أن تحتاج إلى حجة شرعية، فالمرحلة الحاسمة في عمل النبي () تمثلت بإقامته (دولة) المدينة التي قامت بعد الهجرة إلى يثرب.
    ثم أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على ضرورة قيام (الدولة) وذلك بإجماعهم على مبايعة الخلفاء الراشدين الأربع، وكانت لهذه البيعة دلالة سياسية واحدة هي إقرارهم قيام دولة
    تتولى مهمة إقامة الإسلام في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، حتى قال الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ: "لا بد من إمارة برة أو فاجرة"، فالإمارة في كلا الحالتين تتولى مهمة تطبيق نظام الإسلام بكل محاوره في حياة الناس.
    إن الدولة في الإسلام دولة عَقَدية، ولها مهام عَقَدية دعوية، فهي تقوم بمهمة حفظ الدين وحمايته ونشره، فضلاً عن تطبيقه في جوانب الحياة كافة؛ لهذا أجمع الفقهاء والمتكلمون بكل فرقهم واتجاهاتهم على أن (الإمامة = الدولة) ضرورة لازمة في حياة الأمة الإسلامية؛ حتى إنه ليمكن القول إن الدولة والإسلام وجهان متلازمان لا يمكن الفصل بينهما؛ فإذا وقع هذا الفعل فسدت الدولة ووقع التقصير في إقامة الإسلام، فإذا وقع هذا التقصير (تعين) على كل مسلم أن ينهض بدوره وجهده لتلافي ذلك.
    لماذا (يتعين) على كل مسلم أن يسهم في النهوض بهذه المهمة؟
    لقد قرر العلماء أن الجهاد يصبح (فرض عين) إذا تعرضت دولة المسلمين أو بلادهم لخطر العدو الكافر، هذا التحول من فرض كفائي إلى فرض عيني تجاه (الجزء) من بلاد المسلمين أو حياتهم أو دولتهم، فكيف إذا كان الأمر تجاه (الكل)، أي: فقدان الدولة وغياب نسبة كبيرة من الأحكام الشرعية عن التطبيق في مفاصل حياة الأمة، هنا تكون فرضية العين أولى وأوجب فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب إقامة الإسلام لا يتم إلا بإقامة الدولة وواجب إقامة دولة الإسلام لا يتم إلا بالعمل الجماعي الجاد من أجل هذا الهدف.
    وإقامة دولة الإسلام ليس عملاً عشوائياً أو ارتجالياً، أو يتحقق اتفاقاً، بل لابد من منهج للوصول إلى هذه الغاية، ولما كانت المناهج الوضعية تحتمل الخطأ والصواب، وإقامة دولة الإسلام لا تحتمل انتهاج الخطأ والصواب، لما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة قد تطيح بكل شيء، لذا لابد من منهج لا يحتمل إلا الصواب، ولا يمكن لمثل هذا المنهج أن يكون بشرياً بل لابد من أن يكون وحياً، ومثل هذا الأمر لا يحققه سوى اتباع منهج النبوة في إقامة دولة الإسلام.
    منهج النبوة في إقامة دولة الإسلام:
    قامت برامج الحركات الإسلامية المعاصرة في منهاجها على أساس قراءة السيرة النبوية قراءة تقودها إلى تبيين ملامح منهج النبوة في إقامة الدولة. لقد مضى قرابة الثمانين سنة على سقوط دولة الخلافة الإسلامية، حيث أعقب ذلك قيام العديد من الحركات الإسلامية، كلٌ يسعى بجد وإخلاص نحو إعادة مجد المسلمين في دولة جديدة للخلافة، متوسمين في ذلك البشارات التي جاءت بها الأحاديث النبوية الصحيحة التي بشرت بعودة الخلافة على منهاج النبوة، غير أن الجهود التي بذلت وما زالت تبذل لا تؤشر قرب الوصول إلى هذه الغاية، وربما كانت المشكلة الحقيقية كامنة في المنهج الذي تعتمده هذه الحركات وهي على اختلافها ـ أي: الحركات ـ تكاد تجمع على منهج واحد في خطوطه العامة/ ويتمثل بضرورة العمل على (تثقيف الأمة) ثقافة إسلامية صحيحة، أو إعادة (تبليغ) الأمة بدينها من جديد، أو العمل على نشر (العلوم الشرعية) وتحقيق نهضة علمية شرعية شاملة.
    كل ذلك سوف يقود بصورة تلقائية إلى إقامة دولة الخلافة!! وقد بني هذا التصور على (قراءة) قد تكون غير دقيقة للسيرة النبوية، وعلى النحو الآتي:
    إن النبي () مكث يدعو قومه في مكة زهاء ثلاثة عشر عاماً، ينظر إليها غالب المعنيين على أنها مرحلة الدعوة والتثقيف والإعداد، وبعد بيعة العقبة الأولى أرسل مصعب بن عمير () إلى يثرب (يعلم) أهلها الإسلام ويدعوهم إليه وبعد عام واحد من هذا الجهد تمت بيعة العقبة الثانية التي هاجر النبي () بعدها إلى يثرب ليقيم فيها دولة الإسلام، بعدما أصبحت الأمور جاهزة بفضل الدعوة والتثقيف الذي تم فيها.
    إن قراءة فاحصة متأنية تبين لنا أن التحولات لم تجر بهذه الصورة المبسطة، فإن مرحلة الدعوة والتثقيف التي شهدتها المرحلة المكية لم يكن لها سبب حقيقي في (إقامة) دولة الإسلام في المدينة، فلو كان لها صلة ما بهذا التحول الخطير لتوجب الأمر أن تقام هذه الدولة في مكة وليس في المدينة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن جهود النبي () وصحبه الكرام (رضوان الله عليهم) لم تنجح في تحويل مجتمع مكة إلى الإسلام، بل إن هذه الجهود أخفقت حقيقياً في هذه الناحية، وإن نصرة النبي () الحقيقية جاءت من يثرب وليس من مكة.
    فجهود ثلاثة عشر عاماً من الدعوة وهي ليست بالزمن القصير لم تسفر إلا عن عدد قليل ممن اعتنقوا الإسلام، لم يتجاوز عددهم المائة إلا بقليل، وما تم ذلك إلا لحكمة أرادها الله تعالى هي أن لا يظهر انتصار النبي بداعي العصبية القبلية، بل إن انتصار الدعوة تم بداعي فضل الله تعالى أولاً ثم عزيمة النبي () وإصراره وصبره وتحمله مع أصحابه الكرام كل متطلبات الثبات على المنهج حتى يتحقق النصر النهائي بإشادة الدولة الإسلامية.
    إذن ما هو السبيل الذي نهجه النبي ()من أجل إقامة هذه الدولة؟.
    للإجابة على هذا السؤال لابد من إقرار بعض من الحيثيات المهمة التي تسهم في قراءة هذا المنهج قراءة صادقة، من ذلك أن إقامة دولة الإسلام في المدينة لم يكن ثمرة لمتغيرات تاريخية (عفوية أو تلقائية) تمت بصورة طبيعية من خلال تفاعل الناس أصحاب العلاقة مع بعضهم ومع محيطهم بما قاد إلى هذا التحقق للدولة، بل إن ذلك تم بشكل رئيس على أساس الرعاية الإلهية والعناية الربانية التي كانت (تريد) قيام مثل هذه الدولة حتى تأخذ رسالة الإسلام أبعادها الحقيقية كما أرادها الله تعالى لتكون رحمة للعالمين، ولتكون الصورة والأنموذج الذي يتطلع إليه المسلمون كلما نأى بهم حالهم عن المنهج الصحيح، وهذا يعني أن هذه الرعاية وهذه العناية أسفرت عن منهج لإقامة الدولة لتمثل شكلاً من أشكال الوحي إلى النبي ().
    ولابد أن نقر أيضاً أن النبي () سعى منذ بدء دعوته إلى إقامة دولة الإسلام, ورب قائل يقول: إن مفهوم الدولة وشكلها لم يكن من الأمور المألوفة والمعروفة في مجتمع مثل الحجاز، بحيث إن مدنه الرئيسة مكة والمدينة والطائف لم تشهد حقيقة مثل هذا التجسد للدولة بمفهومها الصريح، فنقول: هذه حقيقة تاريخية لا يمكن القفز من فوقها، ولكن نقول أيضاً: إن محمداً () لم يفكر بطريقة البشر، ولا حتى بطريقة أرقاهم فكراً، إنه كان يفكر ويعمل بطريقة الوحي فالله تعالى هو الذي ألهمه أن يعمل لمثل هذا الأمر.
    فالأمر لو كان مجرد تبليغ للناس بالرسالة الجديدة لكان الأمر أهون بكثير، إذ كان بوسع النبي () أن يقبع في مدينته يدعو الناس إلى دينه الجديد، ولا يكلف نفسه مشقة وعناءً، بل إن غاية ما يمكن أن يفعله أن يتوجه إلى وفود العرب القادمة للحج إلى الكعبة المشرفة فيتصل بأحدهم ليبلغهم رسالته، فمن رضي وقنع وتابع فبها ونعمت، أما من أنكر وكذّّب فعليه وزره، كما كان بالإمكان حصر الدعوة بالفقراء والمستضعفين الذين يسهل التأثير عليهم من أجل تغيير قناعاتهم، بل إن بعض الأمنيات والوعود كفيلة بتحقيق ذلك.
    غير أننا نجد أن النبي () لم يكتفِ بذلك بل إن في جهده الدعوي ما يشير إلى أبعد من هذه التصورات البسيطة، من ذلك أنه كان يتوجه في دعوته إلى الملأ أيضاً وإلى وجوه القوم وكبرائهم، لأن النجاح في كسب أمثال هؤلاء إلى الدعوة له الدلالات الآتية:
    إن ذلك يجعل انتشار الإسلام أكثر سرعة، فهؤلاء لهم من الأتباع الذين يقلدونهم في أفعالهم وأفكارهم، فضلاً عن أن لهؤلاء (نفوذاً) فاعتناقهم الإسلام يمنحه (قوة ونفوذاً) أكبر تجعله يقترب من أهدافه أكثر، وهذا ما يفسر المحاولات التي قام بها النبي () مع بعض رجالات الملأ المكي على الرغم من أنهم كانوا الأشد عداءً للإسلام؟.
    ثم إن النبي () لم يكتفِ بمهمة التبليغ في مكة، بل قرر أن يكسر هذا الطوق فتوجه إلى طائف للقيام بهذا الفرض، التي خرج إليها ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكنه لم يدعُ عوام الناس من أهلها بل انصب جهده على دعوة كبراء القوم ووجوههم أمثال: عبد ياليل، وغيره.. وهذا له المعاني الآتية:
    إن إجابة هؤلاء الكبراء يعني استجابة بقية أهل الطائف، وهذا يعني توفر مقومات إقامة كيان للإسلام، كيان مادي يقود إلى إنشاء (الدولة) حيث ستتوفر عناصر هذا المشروع، (الوطن=الطائف) و (الشعب=أهل الطائف) و (العقيدة=الإسلام)، غير أن هذه الخطوة لم تنجح لحكمة أرادها الله تعالى، لعلها تتمثل في ضرورة (تكرار الدرس) حتى يتعلمه اللاحقون جيداً.
    فتكرر الدرس بل شارف على النجاح عندما دعا النبي() أحد رجالات عامر بن صعصعة إلى الإسلام، فنظر هذا إلى الأمر نظرة ثاقبة أدرك من خلالها التحولات التي يمكن أن يشهدها الأمر في تجلياته المستقبلية، فسأل النبي () ترى ما عساه أن يحصل عليه بعد أن يقدم التضحيات الكبيرة جراء قبوله بالإسلام والعمل من أجله؟ هل يتعهد النبي() له بأن تكون الأمور كلها (=الدولة) بأيدي قومه بعد وفاة النبي ()؟ فرد عليه النبي أن الله تعالى يجعل الأمر حيث يشاء. فلم يقتنع الرجل بالإجابة، فانصرف. غير أن هذه الواقعة تبين أن هناك من تفهم حقيقة ما ستؤول إليه الأمور، وهي أن دعوة هذا الدين لابد من أن تسفر عن إقامة دولة، فإذا كان هذا ما تفهمه البعض فكان النبي () أولى بإدراكه والعمل له.
    من العرض الآنف تتبين أول ملامح منهج العمل لهذه الدولة، وهو التوجه نحو (النخبة) ودعوتها لقبول الرسالة الجديدة والعمل من أجلها، لأن هذه النخبة قادرة على إجراء (التغيير) المطلوب لإقامة الدولة، فهي التي تمتلك القوة و القرار الكفيلين بتحقيق هذا التغيير.
    استمر النبي () في التوجه بخطابه ودعوته نحو النخبة حتى قضت رعاية الله تعالى أن يلتقي النبي () بوفد من أهل يثرب ووجهائهم جاءوا إلى مكة حاجين، فدعاهم النبي إلى الإسلام وكان ثمة إيجاب وقبول، ولكنه احتاج إلى الأناة والمشاورة مع الآخرين، فالتغيير القادم سيكون منعطفاً خطيراً في حياة القوم، فتمت في العام اللاحق بيعة العقبة الأولى.
    وكانت بيعة على القبول بالدين الجديد من دون أية وعود بمكاسب دنيوية وتحولات اقتصادية وما إلى ذلك، بل هي بيعة على الدين وحسب، ثم تمت في العام اللاحق بيعة العقبة الثانية (بيعة الحرب) وسميت بذلك لأنها تضمنت الاستعداد للحرب دفاعاً عن النبي () وعن الدين الجديد إذا ما ظهر خطر داهم.
    وعلى موجب هذه البيعة أذن النبي ()لأصحابه بالهجرة إلى الوطن الجديد، ثم أذن الله تعالى له بالهجرة.
    توجه النبي إلى يثرب التي باتت تعرف بالمدينة، ولما بلغها استقبله أهله بحفاوة وتكريم وحب قل مثيله، وكان ذلك بصفته (النبي) الذي سيهديهم إلى سبيل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
    لكن الأمر لم يتضمن في البداية أية دلالات على (زعامة) سياسية، وهي التي كان لابد منها لإقرار مبدأ الدولة، فكان لابد من التمهيد لذلك والعمل له بعناية فائقة، ومن البديهي أن نستبعد هنا أية غايات دنيوية على معنى الزعامة هذا، ولو كان الأمر كذلك لكان تحقيقه في مكة أسهل بكثير، وكان ذلك مما عرض عليه من خلال بعض المساومات مقابل التخلي عن الدعوة الجديدة، وكانت إجابة النبي على الدوام بالرفض.
    أما الزعامة في المدينة فباتت تعني شيئاً آخر، فهي لازمة لإقامة الدولة التي ستطبق نظام الإسلام.
    كيف يمكن تحقيق الزعامة في مجتمع لا يزال يتلمس خطواته الأولى نحو التشرب بمفاهيم الإسلام والروح القبلية ما زالت قوية فيه، والزعيم لابد أن يكون من أبناء القبيلة الصليبة، كيف يمكن تحقيق الزعامة في مجتمع يتضمن عناصر متنوعة بل لكل منها نفوذ وقوة، مسلمون ويهود ومشركون.
    كل ذلك يتطلب اتخاذ الخطوات المناسبة، فكانت الخطوة الأولى إعلان نظام المؤاخاة بين المسلمين كافة، ولا ريب أن هذا النظام كانت له ضروراته الاقتصادية الملزمة، لكنه أفرز من ناحية أخرى معطيات اجتماعية أسفرت عن نتائج سياسية خطيرة، فبموجب هذه المؤاخاة انتفت الأخوة القبلية لتحل محلها أخوة العقيدة، الأخوة في الإسلام. لقد كان المسلمون بما فيهم النبي () بعد هجرتهم إلى المدينة (حلفاء) لأهل يثرب وليسوا صليبة من أبنائها، والحليف لا يحل له بموجب الأعراف القبلية أن يكون زعيماً، أما بعد المؤاخاة فلم يعد ثمة صليبة وحلفاء بل إن الجميع إخوة بموجب الرابطة العقدية والاجتماعية الجديدة، وهي الرابطة التي هيأت للنبي () الظرف المناسب لتولي زعامة المسلمين جميعاً في المدينة المنورة.
    ثم أعقبتها الخطوة الثانية التي تمهد لقبول بقية الأطراف الرئيسة في المدينة التسليم بهذه الزعامة، وتمثل هذه الخطوة بإعلان النبي () الصحيفة المدنية التي نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة، التي نصت على أن أي خلاف في فهم مضامين هذه الصحيفة فإن الحكم فيه هو النبي ()، وهذا إقرار صريح وتسليم بالزعامة الكلية له، وجاءت بعد ذلك عوامل التربية الروحية التي تؤكد على وجوب طاعة النبي، بل إن طاعته من طاعة الله تعالى، لترسخ مفهوم القيادة السياسية والروحية للنبي في المجتمع الجديد.
    أما القول إن المهمة التي تولاها الصحابي الجليل مصعب بن عمير () في المدينة ودامت عاماً كاملاً هي التي مهدت لقيام هذه الدولة، فإن ذلك يقوم على قصور في إدراك الحقائق، فإن النص الوارد في كتب السيرة ويشير بعد انتهاء هذا العام إلى أنه لم تبق دار في يثرب إلا وفيها ذكر للإسلام، فإنه لا يعني ضرورة اعتناق جميع الناس الإسلام، بل يعني النص في غالب الأمر شيوع ذكر الإسلام وأخباره على صعيد تناقلها بين الناس، بدلالة أن يثرب اشتملت على أعداد غير قليلة من مشركي الأوس والخزرج بعد الهجرة.
    ثم إن أعداد المنافقين تؤكد مثل ذلك أيضاً وقد كانوا عدة مئات من الرجال، في مجتمع الأوس والخزرج الذي لم يكن كبيراً جداً، بل إن المهمة الرئيسة لمصعب بن عمير () بعد تعليم الناس القرآن وتعاليم الدين الجديد دعوة بقية كبراء القوم إلى الإسلام، وهو ما نصت عليه كتب السيرة بوضوح بمعنى أنه استكمل الجهد المتجه نحو النخبة.
    خلاصة هذه القراءة المركزة لمعطيات السيرة النبوية أن النبي () في سعيه لإقامة الدولة ركز جهداً كبيراً على مخاطبة (النخبة) ولكنها النخبة (القادرة) على إجراء (تغيير فوقي) في بنية السلطة السياسية تمهد لأن يكون الإسلام هو القوة الحاكمة المتقلدة للأمور، الأمر الذي يمهد لإقامة نظام الحياة على وفق التصور الإسلامي لها، وبالتالي لم يكن التثقيف الشامل الواسع النطاق هو المنهج الذي توصل إلى إقامة كيان الإسلام ودولته، بل إن التثقيف الدعوة عمل مكمل للتغيير السياسي المقصود والمبرمج والمخطط الذي يفضي إلى تولي السلطة السياسية في البلاد، ومن ثم استكمال عملية التغيير في البنى الأخرى في المجتمع.
    \

    أستاذ مادة التاريخ في كلية الآداب \ جامعة الموصل
    الإنسان : موقف

  2. #2
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    بعظيم الامتنان أتقدم لاستاذي الكبير الدكتور موفق الجوادي بأعتراضاتي في ست وقفات
    وكما علمتني وأنت خير معلم ملهم أن لاأقبل الا مايوافق رؤيتي لاعود اليك ناصحا ً ومرشدا ً ومبينا ً مواضع الزلل ... لعل الله يحدث بعد ذلك أمر اً


    أولا ً
    قولك
    فالمرحلة الحاسمة في عمل النبي () تمثلت بإقامته (دولة) المدينة التي قامت بعد الهجرة إلى يثرب
    أقول
    مصطلح ( الدولة ) الوارد هنا لايؤخذ منه أعتبار قيام حكومة كما في مفهومنا اليوم تتضمن مؤسسات ووزارات وهيئات متابعة وتنفيذ وتشريع وفق مانلمسه في دولنا هذه الايام
    انما يمكن تسمية فعل الرسول عليه الصلاة والسلام أنه اقام نظام ادارة لشؤؤن الافراد للمجتمع الناشىء وفيه جدول الحقوق والواجبات لكافة شرائح المجتمع ومن ضمنهم يهود المدينة

    ثانيا ً
    قولك
    قال الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ: "لا بد من إمارة برة أو فاجرة"،

    لايصح ان نفهم من قول الامام قبولنا بالولاية الفاجرة انما أشار رضوان الله تعالى عليه الى رفض الاسلام أي حاكم أو أي نظام حكم يدعو الى عكس مراد الله تعالى في شؤؤن العبادات كأن يمنع الناس من أقامة الصلاة او أداء فريضة الحج ومثل هذه الولاية تدعى غير شرعية
    اما الولاية الفاجرة فهي الولاية التي تتظاهر بلبوس التدين وتدير شؤؤن الناس وفق أ÷واء الحاكم وجلبا ً للمنافع له ولمن حوله من المنتفعين
    وهنا أختلف العلماء في كيفية رد فجور هذا الحاكم مابين عزله بالطرق السلمية ان كان لاهل الحل والعقد الرأي الملزم ومابين الانصياع لحكمه خوف الفتنة في حال كون رأس أهل الحل والعقد دور توجيهي فقط .


    ثالثا ً
    قولك
    فواجب إقامة الإسلام لا يتم إلا بإقامة الدولة وواجب إقامة دولة الإسلام لا يتم إلا بالعمل الجماعي الجاد من أجل هذا الهدف
    أقول
    والعمل الجماعي هذا الا يوجب ان يكون العاملين به على مستوى من الوعي بالواجب وبعظم المهمة ونظرة واحدة لمجتمعنا الاسلامي اليوم تؤكد لك أستاذي الفاضل أن المجتمع غير مهيأ لتلك المهمة الجليلة
    ولنكن أكثر واقعية
    فالله تعالى الذي رفض منا شرب الخمر مثلا ً يعلم ان أمره هذا لن تستوعبه فئة من المسلمين ووحدهم وعاظ الترهيب والترغيب من باتوا مقتنعين ان مجرد ورود الامر يعني تطبيقه بالنسبية التي تقول عنها 100 %

    رابعا ً
    قولك

    من العرض الآنف تتبين أول ملامح منهج العمل لهذه الدولة، وهو التوجه نحو (النخبة) ودعوتها لقبول الرسالة الجديدة والعمل من أجلها، لأن هذه النخبة قادرة على إجراء (التغيير) المطلوب لإقامة الدولة، فهي التي تمتلك القوة و القرار الكفيلين بتحقيق هذا التغيير

    لم أفهم ماعنيته ب ( النخبة ) هل هم حكامنا أم مثقفونا أم زعماء العشائر ووجهاء البلاد

    ترى من بيده اليوم قرار التغيير والقوة هل سيقتنع بجدوى تحوله الى منهجية الاسلام وقبوله خسارة منصبه ومنافعه وهل يمكن تطبيق ماتذهب اليه على ارض الواقع فعلا ً ؟
    هل تريني شخص واحد اليوم عنده الاستعداد قبول منهج جديد من دون أية وعود بمكاسب دنيوية وتحولات اقتصادية لظرفه الحالي

    وربما مايفسر لنا الرفض أن بعض الناس بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام رفض وا الانصياع لامر خليفة الرسول ابي بكر رضي الله عنه

    أننا هنا نخطأ خطا ً جسيما ً عندما نجعل السبب نتيجة ونجعل قبول الزعامة جاءت منفصلة عن قبول الدخول في الدين الجديد بدلالة قولك استاذي المكرم (توجه النبي إلى يثرب التي باتت تعرف بالمدينة، ولما بلغها استقبله أهله بحفاوة وتكريم وحب قل مثيله، وكان ذلك بصفته (النبي) الذي سيهديهم إلى سبيل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
    لكن الأمر لم يتضمن في البداية أية دلالات على (زعامة) سياسية )

    \

    خامسا ً
    أن مايحصل اليوم هو عكس ماأشرت اليه في قولك

    فبموجب هذه المؤاخاة انتفت الأخوة القبلية لتحل محلها أخوة العقيدة

    واصفا ً حال الصحابة أول هجرتهم الى يثرب
    اليوم تزداد فرقة المسلمين مبتعدين عن المؤاخاة وتتحزب المذاهب والطوائف والجماعات والعرقيات والقوميات والكل يصيح أنهم هم المسلمون الذي لازالو ا في انتظار تطوين الدولة الاسلامية والامنيات شىء والامكانات شى آخر

    سادسا ً
    قولك

    ثم أعقبتها الخطوة الثانية التي تمهد لقبول بقية الأطراف الرئيسة في المدينة التسليم بهذه الزعامة، وتمثل هذه الخطوة بإعلان النبي () الصحيفة المدنية التي نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة

    ليس أنشاء الصحيفة هو الامر المدهش بل قبولها من قبل الذين تلقوا هذه الصحيفة بالانصياع التام لضوابطها ضمن ميزان الحقوق والواجبات
    كان الصحابة وباقي سكان المدينة يؤدون مايتوجب عليهم ثم يطالبوا بعد ذلك بحقوقهم
    تماما ً عكس مانفعل نحن اليوم فنطالب بكامل حقوقنا بغض النظر عن تأدية أبسط واجباتنا تجاه أية صحيفة تنظم حياتنا الاجتماعية وفق الرؤية الشرعية

  3. #3
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    وعدني أستاذي بالرد على طروحاتي

    وأنا منتظر

  4. #4
    الصورة الرمزية الصباح الخالدي قلم متميز
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : InMyHome
    المشاركات : 5,766
    المواضيع : 83
    الردود : 5766
    المعدل اليومي : 0.86

    افتراضي

    ننتظر معكم حتى حين
    اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

  5. #5
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الفاضل الاديب والمفكر خليل حلاوجي

    اسجّل لك الشكر , لنقلك هذه المحاور الفكرية , فيما يتعلق بمفهوم الدولة , في الاسلام , ولعل الدكتور موفق الجوادي , قد قدّم في هذه النظرة , ما تفوق به على الكثيرين , ممن كتب في هذا الاطار , ولا اريد ان اتداخل في الموضوع , في هذه العجالة , لأبين مدى توافقي مع هذه النظرة , او عدم توافقي معها , فربما عدت الى ذلك في وقت لاحق , وخاصة بعد الرد المنتظر , من المفكر الدكتور موفق الجوادي , على النقاط التي وقف عندها الاديب والمفكر خليل حلاوجي , بقدر ما اريد ان اعبّر صراحة , عن اعجابي بهذه المداولة الغنية .
    ولأخي الغالي الاستاذ خليل حلاوجي , كل المحبة , راجيا منك ان تنقل للمفكر الدكتور موفق الجوادي , مدى تقديرنا الكبير .

    اخوكم
    السمان

  6. #6
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 301
    المواضيع : 146
    الردود : 301
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي من باب أتاحة الفرصة للرأى الآخر ليعبر عن نفسه أقدم لكم هذا الطرح للكاتب حسن خليل غريب

    لما نعق « غربان البين» ونعوا الفكر القومي العربي وأعلنوا وفاته، فإنما فعلوا ذلك ليس لأن الفكر قد مات فعلاً، وإنما كان نعيقهم عبارة عن أمنية يحلمون بتحقيقها. أما الواقع فهو ليس كذلك، وإنما ما بدا للآخرين موتاً إنما كانت عوارض من الضعف ميَّزت أداء القوميين العرب، منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي.

    أما أسباب الضعف فتعود إلى مواجهات عديدة ساقتها بعض التيارات السياسية والإيديولوجية العربية، ويأتي على رأسها تياران أمميا الأهداف والهوى وهما: الماركسيون العرب والتيارات السياسية الدينية العربية.

    ولم تكن مواقف المناهضين للفكر القومي العربي تشكل عامل الإضعاف الوحيد، وإنما أيضاً شكَّل سوء أداء التيارات القومية نفسها سبباً مساعداً. ومن أهم معالم السوء فيه هو أنها غلَّبت الصراعات السياسية فيما بينها فأتت على حساب الفكر وأضعفت انتشاره خاصة وأن تلك التيارات أغفلت أهمية تجديد الفكر وإغنائه، إذ كانت تلك المهمة تأتي في نهاية اهتماماتها.

    إننا نعتبر أن عوامل إعاقة الفكر القومي، ومنعه من الانتشار، يعود إلى سببين: الأول خارجي، والثاني داخلي.

    فحول السبب الخارجي وكان مصدره المخططات الاستعمارية والصهيونية التي عملت منذ البداية على منع انتشار أي فكر وحدوي منذ اتفاقية سايكس بيكو. والتقطت نقاط الخطورة فيه، فوضعت الحواجز السياسية والجغرافية، وارتقت بها، في تاريخنا المعاصر، إلى صياغة حواجز فكرية وضعت لنشرها وتعميقها وترسيخها كل وسائل إعلامها، وظهرت بأوضح معالمها في إيديولوجيا «صراع الأفكار» و«صراع الحضارات».

    أما السبب الثاني، فقد تلاقى السبب الخارجي على محاربة الفكر القومي مع تيارات سياسية ودينية داخلية يقودها عدد كبير من النُخب الدينية السياسية من جهة، وتيارات الماركسية وأحزابها الشيوعية من جهة أخرى.

    وعلى الرغم من أن التيارات القومية لم تشكك بأن الفكر القومي هو فكر الحداثة والمعاصرة والمستقبل أيضاً، الذي لا يرى للأمة العربية مستقبلاً من دونه، فواجهت الآخرين بصفوف متفرقة السبب الذي جعلها تحصد الوهن والضعف في مواجهة التيارات الأخرى وتراكمها على الوهن الذي كان حصيلة الصراعات فيما بينها.

    أولاً: تحالف أممي سياسي يقف في صف العداء للفكر القومي العربي

    لقد انقسم « غربان البين» من الذين نعوا الفكر القومي إلى ثلاثة ألوان يجمعهم العداء له، وهم:

    -الصهيونية والاستعمار صانعا سايكس بيكو بطبعتها القديمة، وهي سياسة استراتيجية لم تفقد أهميتها منذ مطلع القرن الماضي. وقد جاءت في حينها نتيجة طبيعية تنسجم مع إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتفتيت وحدويتها، وبالأخص منها الجزء العربي لاعتبارات عديدة.

    -التيارات السياسية الإسلامية، التي استفاقت على انهيار الدولة العثمانية، منذ أوائل القرن الماضي، وحلَّ بديلاً عنها نظام استعماري وصهيوني، فأعلنت هدف استعادة نظام الخلافة الإسلامية. ولأن هذا النظام كان نظاماً أممياً، تحول دون استعادته الدعوات القومية اعتبرت تلك التيارات أن أية دعوة قومية ستحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي الإسلامي.

    -التيارات الأممية ذات المنحى المدني، وبشكل خاص الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية، والسبب هو اعتبارها أن أية دعوة للقومية العربية سيكون عائقاً يحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي، أي بناء دولة عالمية تقودها طبقة البروليتاريا.

    ثانياً: استعادة تاريخ العدائية لأنها لا تزال مستمرة في المرحلة الراهنة

    1-تيار الأمميين الماركسيين: ليس تذكيرنا بالتاريخ آتٍ من أجل إحياء ما لا فائدة منه، بل لأنه على علاقة وثيقة ليس بحاضر الأمة فحسب، وإنما بمستقبلها أيضاً. وليس هدفه معالجة قضايا نظرية قومية فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بمجريات الصراع الحاضر أيضاً.

    ليس تذكيرنا بالتاريخ السياسي آتٍ من أجل النظر بالجملة إلى هذا الصراع فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بتفصيلات هذا الصراع أيضاً، وهو لا يزال يترك تأثيراته السلبية على كل جوانب المواجهة التي تخوضها الأمة العربية ضد العدوان الإمبريالى الصهيوني المستمر والمتصاعد. خاصة وأن تفصيلات هذا العدوان الآن ماثلة في ساحات قطرية ثلاث: فلسطين ولبنان والعراق. وفي تلك المواجهة تخوض الحركة القومية العربية، إلى جانب المعركة مع الخارج، لا تزال الإيديولوجيا الأممية التي تنتشر في الداخل العربي، ماركسياً ودينياً سياسياً إسلامياً، تشكل معرقلاً لا يُستهان به في معركة المقاومة والتحرير.

    فنحن إذا نظرنا إلى مواقف تلك القوى من الصراع الدائر على الساحات الثلاث سنخرج بانطباعات استراتيجية تدل بما لا يقبل الشك بأن للقوى الثلاث: الاستعمار والصهيونية من جانب والأمميتان الماركسية والدينية الإسلامية من جانب آخر، علاقة وثيقة بالصراع الدائر الآن، بحيث تصطف أجنحتها في مواجهة يقف فيها التياران الإسلامي والماركسي في مواجهة الاستعمار والصهيونية، ولكن لكل منهما رؤيته الخاصة واستراتيجيته الخاصة. وللأسف تتناقض استراتيجيتهما مع استراتيجية الفكر القومي في أكثر جوانبها.

    إذا نحن قمنا باستثناء بعض القوى، من التيارات الإسلامية التي نستطيع تصنيفها في دائرة التوافق القومي الإسلامي وهم ليسوا قلة، ومن التيارات الماركسية التي تقترب مواقفها من الاستراتيجية القومية، وهم ليسوا قلة أيضاً، لا بدَّ من أن نشير إلى كثير من الزوايا الاستراتيجية الشاذة التي يعمل على هديها عدد من التيارات الإسلامية والماركسية.

    وإذا استثنينا، لأغراض لها علاقة بحدود هذا المقال، كلاً من الساحتين اللبنانية والفلسطينية، سنحصر اهتمامنا بالقضية العراقية، التي من خلالها سنطل على مختلف جوانب التناقضات التي تحكم العلاقات غير السليمة بين التيارين الأممين والتيار القومي.

    لقد حصر بعض التيار الماركسي نفسه في ثنائية «الاحتلال والديموقراطية» منحازاً بموقفه إلى جانب تحميل ما يسميه «الديكتاتورية» مسؤولية احتلال العراق، وبمثل هذا الموقف تاه عن سلوك الطريق الصحيح فشارك في العدوان على العراق، وساند الاحتلال الأميركي ووقف إلى جانبه. وبمثل هذا الموقف غلَّب القضية الديموقراطية على القضية الوطنية، فانحدر نحو الخيانة الوطنية.

    وإذا كانت الخيانة الوطنية مفهوماً تشريعياً حديثاً ترافق مع تأسيس الدولة القومية الحديثة ولا يفهمه بعمقه وروحه إلاَّ القوميون، فقد دلَّت تجربة العراق على قاعدة مفهومية الأمميين أن «الخيانة الوطنية» ليست مسألة ذات علاقة بقيمة إنسانية عليا.
    وتبريراً لعزوفه عن الانخراط بمواقف نضالية تُرتِّب عليه مسؤوليات في التحرير وموجبات في الدعم والإسناد، حشر بعضه الآخر نفسه في موقف غير مفهوم، مدَّعياً أن جهله بطبيعة التركيبة الطبقية للمقاومة العراقية تشكل حائلاً دون اتخاذه تلك المواقف العملية. فهو لن يشارك في مقاومة قد تعود نتائجها لمصلحة البورجوازية. وبالأخص إذا عاد حصاد تلك النتائج لمصلحة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يمثِّل بمنظار هذا التيار ممثِّلاً للشوفينية القومية والطبقة البورجوازية.

    ليس من المفيد الغرق في رد تلك الاتهامات، بل من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الديموقراطي، في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير الوطني، فكما أن الاحتلال لن يجلب الديموقراطية للشعوب المسلوبة أرضها، فإن الشعوب ستخسر سيادتها الوطنية ولن تربح الديموقراطية.

    كما أنه من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الطبقي في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير، فكما أن الاحتلال لن يعمل من أجل الطبقات الكادحة بل هو احتل لكي يعيث فيها استغلالاً، ولا عجب من ذلك لأن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية. وتحت الاحتلال ستخسر الشعوب سيادتها الوطنية وهي لن تربح مصلحة الطبقة العاملة.

    لقد عكست بعض التيارات الماركسية منطق العلاقة بين التكتيك والاستراتيجيا، حينما أعطت الأولوية للنضال من أجل «التكتيكي» الذي يمكن تأجيله، أي جانب التناقضات المطلبية الطبقية والديموقراطية، على النضال من أجل «الاستراتيجي»، أي التحرر من الاحتلال الرأسمالي الذي سيركل «البروليتاريا والديموقراطية» برجله، بينما كان المنطق يدعوها إلى أن تنخرط في معركة التحرر الوطني كونها التناقض الرئيسي، ومن بعد إنجازها تنتقل إلى مرحلة صراع التناقضات المطلبية كونها التناقض الثانوي.

    ومن أسوأ الأمور أن تنخرط بعض التيارات الماركسية تحت راية النظام الرأسمالي الاستعماري من أجل جلب الديموقراطية للشعوب.
    إن ترتيب أولويات الصراع، بشكل منطقي، قد ميَّزت مواقف بعض تيارات الماركسيين والشيوعيين العراقيين ممن أدركوا حجم المخاطر التي تحيط بالأمة الواقعة تحت الاحتلال. ووجدوا أنه لا يمكن التفرغ للنضالات المطلبية في ظل الاحتلال، لأن الشرط الموضوعي والمدخل الطبيعي لها لن تكون من بوابة الاحتلال بل من بوابة التحرر الوطني وهو ما جعلهم يحسمون موقفهم إلى جانب مقاومة التناقض الرئيسي، خاصة وأنه تحوَّل إلى احتلال عسكري مباشر للأرض العربية، مروراً باحتلال العراق كخطوة أولى سيتفرغ بعدها لاحتلال كافة الأراضي العربية سواءٌ أكان عبر احتلال قمة الهرم السياسي للأنظمة العربية، أم كان باحتلال عسكري مباشر لأراضي الأقطار التي لا تستجيب أنظمتها للإملاءات الاستعمارية والصهيونية.

    2-تيار الأمميين في الحركات الدينية السياسية: أما التيارت السياسية الإسلامية فلها شواذاتها الاستراتيجية أيضاً، ولنا على الساحة العراقية المثال الأبرز والأكثر دلالة على تلك الشواذات.

    لقد اجتمع في تحالف واحد متناقضان، وقد جمعهما تحالف شاذ، لم يستطع أحد أن يقوم بتفسيره، وهما: التيارات السياسية الدينية «السنية»، والتيارات السياسية الدينية «الشيعية»، واجتمعا تحت سقف واحد «الاحتلال الأميركي» في العراق. وطريقة تعاملهما معه أكثر من واضحة.

    إن التيارات السياسية الدينية «الشيعية» بكل تشكيلاتها ومسمياتها المعروفة في العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، إذ كانت ممنوعة من النشاط، ليس لأسباب «ديكتاتورية» أو «ديموقراطية»، بل لأسباب تهديدها لأواصر النسيج الوطني في العراق.

    وإن التيارات السياسية الدينية «السنية»، بتشكيلها الرئيسي «الحزب الإسلامي في العراق» المدعوم من بعض التيارات المنبثقة عن «الإخوان المسلمين» خارج العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، فهي كانت ممنوعة أيضاً من النشاط، للأسباب ذاتها التي مُنعت لأجلها التيارات السياسية الدينية «الشيعية».
    من المثير والمستغرب أن تلتقي حركتان دينيتان، تقوم أحدهما بـ«تكفير الأخرى»، في تحالف واحد. والأكثر استغراباً أن تقوما معاً بالتحالف مع ما تعتبرانه «عدواً كافراً».

    إنهما تحالفا معاً تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفير أحدهما للآخر. كما تحالفا مع الاحتلال الأميركي تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفيره من قبل الطرفين معاً.

    فإذا كنا من السذاجة بمكان، واستغفلنا الطرفان، لكي نصدِّق بأن مشروعهما الإسلامي واحد مُوحَّد ومُوحِّد، فهل تصل بنا السذاجة مبلغاً لكي نصدِّق بأن تحالفهما مع الاحتلال الأميركي «العدو الكافر» يتوافق مع استراتيجيتهما الدينية الإسلامية؟

    إن من بديهيات الأمور، ومن أهم أركان الإسلام، عند الطرفين معاً،أن «الجهاد»، أي حماية «ثغور الإسلام»، هي الحد الأدنى الذي على «المسلم» أن يؤديه من دون نقاش أو تساؤل، فهو تكليف شرعي يمكن أن يتجاوز فيه كل الفتاوى الفقهية. أوَ ليس في هذا ما يدفعنا إلى الاستغراب والتساؤل عن أسباب تلك التحالفات؟

    من بديهيات الأمور أيضاً أن تعمل الحركات السياسية الدينية، من أجل إسقاط الأنظمة العلمانية، كخطوة أولى وأساسية لبناء «دولة دينية»، ولكن هل يجوز من أجل إسقاطها أن تتعاون مع من لا ترتبط مع دعاتها بأي رابط ديني أو وطني؟
    لقد اختارت الحركتان معاً أن تسقطا النظام العلماني في العراق، كنظام لا يتبنى الفقه الإسلامي مصدراً وحيداً للتشريع، ولكن أن يتعاونا ليس فقط مع احتلال «علماني» فحسب، بل يتبنى عقيدة دينية «أصولية مسيحية» يرفضها معظم المسيحيين أيضاً، فهنا تظهر وجوه الغرابة فيه.

    ثالثاً: التحالفات الشاذة تقية يمارسها أصحاب عقائد متناقضة

    لقد التبست وجوه التناقضات فيما نرى أنها «تحالفات شاذة»، وهي أن يلتقي على هدف واحد، محاربة الفكر القومي العربي، كل من الآتية مسمياتهم:

    -تيارات الماركسيين دعاة «الدولة الاشتراكية» مع ظاهرة الاستعمار الأميركي الداعية إلى «الدولة الرأسمالية»، خاصة وأن في الفكر الماركسي يضع الاستعمار في «قمة الهرم الرأسمالي»، حيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية.
    -تيار الماركسيين دعاة «الدولة المدنية»، التي هي الحد الأدنى لقيام «دولة لا تعترف بالدين»، مع دعاة قيام «دولة دينية» تعتبر الماركسية عدوها «العلماني» الأول.

    -تحالف التيارات السياسية الدينية: أنصار إيران بشتى مسمياتهم الذين يجاهدون من أجل تأسيس دولة إسلامية على قاعدة «ولاية الفقيه»، وتيارات تعود أصولها إلى إيديولوجيا الإخوان المسلمين الذين يجاهدون من أجل استعادة «الدولة الراشدة».
    -هذا التحالف، بـ«شذوذية» قواعده وتناقض أهدافه، يتحالف، ليس مداورة بل مباشرة مع قوى الاحتلال الأميركي التي لا تتناقض معها بالأهداف الإنسانية فحسب بل بالإيديولوجيا الدينية أيضاً.

    رابعاً: نقد التحالفات الشاذة بين العقائد الإسلامية المتناقضة خطوة على الطريق الوحدوي الصحيح

    حول هذا الجانب قد يأخذه بعض «المصطادين بالماء العكر»، من الذين يزايدون على الآخرين بمحبة «الوحدة الإسلامية»، سبباً يرفعون من أجله إصبع الاتهام بالدعوة إلى التفرقة، فنجيب بأن ما نراه نحن لهو حقيقة ماثلة في نصوص كل تيار منهم، المنشورة منها والمستورة، بأنهم يمارسون جميعهم التقية على بعضهم البعض عن سابق تصور وتصميم. وإذا كانوا ينشدون «وحدة المسلمين» فعلاً، فعليهم قبل كل شيء أن يعلنوا على الملأ إلغاء تلك النصوص، التي شكَّلت بالفعل أساساً لدينا استندنا إليه في النتائج التي نعلنها.

    إن ما أشرنا إليه من مظاهر تؤكد أن تلك التحالفات هي «شاذة» بالفعل. وقد التقت حول أهداف تكتيكية جامعة، يكمن أحدها للآخر، من بعدها ينقلب الواحد منهم ضد حليفه. أما المطلوب الرقم واحد فهو رأس الفكر القومي العربي، ورأس حلمنا الثابت في الوحدة العربية، ومن خلاله يستهدفون إحباط كل ما يمت بصلة إليهما. وليس من غرائب الأمور أن تكون المقاومة الشعبية العربية المسلَّحة على رأس تلك الأهداف، ليس لسبب آخر إلاَّ لأنها ذات هوى ولون وشكل وعمق وروح قومية وعربية.

    فهل من تفسير لذلك؟

    خامساً: العقائد السياسية الأممية والسياسية الدينية لا تكترث بمصلحة الأمة العربية الواحدة

    إن الاستعمار والصهيونية مذهبان استغلاليان، والاستغلال عندما يمتلك قوة التوسع يصبح عابراً للقارات. وتلك السمات والوقائع لا تنفصل عن حالهما في هذه المرحلة، ولا يمكنهما التمدد والانتشار من دون كسح الحواجز والعوامل التي تعيق حركتهما، والفكر القومي العربي، كفكر توحيدي إيديولوجياً وسياسياً ونضالياً، هو أكثر العوامل إعاقة لذلك المشروع.

    أما التيارات الماركسية، كتيارات لها حلمها الخاص في بناء دولة البروليتاريا العالمية، فقد عبرت الحدود القومية وأصبحت لا تشكِّل لها حاجة إيديولوجية أو سياسية، طالما أن هدفها الاستراتيجي كسح كل العوائق من أمام أهدافها الأممية. وهذا ما عبَّرت عنه بوضوح في كل سلوكاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية. وهذا ما طبع مواجهتها في عشرات السنين الماضية ضد تيارات الفكر القومي العربي من دون استثناء.

    يتبع

  7. #7
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 301
    المواضيع : 146
    الردود : 301
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي من باب أتاحة الفرصة للرأى الآخر ليعبر عن نفسه أقدم لكم هذا الطرح للكاتب حسن خليل غريب



    هذا ناهيك عن التيارات الدينية السياسية الإسلامية التي انتشرت بعد انهيار ما اعتبره البعض منها مركزية الدولة الإسلامية، بانهيار الامبراطورية العثمانية، وكانت أهدافها تروم استعادة تلك المركزية ولكن على أن تبني نواة أخرى، مقامة على قاعدة بناء دولة «الخلافة الراشدة»، تشكل جاذباً مركزياً تعمل على نشر الإسلام على المستوى الأممي من أجل بناء دولة سياسية إسلامية عالمية. وتلك دعوة أيضاً لا يمكن إلاَّ أن تكون عابرة للقارات والحدود، فهي بالتالي عابرة للحدود القومية والوطنية، وأصبحت أية دعوة للقومية العربية عندها وكأنها بديلاً، أو نقيضاً مع الدعوة للإسلام، فوضعتهما في موقع العدوين المتنافسين بحيث لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد.

    ولا يمكن المرور على ذلك من دون التنويه إلى مقولات تلك التيارات التي تردد أن «القومية ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام». وعلى خطى هذه التيارات، التي كانت محسوبة على الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، انتشرت دعوات دينية سياسية أخرى محسوبة على نظرية قيام دولة إسلامية بمنطلقات فقهية جديدة وهي دولة «ولاية الفقيه».

    تجمع هذه مع تلك الأهداف الأممية التي ترى في حدود الدولة القومية حائلاً دون ما يجاهدان من أجله. أما النتيجة التي نصل إليها من خلال النظر إلى استراتيجيتهما معاً فهي أنهما أحلاَّ الولاء للدين مكان الولاء للوطن، لا بل أحلاَّ الولاء للمذهب مكان الولاء للدين والوطن معاً.

    ولن تكون نتائج محاكمتنا لكل من الأهداف الاستعمارية والصهيونية، ولأهداف الأممية الماركسية، بعيدة عن محاكمتنا لأهداف التيارات الدينية السياسية الإسلامية، فكلهم أمميون على الرغم من أن أهداف كل منهم الاستراتيجية تتناقض تماماً وتتصارع. أما المؤسف في الأمر فهو أن كلاً منها ينشد الحصول على رأس الفكر القومي وأهدافه.

    فهل في هذا التوضيح ما يدفعنا إلى الاستغراب والاستهجان؟

    يا وحدنا، لقد توحَّد الأمميون كلهم من أجل محاربة الفكر القومي العربي، نظرية طالما استرشدت بها التيارات القومية العربية. وقام الأمميون بنعيه وهم يتحالفون اليوم على وأده.

    لن نقوم بمحاكمة هؤلاء محاكمة سياسية، من خلال نبش كل ما ارتكبوه من جرائم وخطايا وأخطاء من أجل الوصول إلى أهدافهم، بل عند المتتبعين لتاريخية الحالة ما يكفي من الأدلة والوقائع والبراهين. لكن لم يكن في نتائج مواجهة كل هؤلاء وأولئك ما يجعلهم مطمئنين إلى أن الفكر القومي العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولا نجد فيها ما يدفع الحريصين على هذا الفكر وأهدافه إلى اليأس والقنوط. فعند المقاومة الوطنية العراقية الرد الذي يغيظ المتحالفين ضدها لأنها تهتدي بالفكر القومي العربي الأصيل، وفيها ما يُحيي الأمل عند القوميين العرب من أجل تحضير أنفسهم لاستئناف النضال والجهاد، في وحدة متماسكة متجددة، من أجل وحدة أمتهم وحريتها عندما تتكسر أجنحة الاستعمار وقرونه على أرض الرافدين، وعندما تنعكس نتائج نضالات المقاومة الوطنية العراقية، بكل فصائلها وأجنحتها، أملاً في لجم وحشية العدوان الصهيوني في كل من فلسطين ولبنان بعيداً عن هواجس اجتياح «الإمبراطور الأميركي» للأمة والعالم. فهو على استعداد لسلب ما حققته المقاومة الفلسطينية واللبنانية من انتصارات ستبقى انتصارات تكتيكية من دون استكمالها بالنصر الاستراتيجي الذي تعمل المقاومة الوطنية العراقية على حياكته من دم مناضليها وحياتهم وتضحياتهم في المعاناة وطول الصبر على الأذى الوحشي الذي يتعرَّض له الشعب العراقي.

    ولكي تتّضح أمام رؤيتنا أهمية الفكر القومي العربي، كنظرية حديثة ومعاصرة، وكنظرية للمستقبل، وعلى قاعدة نفي النظريات الأخرى ونقدها، نتساءل: هل الفكر السياسي الأممي يصلح قاعدة لبناء دولة أممية؟

    لما أثبت التاريخ العربي الإسلامي أن الدولة الأممية الإسلامية، على الرغم من أنها استهلكت قروناً كثيرة من التجربة، أنها لم توفر العدالة بين رعاياها. وإنما كانت في شتى جوانبها، وأكثرها وضوحاً مرحلة حكم المماليك والأتراك العثمانيين، وسيلة للاستغلال والاضطهاد لصالح الطبقة الحاكمة.

    ولما أصبحت الدولة القومية، كمفهوم وتشكيل سياسي حديث، تحميها حدود جغرافية معترف بها دولياً، تجمع تعدديات دينية ومذهبية دينية، وأحياناً أقليات قومية، ألغت مفهوم الإمبراطورية، كشكل للدولة القديمة التي كانت حدودها تبقى مفتوحة طالما كان الإمبراطور يمتلك القوة العسكرية اللازمة لضم أراض أخرى.
    ربما لا تزال الدعوات الأممية، الاستعمار، والماركسية، والتيارات السياسية الدينية، تحن إلى زمن الإمبراطوريات القديمة. وإذا كان للاستعمار قوة عسكرية تحفزه لتوسيع مناطق نفوذه بقوة السلاح، فإن التيارين الآخرين، ربما لديهما حوافز عقائدية تدفعهما إلى إبقاء الحلم الإمبراطوري ماثلاً للتحقيق.

    ولما فشلت مركزية التجربة الماركسية في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلاَّ أن ذلك لم ينه الحلم العقائدي الماركسي، وبدلاً من المحافظة عليه في إطاره الفلسفي الإنساني، إلاَّ أنه يبدو أن المشروع السياسي في أذهان الماركسيين لا يزال حياً.
    ولما فشلت مركزية الدولة الأممية الإسلامية وانهارت بانهيار الدولة العثمانية إلاَّ أن المثال التاريخي لا يزال جاهزاً في طموحات التيارات السياسية الدينية المعاصرة، هذا في بعض الجانب السني أما عند بعض الجانب الشيعي فقد أحيت نظرية «ولاية الفقيه» في إيران المثال التاريخي الصفوي. وعلى حد سواء يواجه الجانبان مسألة بناء «دولة دينية». وإن أشد ما يضعنا أمام حيرة هو أن الجانبين لا يأخذان حدود الدولة القومية على محمل الجد بل يؤسس كل منهما نظرياً، وقد يربطانه بالإرادة الإلهية، مشروع بناء «إمبراطورية» إسلامية عالمية، أي إمبراطورية عابرة للحدود.

    كان يكفي لبناء إمبراطورية دينية، أو أية إمبراطورية أخرى، امتلاك القوة العسكرية وهو الشرط الوحيد والكافي للتوسع الجغرافي. وسبب كفاية هذا الشرط كان غياب نظام دولي يحمي حدود الدول، بل أساساً لم تكن الدولة القديمة ذات حدود معترف بها، وإنما كانت الشعوب كلها مؤهلة لأن تكون غالبة، وتطمح لأن تشكل إمبراطوريات على حساب الشعوب المغلوبة. أما اليوم فقد تغيرت الظروف والأنظمة ومفهوم الدولة. إلاَّ أن أصحاب الدعوة إلى بناء دولة أممية دينية لم تشكل بعد حقائق العالم الجديد قناعة لديهم، بل هم لا يزالوا يعيشون في عصور عفى عليها الزمن. ومن تلك الحقائق التي أصبحت مرفوضة ومدانة وممنوعة هي أن تكون حدود الدول مُستباحة تحت أي ذريعة أو سبب.

    وما لم يعترف أصحاب الأهواء الدينية السياسية بتلك الحقائق ستبقى حدود الدول والقوميات في نظرهم عرضة للاستباحة والغزو، وستبقى الدولة القومية غير ذات معنى لديهم، بل والأمرُّ من كل ذلك، وعلى الصعيد القومي العربي الخاص، أن تعتقد تلك التيارات بأن «القومية العربية ما خلقت إلاَّ لمحاربة الإسلام».

    إن الاعتراف بالقومية أولاً، والقومية العربية ثانياً، والاعتراف بحقيقة أن النظام السياسي للقومية العربية هو نظام تتساوى أمامه كل التعدديات ثالثاً، هي من حقائق العالم الحديث. بينما كل تلك الحقائق مرفوضة من تلك التيارات، وهذا ما يفسِّر لدينا عدم اكتراثها بمفاهيم «الخيانة الوطنية»، لأنها لا تكترث بمفاهيم «السيادة الوطنية»، فحدود الوطن ليست حدودها، وإنما التعصب للمذهب والدين هي حدودها الوحيدة.

    سادساً: الفكر القومي العربي بوصلة استراتيجية لحزب البعث والمقاومة الوطنية العراقية

    لقد أخذ حزب البعث العربي الاشتراكي بحقائق العالم المعاصر، واعتبر أن القومية العربية حقيقة العصر، ولا يمكن مواجهة النظام العالمي الإنساني الجديد إلاَّ بفكر موحَّد وموحِّد، ولا يمكن تحقيق العدالة بين مواطني الدولة العربية بتشريعات تقوم على قاعدة المصالح الفئوية، سواءٌ أكانت قومية أم دينية أم مذهبية دينية، بل تستفيد من كل ما يوحِّد من تشريع قومي أو ديني أو مذهبي وتستبعد كل ما يزرع الشقاق والتنافر بين أبناء الدولة القومية المدنية الواحدة.

    أما من أهم عوامل النصر الذي تصنعه المقاومة الوطنية العراقية، فهي أنها تسترشد بالفكر القومي العربي. وهو الفكر الوحيد الذي يضع كل إمكانيات الأمة في مواجهة العدوان الخارجي من دون «تقية»، فهي واضحة تمام الوضوح في أهدافها الاستراتيجية، كما هي واضحة كل الوضوح في وسائلها التكتيكية. وتسير على هدي «توظيف كل الإمكانيات في المعركة الكبرى»، وعلى هدي تغليب مصلحة الوطن والأمة على أي مصلحة أخرى، وهي ترى أن المصالح الفئوية، الطبقية والمذهبية الدينية، لا يمكن أن تتحقق في ظل وطن منقوص السيادة مرتهن للاستعمار والصهيونية.

    أما التناقضات الأخرى، باستثناء ما وُظِّف منها لتبرير العمالة مع الاحتلال الأميركي، فهي شأن داخلي عراقي أو عربي فستبقى في دائرتها الطبيعية التي عليها أن تأخذ حقها الكامل في الحوار السياسي والفكري في مرحلة ما بعد تحرير العراق تحريراً غير منقوص.

    تمتلك المقاومة الوطنية العراقية، عمقاً فكرياً ولوجستياً استراتيجياً، تشكل مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، كرائد أساسي من روَّاد الفكر القومي، القاعدة والأساس الفكري، وهو ما أسهم في وضع الأسس اللوجستية السياسية والعسكرية للمقاومة الوطنية العراقية.

    لم ينصب حزب البعث العربي الاشتراكي والمقاومة الوطنية العراقية «فخاً» لأي كان، ولم يمارسا «تقية» في تحالفاتهما، بل هما واضحان تمام الوضوح، سواءٌ ما جاء في دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر القومي الأول في العام 1947، أم ما جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته المقاومة في 9/ 9/ 2003، حيث أكَّد الدستور على أن:

    -«الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة»، لذلك يقرر الحزب «النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً». ودعا إلى أن «يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم».
    وحسماً للجدل مع كل التيارات الأممية، ومنها التيارات السياسية الدينية، أكَّد الحزب على أن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية». على أن « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».

    ومن أجل أن يتساوى مواطنو الدولة بالحقوق والواجبات اعتبر دستور الحزب أن «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها». و« قيمة المواطنين تقدر، بعد منحهم فرصاً متكافئة، بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر». كما أكَّد على أن «تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية وأخلص للوطن العربي وانفصل عن كل تكتل عنصري».
    فعلى تلك الأسس يطمئن كل صاحب مذهب على مذهبه، وكل من اعتقد على معتقده، فالدولة الوطنية حريصة على حمايتهم، وعلى مساواتهم بالحقوق والواجبات، ومنها تصبح حماية سيادة الدولة القومية أو الوطنية من واجبات جميع المواطنين، والاستقواء بأية قوة خارجية تُعتبر تهمة يعاقب عليها القانون بـ«الخيانة العظمى».

    إن الرابط القومي، أو الوطني، إذا نال قسطه من الاهتمام تربوياً، سيكون النقيض الأساس لكل رابط آخر، وستُعتبر الحدود الجغرافية من الأسس الثابتة التي تجعل جميع الذين يسكنون عليها شركاء في الدفاع عنها وحمايتها. وخارج هذا المفهوم ستبقى الدعوات الأممية السياسية مناقضة للمفاهيم القومية تجيز لمواطن الدولة المدنية الحديثة أن يرتكب جريمة الخيانة الوطنية العظمى، لأن المخدوعين بتلك الدعوات سيفتقدون أي شعور بالانتماء إلى وطن، بل إلى إيديولوجيات لا تعترف بالقيم الوطنية، بل هي لا تنتمي إلى مكان بل إلى أيديولوجيا عابرة للحدود. ومن هنا نعتبر أن كل الدعوات الأممية السياسية دعوات لا تمت إلى الروابط الوطنية أو القومية بأية صلة. وحتى لا نُفهم بأن الحزب يدعو إلى شوفينية قومية، وكي لا تتحول حدود القوميات إلى مراكز للتعصب والشوفينية، تأتي مسألة التمييز في تعريف الأممية لتزيل مخاوف الخائفين.

    كما للعولمة وجوه سلبية، ووجوه إيجابية، فللأممية كذلك. وما يزيل الالتباس بين تلك الوجوه هو تعريف مضامينها.

    فالعولمة أو الأممية لها أبعاد إنسانية، وهي القيم العليا، أو المُثُل العليا، التي تشكل جامعاً بين شتى شعوب العالم، على شتى تعددياتهم الدينية والسياسية والاقتصادية، ستبقى الحصانة الوحيدة والأكثر ضماناً لمنع الشوفينية القومية، وكذلك التعصبية الدينية والمذهبية الدينية، من أن تتسلل إلى المجتمعات القومية، بل تبقى العامل الأكثر واقعية في فتح جسور التفاعل بين الشعوب على مستوى رفد الحضارة الإنسانية بكل عوامل التوحد ومنع الحروب والصراعات أو التخفيف من آثارها السلبية. ومن هنا لا تتناقض الدعوة إلى القومية مع الدعوة إلى أممية تقودها مفاهيم القيم العليا المطلقة، سواءٌ أكانت قيماً إنسانية نصّت عليها الكتب الدينية المقدَّسة، أم كانت أعرافاً وتقاليداً وأفكاراً، تناقلتها الحضارة الإنسانية عبر تطورها المعرفي عبر التاريخ.

    سابعاً: المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي، نظرية وعملاً، حيويته وأهميته.

    وكما أن فكر البعث عبَّر عن أهمية الرابط القومي، على قاعدة من مفاهيم الأممية الإنسانية، جاء المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة الوطنية العراقية ليؤكد على أهمية النضال ضد الاستعمار من داخل تجربة ميدانية تدور على أرض العراق، وفيها ربط العلاقة بين واجب تحرير العراق من الاحتلال وواجب مشاركة كل العراقيين في التحرير. وعلى هذا الأساس وعد المنهج بـ« باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق»، ودعا إلى «تعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى».

    وكما وعدت قيادة المقاومة باستمرارية المواجهة فقد أوفت بوعدها، وكما دعت إلى تعميمها فهي اليوم تشمل كل الأطياف الدينية والسياسية، وتغطي كل الساحة العراقية، كما هي حريصة على تعميق العمل الجبهوي من دون أية شروط إلاَّ التفرغ لقتال المحتل حتى طرده نهائياً من العراق.

    وهكذا، وبعد أن انتظر الناعقون إعلان وفاة الفكر القومي العربي، وبعد أن أصاب الوهن التيارات القومية العربية، جاءت المقاومة الوطنية العراقية لتعيد الحيوية للتيارات القومية والشارع العربي لتعلن أن الحل الوحيد للأمة على المستوى السياسي عليه أن يمر عبر المشروع التوحيدي الشعبي العربي وليس عبر الأنظمة الرسمية، وهذا عليه أن يوظف الطاقات الشعبية في مقاومة الاستعمار والصهيونية عبر «الكفاح الشعبي المسلح».

    وبهذا على التيارات القومية العربية أن تحضِّر نفسها لملاقاة نتائج نضال تلك المقاومة، وتعمل على استثمارها في إعادة الحيوية السياسية والفكرية للمشروع القومي العربي. وعلى التيارات الأخرى التي ناهضت ذلك المشروع، أو أظهرت العداء له، أن تعيد حساباتها بعد أثبت الواقع أن مشاريعها السياسية لن تلبي حاجات القومية العربية في التحرر والوحدة، ومن هو عاجز عن تلبية مصالح أمته وقومه فلن يكون إلاَّ عاجزاً عن تحقيق آماله الأممية، أو قل أوهامه السياسية الأممية.

    وما هو مطلوب منها على الأقل أن تترك مواقعها العدائية ضد من أثبت أنه بالفعل يشكل صمام الأمان في الدفاع عن الأمة والجماهير وحمايتها. ولم ينزلق، كما انزلقت هي، إلى متاهات خيانة سيادة الشعب العربي على أرضه وموارده تحت حجج أممية واهية. وهذه تجربة العراق تشكل الدليل الأكبر. فعسى أن تعود تلك التيارات إلى رشدها، وتشارك في طرد الاستعمار والصهيونية أولاً كخطوة ضرورية وواجبة على طريق الحوار بين أهل البيت الواحد بعد أن يطمئنوا على تحريره بشكل كامل.
    "دورية العراق"

  8. #8
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 301
    المواضيع : 146
    الردود : 301
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي من باب أتاحة الفرصة للرأى الآخر ليعبر عن نفسه أقدم لكم هذا الطرح للكاتب سعد سرياقوس

    لما نعق « غربان البين» ونعوا الفكر القومي العربي وأعلنوا وفاته، فإنما فعلوا ذلك ليس لأن الفكر قد مات فعلاً، وإنما كان نعيقهم عبارة عن أمنية يحلمون بتحقيقها. أما الواقع فهو ليس كذلك، وإنما ما بدا للآخرين موتاً إنما كانت عوارض من الضعف ميَّزت أداء القوميين العرب، منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي.

    أما أسباب الضعف فتعود إلى مواجهات عديدة ساقتها بعض التيارات السياسية والإيديولوجية العربية، ويأتي على رأسها تياران أمميا الأهداف والهوى وهما: الماركسيون العرب والتيارات السياسية الدينية العربية.

    ولم تكن مواقف المناهضين للفكر القومي العربي تشكل عامل الإضعاف الوحيد، وإنما أيضاً شكَّل سوء أداء التيارات القومية نفسها سبباً مساعداً. ومن أهم معالم السوء فيه هو أنها غلَّبت الصراعات السياسية فيما بينها فأتت على حساب الفكر وأضعفت انتشاره خاصة وأن تلك التيارات أغفلت أهمية تجديد الفكر وإغنائه، إذ كانت تلك المهمة تأتي في نهاية اهتماماتها.

    إننا نعتبر أن عوامل إعاقة الفكر القومي، ومنعه من الانتشار، يعود إلى سببين: الأول خارجي، والثاني داخلي.

    فحول السبب الخارجي وكان مصدره المخططات الاستعمارية والصهيونية التي عملت منذ البداية على منع انتشار أي فكر وحدوي منذ اتفاقية سايكس بيكو. والتقطت نقاط الخطورة فيه، فوضعت الحواجز السياسية والجغرافية، وارتقت بها، في تاريخنا المعاصر، إلى صياغة حواجز فكرية وضعت لنشرها وتعميقها وترسيخها كل وسائل إعلامها، وظهرت بأوضح معالمها في إيديولوجيا «صراع الأفكار» و«صراع الحضارات».

    أما السبب الثاني، فقد تلاقى السبب الخارجي على محاربة الفكر القومي مع تيارات سياسية ودينية داخلية يقودها عدد كبير من النُخب الدينية السياسية من جهة، وتيارات الماركسية وأحزابها الشيوعية من جهة أخرى.

    وعلى الرغم من أن التيارات القومية لم تشكك بأن الفكر القومي هو فكر الحداثة والمعاصرة والمستقبل أيضاً، الذي لا يرى للأمة العربية مستقبلاً من دونه، فواجهت الآخرين بصفوف متفرقة السبب الذي جعلها تحصد الوهن والضعف في مواجهة التيارات الأخرى وتراكمها على الوهن الذي كان حصيلة الصراعات فيما بينها.

    أولاً: تحالف أممي سياسي يقف في صف العداء للفكر القومي العربي

    لقد انقسم « غربان البين» من الذين نعوا الفكر القومي إلى ثلاثة ألوان يجمعهم العداء له، وهم:

    -الصهيونية والاستعمار صانعا سايكس بيكو بطبعتها القديمة، وهي سياسة استراتيجية لم تفقد أهميتها منذ مطلع القرن الماضي. وقد جاءت في حينها نتيجة طبيعية تنسجم مع إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتفتيت وحدويتها، وبالأخص منها الجزء العربي لاعتبارات عديدة.

    -التيارات السياسية الإسلامية، التي استفاقت على انهيار الدولة العثمانية، منذ أوائل القرن الماضي، وحلَّ بديلاً عنها نظام استعماري وصهيوني، فأعلنت هدف استعادة نظام الخلافة الإسلامية. ولأن هذا النظام كان نظاماً أممياً، تحول دون استعادته الدعوات القومية اعتبرت تلك التيارات أن أية دعوة قومية ستحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي الإسلامي.

    -التيارات الأممية ذات المنحى المدني، وبشكل خاص الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية، والسبب هو اعتبارها أن أية دعوة للقومية العربية سيكون عائقاً يحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي، أي بناء دولة عالمية تقودها طبقة البروليتاريا.

    ثانياً: استعادة تاريخ العدائية لأنها لا تزال مستمرة في المرحلة الراهنة

    1-تيار الأمميين الماركسيين: ليس تذكيرنا بالتاريخ آتٍ من أجل إحياء ما لا فائدة منه، بل لأنه على علاقة وثيقة ليس بحاضر الأمة فحسب، وإنما بمستقبلها أيضاً. وليس هدفه معالجة قضايا نظرية قومية فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بمجريات الصراع الحاضر أيضاً.

    ليس تذكيرنا بالتاريخ السياسي آتٍ من أجل النظر بالجملة إلى هذا الصراع فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بتفصيلات هذا الصراع أيضاً، وهو لا يزال يترك تأثيراته السلبية على كل جوانب المواجهة التي تخوضها الأمة العربية ضد العدوان الإمبريالى الصهيوني المستمر والمتصاعد. خاصة وأن تفصيلات هذا العدوان الآن ماثلة في ساحات قطرية ثلاث: فلسطين ولبنان والعراق. وفي تلك المواجهة تخوض الحركة القومية العربية، إلى جانب المعركة مع الخارج، لا تزال الإيديولوجيا الأممية التي تنتشر في الداخل العربي، ماركسياً ودينياً سياسياً إسلامياً، تشكل معرقلاً لا يُستهان به في معركة المقاومة والتحرير.

    فنحن إذا نظرنا إلى مواقف تلك القوى من الصراع الدائر على الساحات الثلاث سنخرج بانطباعات استراتيجية تدل بما لا يقبل الشك بأن للقوى الثلاث: الاستعمار والصهيونية من جانب والأمميتان الماركسية والدينية الإسلامية من جانب آخر، علاقة وثيقة بالصراع الدائر الآن، بحيث تصطف أجنحتها في مواجهة يقف فيها التياران الإسلامي والماركسي في مواجهة الاستعمار والصهيونية، ولكن لكل منهما رؤيته الخاصة واستراتيجيته الخاصة. وللأسف تتناقض استراتيجيتهما مع استراتيجية الفكر القومي في أكثر جوانبها.

    إذا نحن قمنا باستثناء بعض القوى، من التيارات الإسلامية التي نستطيع تصنيفها في دائرة التوافق القومي الإسلامي وهم ليسوا قلة، ومن التيارات الماركسية التي تقترب مواقفها من الاستراتيجية القومية، وهم ليسوا قلة أيضاً، لا بدَّ من أن نشير إلى كثير من الزوايا الاستراتيجية الشاذة التي يعمل على هديها عدد من التيارات الإسلامية والماركسية.

    وإذا استثنينا، لأغراض لها علاقة بحدود هذا المقال، كلاً من الساحتين اللبنانية والفلسطينية، سنحصر اهتمامنا بالقضية العراقية، التي من خلالها سنطل على مختلف جوانب التناقضات التي تحكم العلاقات غير السليمة بين التيارين الأممين والتيار القومي.

    لقد حصر بعض التيار الماركسي نفسه في ثنائية «الاحتلال والديموقراطية» منحازاً بموقفه إلى جانب تحميل ما يسميه «الديكتاتورية» مسؤولية احتلال العراق، وبمثل هذا الموقف تاه عن سلوك الطريق الصحيح فشارك في العدوان على العراق، وساند الاحتلال الأميركي ووقف إلى جانبه. وبمثل هذا الموقف غلَّب القضية الديموقراطية على القضية الوطنية، فانحدر نحو الخيانة الوطنية.

    وإذا كانت الخيانة الوطنية مفهوماً تشريعياً حديثاً ترافق مع تأسيس الدولة القومية الحديثة ولا يفهمه بعمقه وروحه إلاَّ القوميون، فقد دلَّت تجربة العراق على قاعدة مفهومية الأمميين أن «الخيانة الوطنية» ليست مسألة ذات علاقة بقيمة إنسانية عليا.
    وتبريراً لعزوفه عن الانخراط بمواقف نضالية تُرتِّب عليه مسؤوليات في التحرير وموجبات في الدعم والإسناد، حشر بعضه الآخر نفسه في موقف غير مفهوم، مدَّعياً أن جهله بطبيعة التركيبة الطبقية للمقاومة العراقية تشكل حائلاً دون اتخاذه تلك المواقف العملية. فهو لن يشارك في مقاومة قد تعود نتائجها لمصلحة البورجوازية. وبالأخص إذا عاد حصاد تلك النتائج لمصلحة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يمثِّل بمنظار هذا التيار ممثِّلاً للشوفينية القومية والطبقة البورجوازية.

    ليس من المفيد الغرق في رد تلك الاتهامات، بل من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الديموقراطي، في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير الوطني، فكما أن الاحتلال لن يجلب الديموقراطية للشعوب المسلوبة أرضها، فإن الشعوب ستخسر سيادتها الوطنية ولن تربح الديموقراطية.

    كما أنه من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الطبقي في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير، فكما أن الاحتلال لن يعمل من أجل الطبقات الكادحة بل هو احتل لكي يعيث فيها استغلالاً، ولا عجب من ذلك لأن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية. وتحت الاحتلال ستخسر الشعوب سيادتها الوطنية وهي لن تربح مصلحة الطبقة العاملة.

    لقد عكست بعض التيارات الماركسية منطق العلاقة بين التكتيك والاستراتيجيا، حينما أعطت الأولوية للنضال من أجل «التكتيكي» الذي يمكن تأجيله، أي جانب التناقضات المطلبية الطبقية والديموقراطية، على النضال من أجل «الاستراتيجي»، أي التحرر من الاحتلال الرأسمالي الذي سيركل «البروليتاريا والديموقراطية» برجله، بينما كان المنطق يدعوها إلى أن تنخرط في معركة التحرر الوطني كونها التناقض الرئيسي، ومن بعد إنجازها تنتقل إلى مرحلة صراع التناقضات المطلبية كونها التناقض الثانوي.

    ومن أسوأ الأمور أن تنخرط بعض التيارات الماركسية تحت راية النظام الرأسمالي الاستعماري من أجل جلب الديموقراطية للشعوب.
    إن ترتيب أولويات الصراع، بشكل منطقي، قد ميَّزت مواقف بعض تيارات الماركسيين والشيوعيين العراقيين ممن أدركوا حجم المخاطر التي تحيط بالأمة الواقعة تحت الاحتلال. ووجدوا أنه لا يمكن التفرغ للنضالات المطلبية في ظل الاحتلال، لأن الشرط الموضوعي والمدخل الطبيعي لها لن تكون من بوابة الاحتلال بل من بوابة التحرر الوطني وهو ما جعلهم يحسمون موقفهم إلى جانب مقاومة التناقض الرئيسي، خاصة وأنه تحوَّل إلى احتلال عسكري مباشر للأرض العربية، مروراً باحتلال العراق كخطوة أولى سيتفرغ بعدها لاحتلال كافة الأراضي العربية سواءٌ أكان عبر احتلال قمة الهرم السياسي للأنظمة العربية، أم كان باحتلال عسكري مباشر لأراضي الأقطار التي لا تستجيب أنظمتها للإملاءات الاستعمارية والصهيونية.

    2-تيار الأمميين في الحركات الدينية السياسية: أما التيارت السياسية الإسلامية فلها شواذاتها الاستراتيجية أيضاً، ولنا على الساحة العراقية المثال الأبرز والأكثر دلالة على تلك الشواذات.

    لقد اجتمع في تحالف واحد متناقضان، وقد جمعهما تحالف شاذ، لم يستطع أحد أن يقوم بتفسيره، وهما: التيارات السياسية الدينية «السنية»، والتيارات السياسية الدينية «الشيعية»، واجتمعا تحت سقف واحد «الاحتلال الأميركي» في العراق. وطريقة تعاملهما معه أكثر من واضحة.

    إن التيارات السياسية الدينية «الشيعية» بكل تشكيلاتها ومسمياتها المعروفة في العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، إذ كانت ممنوعة من النشاط، ليس لأسباب «ديكتاتورية» أو «ديموقراطية»، بل لأسباب تهديدها لأواصر النسيج الوطني في العراق.

    وإن التيارات السياسية الدينية «السنية»، بتشكيلها الرئيسي «الحزب الإسلامي في العراق» المدعوم من بعض التيارات المنبثقة عن «الإخوان المسلمين» خارج العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، فهي كانت ممنوعة أيضاً من النشاط، للأسباب ذاتها التي مُنعت لأجلها التيارات السياسية الدينية «الشيعية».
    من المثير والمستغرب أن تلتقي حركتان دينيتان، تقوم أحدهما بـ«تكفير الأخرى»، في تحالف واحد. والأكثر استغراباً أن تقوما معاً بالتحالف مع ما تعتبرانه «عدواً كافراً».

    إنهما تحالفا معاً تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفير أحدهما للآخر. كما تحالفا مع الاحتلال الأميركي تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفيره من قبل الطرفين معاً.

    فإذا كنا من السذاجة بمكان، واستغفلنا الطرفان، لكي نصدِّق بأن مشروعهما الإسلامي واحد مُوحَّد ومُوحِّد، فهل تصل بنا السذاجة مبلغاً لكي نصدِّق بأن تحالفهما مع الاحتلال الأميركي «العدو الكافر» يتوافق مع استراتيجيتهما الدينية الإسلامية؟

    إن من بديهيات الأمور، ومن أهم أركان الإسلام، عند الطرفين معاً،أن «الجهاد»، أي حماية «ثغور الإسلام»، هي الحد الأدنى الذي على «المسلم» أن يؤديه من دون نقاش أو تساؤل، فهو تكليف شرعي يمكن أن يتجاوز فيه كل الفتاوى الفقهية. أوَ ليس في هذا ما يدفعنا إلى الاستغراب والتساؤل عن أسباب تلك التحالفات؟

    من بديهيات الأمور أيضاً أن تعمل الحركات السياسية الدينية، من أجل إسقاط الأنظمة العلمانية، كخطوة أولى وأساسية لبناء «دولة دينية»، ولكن هل يجوز من أجل إسقاطها أن تتعاون مع من لا ترتبط مع دعاتها بأي رابط ديني أو وطني؟
    لقد اختارت الحركتان معاً أن تسقطا النظام العلماني في العراق، كنظام لا يتبنى الفقه الإسلامي مصدراً وحيداً للتشريع، ولكن أن يتعاونا ليس فقط مع احتلال «علماني» فحسب، بل يتبنى عقيدة دينية «أصولية مسيحية» يرفضها معظم المسيحيين أيضاً، فهنا تظهر وجوه الغرابة فيه.

    ثالثاً: التحالفات الشاذة تقية يمارسها أصحاب عقائد متناقضة

    لقد التبست وجوه التناقضات فيما نرى أنها «تحالفات شاذة»، وهي أن يلتقي على هدف واحد، محاربة الفكر القومي العربي، كل من الآتية مسمياتهم:

    -تيارات الماركسيين دعاة «الدولة الاشتراكية» مع ظاهرة الاستعمار الأميركي الداعية إلى «الدولة الرأسمالية»، خاصة وأن في الفكر الماركسي يضع الاستعمار في «قمة الهرم الرأسمالي»، حيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية.
    -تيار الماركسيين دعاة «الدولة المدنية»، التي هي الحد الأدنى لقيام «دولة لا تعترف بالدين»، مع دعاة قيام «دولة دينية» تعتبر الماركسية عدوها «العلماني» الأول.

    -تحالف التيارات السياسية الدينية: أنصار إيران بشتى مسمياتهم الذين يجاهدون من أجل تأسيس دولة إسلامية على قاعدة «ولاية الفقيه»، وتيارات تعود أصولها إلى إيديولوجيا الإخوان المسلمين الذين يجاهدون من أجل استعادة «الدولة الراشدة».
    -هذا التحالف، بـ«شذوذية» قواعده وتناقض أهدافه، يتحالف، ليس مداورة بل مباشرة مع قوى الاحتلال الأميركي التي لا تتناقض معها بالأهداف الإنسانية فحسب بل بالإيديولوجيا الدينية أيضاً.

    رابعاً: نقد التحالفات الشاذة بين العقائد الإسلامية المتناقضة خطوة على الطريق الوحدوي الصحيح

    حول هذا الجانب قد يأخذه بعض «المصطادين بالماء العكر»، من الذين يزايدون على الآخرين بمحبة «الوحدة الإسلامية»، سبباً يرفعون من أجله إصبع الاتهام بالدعوة إلى التفرقة، فنجيب بأن ما نراه نحن لهو حقيقة ماثلة في نصوص كل تيار منهم، المنشورة منها والمستورة، بأنهم يمارسون جميعهم التقية على بعضهم البعض عن سابق تصور وتصميم. وإذا كانوا ينشدون «وحدة المسلمين» فعلاً، فعليهم قبل كل شيء أن يعلنوا على الملأ إلغاء تلك النصوص، التي شكَّلت بالفعل أساساً لدينا استندنا إليه في النتائج التي نعلنها.

    إن ما أشرنا إليه من مظاهر تؤكد أن تلك التحالفات هي «شاذة» بالفعل. وقد التقت حول أهداف تكتيكية جامعة، يكمن أحدها للآخر، من بعدها ينقلب الواحد منهم ضد حليفه. أما المطلوب الرقم واحد فهو رأس الفكر القومي العربي، ورأس حلمنا الثابت في الوحدة العربية، ومن خلاله يستهدفون إحباط كل ما يمت بصلة إليهما. وليس من غرائب الأمور أن تكون المقاومة الشعبية العربية المسلَّحة على رأس تلك الأهداف، ليس لسبب آخر إلاَّ لأنها ذات هوى ولون وشكل وعمق وروح قومية وعربية.

    فهل من تفسير لذلك؟

    خامساً: العقائد السياسية الأممية والسياسية الدينية لا تكترث بمصلحة الأمة العربية الواحدة

    إن الاستعمار والصهيونية مذهبان استغلاليان، والاستغلال عندما يمتلك قوة التوسع يصبح عابراً للقارات. وتلك السمات والوقائع لا تنفصل عن حالهما في هذه المرحلة، ولا يمكنهما التمدد والانتشار من دون كسح الحواجز والعوامل التي تعيق حركتهما، والفكر القومي العربي، كفكر توحيدي إيديولوجياً وسياسياً ونضالياً، هو أكثر العوامل إعاقة لذلك المشروع.

    أما التيارات الماركسية، كتيارات لها حلمها الخاص في بناء دولة البروليتاريا العالمية، فقد عبرت الحدود القومية وأصبحت لا تشكِّل لها حاجة إيديولوجية أو سياسية، طالما أن هدفها الاستراتيجي كسح كل العوائق من أمام أهدافها الأممية. وهذا ما عبَّرت عنه بوضوح في كل سلوكاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية. وهذا ما طبع مواجهتها في عشرات السنين الماضية ضد تيارات الفكر القومي العربي من دون استثناء.

    هذا ناهيك عن التيارات الدينية السياسية الإسلامية التي انتشرت بعد انهيار ما اعتبره البعض منها مركزية الدولة الإسلامية، بانهيار الامبراطورية العثمانية، وكانت أهدافها تروم استعادة تلك المركزية ولكن على أن تبني نواة أخرى، مقامة على قاعدة بناء دولة «الخلافة الراشدة»، تشكل جاذباً مركزياً تعمل على نشر الإسلام على المستوى الأممي من أجل بناء دولة سياسية إسلامية عالمية. وتلك دعوة أيضاً لا يمكن إلاَّ أن تكون عابرة للقارات والحدود، فهي بالتالي عابرة للحدود القومية والوطنية، وأصبحت أية دعوة للقومية العربية عندها وكأنها بديلاً، أو نقيضاً مع الدعوة للإسلام، فوضعتهما في موقع العدوين المتنافسين بحيث لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد.

    ولا يمكن المرور على ذلك من دون التنويه إلى مقولات تلك التيارات التي تردد أن «القومية ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام». وعلى خطى هذه التيارات، التي كانت محسوبة على الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، انتشرت دعوات دينية سياسية أخرى محسوبة على نظرية قيام دولة إسلامية بمنطلقات فقهية جديدة وهي دولة «ولاية الفقيه».

    تجمع هذه مع تلك الأهداف الأممية التي ترى في حدود الدولة القومية حائلاً دون ما يجاهدان من أجله. أما النتيجة التي نصل إليها من خلال النظر إلى استراتيجيتهما معاً فهي أنهما أحلاَّ الولاء للدين مكان الولاء للوطن، لا بل أحلاَّ الولاء للمذهب مكان الولاء للدين والوطن معاً.

    ولن تكون نتائج محاكمتنا لكل من الأهداف الاستعمارية والصهيونية، ولأهداف الأممية الماركسية، بعيدة عن محاكمتنا لأهداف التيارات الدينية السياسية الإسلامية، فكلهم أمميون على الرغم من أن أهداف كل منهم الاستراتيجية تتناقض تماماً وتتصارع. أما المؤسف في الأمر فهو أن كلاً منها ينشد الحصول على رأس الفكر القومي وأهدافه.

    فهل في هذا التوضيح ما يدفعنا إلى الاستغراب والاستهجان؟

    يا وحدنا، لقد توحَّد الأمميون كلهم من أجل محاربة الفكر القومي العربي، نظرية طالما استرشدت بها التيارات القومية العربية. وقام الأمميون بنعيه وهم يتحالفون اليوم على وأده.

    لن نقوم بمحاكمة هؤلاء محاكمة سياسية، من خلال نبش كل ما ارتكبوه من جرائم وخطايا وأخطاء من أجل الوصول إلى أهدافهم، بل عند المتتبعين لتاريخية الحالة ما يكفي من الأدلة والوقائع والبراهين. لكن لم يكن في نتائج مواجهة كل هؤلاء وأولئك ما يجعلهم مطمئنين إلى أن الفكر القومي العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولا نجد فيها ما يدفع الحريصين على هذا الفكر وأهدافه إلى اليأس والقنوط. فعند المقاومة الوطنية العراقية الرد الذي يغيظ المتحالفين ضدها لأنها تهتدي بالفكر القومي العربي الأصيل، وفيها ما يُحيي الأمل عند القوميين العرب من أجل تحضير أنفسهم لاستئناف النضال والجهاد، في وحدة متماسكة متجددة، من أجل وحدة أمتهم وحريتها عندما تتكسر أجنحة الاستعمار وقرونه على أرض الرافدين، وعندما تنعكس نتائج نضالات المقاومة الوطنية العراقية، بكل فصائلها وأجنحتها، أملاً في لجم وحشية العدوان الصهيوني في كل من فلسطين ولبنان بعيداً عن هواجس اجتياح «الإمبراطور الأميركي» للأمة والعالم. فهو على استعداد لسلب ما حققته المقاومة الفلسطينية واللبنانية من انتصارات ستبقى انتصارات تكتيكية من دون استكمالها بالنصر الاستراتيجي الذي تعمل المقاومة الوطنية العراقية على حياكته من دم مناضليها وحياتهم وتضحياتهم في المعاناة وطول الصبر على الأذى الوحشي الذي يتعرَّض له الشعب العراقي.

    ولكي تتّضح أمام رؤيتنا أهمية الفكر القومي العربي، كنظرية حديثة ومعاصرة، وكنظرية للمستقبل، وعلى قاعدة نفي النظريات الأخرى ونقدها، نتساءل: هل الفكر السياسي الأممي يصلح قاعدة لبناء دولة أممية؟

    لما أثبت التاريخ العربي الإسلامي أن الدولة الأممية الإسلامية، على الرغم من أنها استهلكت قروناً كثيرة من التجربة، أنها لم توفر العدالة بين رعاياها. وإنما كانت في شتى جوانبها، وأكثرها وضوحاً مرحلة حكم المماليك والأتراك العثمانيين، وسيلة للاستغلال والاضطهاد لصالح الطبقة الحاكمة.

    ولما أصبحت الدولة القومية، كمفهوم وتشكيل سياسي حديث، تحميها حدود جغرافية معترف بها دولياً، تجمع تعدديات دينية ومذهبية دينية، وأحياناً أقليات قومية، ألغت مفهوم الإمبراطورية، كشكل للدولة القديمة التي كانت حدودها تبقى مفتوحة طالما كان الإمبراطور يمتلك القوة العسكرية اللازمة لضم أراض أخرى.
    ربما لا تزال الدعوات الأممية، الاستعمار، والماركسية، والتيارات السياسية الدينية، تحن إلى زمن الإمبراطوريات القديمة. وإذا كان للاستعمار قوة عسكرية تحفزه لتوسيع مناطق نفوذه بقوة السلاح، فإن التيارين الآخرين، ربما لديهما حوافز عقائدية تدفعهما إلى إبقاء الحلم الإمبراطوري ماثلاً للتحقيق.

    ولما فشلت مركزية التجربة الماركسية في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلاَّ أن ذلك لم ينه الحلم العقائدي الماركسي، وبدلاً من المحافظة عليه في إطاره الفلسفي الإنساني، إلاَّ أنه يبدو أن المشروع السياسي في أذهان الماركسيين لا يزال حياً.
    ولما فشلت مركزية الدولة الأممية الإسلامية وانهارت بانهيار الدولة العثمانية إلاَّ أن المثال التاريخي لا يزال جاهزاً في طموحات التيارات السياسية الدينية المعاصرة، هذا في بعض الجانب السني أما عند بعض الجانب الشيعي فقد أحيت نظرية «ولاية الفقيه» في إيران المثال التاريخي الصفوي. وعلى حد سواء يواجه الجانبان مسألة بناء «دولة دينية». وإن أشد ما يضعنا أمام حيرة هو أن الجانبين لا يأخذان حدود الدولة القومية على محمل الجد بل يؤسس كل منهما نظرياً، وقد يربطانه بالإرادة الإلهية، مشروع بناء «إمبراطورية» إسلامية عالمية، أي إمبراطورية عابرة للحدود.

    كان يكفي لبناء إمبراطورية دينية، أو أية إمبراطورية أخرى، امتلاك القوة العسكرية وهو الشرط الوحيد والكافي للتوسع الجغرافي. وسبب كفاية هذا الشرط كان غياب نظام دولي يحمي حدود الدول، بل أساساً لم تكن الدولة القديمة ذات حدود معترف بها، وإنما كانت الشعوب كلها مؤهلة لأن تكون غالبة، وتطمح لأن تشكل إمبراطوريات على حساب الشعوب المغلوبة. أما اليوم فقد تغيرت الظروف والأنظمة ومفهوم الدولة. إلاَّ أن أصحاب الدعوة إلى بناء دولة أممية دينية لم تشكل بعد حقائق العالم الجديد قناعة لديهم، بل هم لا يزالوا يعيشون في عصور عفى عليها الزمن. ومن تلك الحقائق التي أصبحت مرفوضة ومدانة وممنوعة هي أن تكون حدود الدول مُستباحة تحت أي ذريعة أو سبب.

    وما لم يعترف أصحاب الأهواء الدينية السياسية بتلك الحقائق ستبقى حدود الدول والقوميات في نظرهم عرضة للاستباحة والغزو، وستبقى الدولة القومية غير ذات معنى لديهم، بل والأمرُّ من كل ذلك، وعلى الصعيد القومي العربي الخاص، أن تعتقد تلك التيارات بأن «القومية العربية ما خلقت إلاَّ لمحاربة الإسلام».

    إن الاعتراف بالقومية أولاً، والقومية العربية ثانياً، والاعتراف بحقيقة أن النظام السياسي للقومية العربية هو نظام تتساوى أمامه كل التعدديات ثالثاً، هي من حقائق العالم الحديث. بينما كل تلك الحقائق مرفوضة من تلك التيارات، وهذا ما يفسِّر لدينا عدم اكتراثها بمفاهيم «الخيانة الوطنية»، لأنها لا تكترث بمفاهيم «السيادة الوطنية»، فحدود الوطن ليست حدودها، وإنما التعصب للمذهب والدين هي حدودها الوحيدة.

    سادساً: الفكر القومي العربي بوصلة استراتيجية لحزب البعث والمقاومة الوطنية العراقية

    لقد أخذ حزب البعث العربي الاشتراكي بحقائق العالم المعاصر، واعتبر أن القومية العربية حقيقة العصر، ولا يمكن مواجهة النظام العالمي الإنساني الجديد إلاَّ بفكر موحَّد وموحِّد، ولا يمكن تحقيق العدالة بين مواطني الدولة العربية بتشريعات تقوم على قاعدة المصالح الفئوية، سواءٌ أكانت قومية أم دينية أم مذهبية دينية، بل تستفيد من كل ما يوحِّد من تشريع قومي أو ديني أو مذهبي وتستبعد كل ما يزرع الشقاق والتنافر بين أبناء الدولة القومية المدنية الواحدة.

    أما من أهم عوامل النصر الذي تصنعه المقاومة الوطنية العراقية، فهي أنها تسترشد بالفكر القومي العربي. وهو الفكر الوحيد الذي يضع كل إمكانيات الأمة في مواجهة العدوان الخارجي من دون «تقية»، فهي واضحة تمام الوضوح في أهدافها الاستراتيجية، كما هي واضحة كل الوضوح في وسائلها التكتيكية. وتسير على هدي «توظيف كل الإمكانيات في المعركة الكبرى»، وعلى هدي تغليب مصلحة الوطن والأمة على أي مصلحة أخرى، وهي ترى أن المصالح الفئوية، الطبقية والمذهبية الدينية، لا يمكن أن تتحقق في ظل وطن منقوص السيادة مرتهن للاستعمار والصهيونية.

    أما التناقضات الأخرى، باستثناء ما وُظِّف منها لتبرير العمالة مع الاحتلال الأميركي، فهي شأن داخلي عراقي أو عربي فستبقى في دائرتها الطبيعية التي عليها أن تأخذ حقها الكامل في الحوار السياسي والفكري في مرحلة ما بعد تحرير العراق تحريراً غير منقوص.

    تمتلك المقاومة الوطنية العراقية، عمقاً فكرياً ولوجستياً استراتيجياً، تشكل مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، كرائد أساسي من روَّاد الفكر القومي، القاعدة والأساس الفكري، وهو ما أسهم في وضع الأسس اللوجستية السياسية والعسكرية للمقاومة الوطنية العراقية.

    لم ينصب حزب البعث العربي الاشتراكي والمقاومة الوطنية العراقية «فخاً» لأي كان، ولم يمارسا «تقية» في تحالفاتهما، بل هما واضحان تمام الوضوح، سواءٌ ما جاء في دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر القومي الأول في العام 1947، أم ما جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته المقاومة في 9/ 9/ 2003، حيث أكَّد الدستور على أن:

    -«الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة»، لذلك يقرر الحزب «النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً». ودعا إلى أن «يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم».
    وحسماً للجدل مع كل التيارات الأممية، ومنها التيارات السياسية الدينية، أكَّد الحزب على أن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية». على أن « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».

    ومن أجل أن يتساوى مواطنو الدولة بالحقوق والواجبات اعتبر دستور الحزب أن «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها». و« قيمة المواطنين تقدر، بعد منحهم فرصاً متكافئة، بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر». كما أكَّد على أن «تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية وأخلص للوطن العربي وانفصل عن كل تكتل عنصري».
    فعلى تلك الأسس يطمئن كل صاحب مذهب على مذهبه، وكل من اعتقد على معتقده، فالدولة الوطنية حريصة على حمايتهم، وعلى مساواتهم بالحقوق والواجبات، ومنها تصبح حماية سيادة الدولة القومية أو الوطنية من واجبات جميع المواطنين، والاستقواء بأية قوة خارجية تُعتبر تهمة يعاقب عليها القانون بـ«الخيانة العظمى».

    إن الرابط القومي، أو الوطني، إذا نال قسطه من الاهتمام تربوياً، سيكون النقيض الأساس لكل رابط آخر، وستُعتبر الحدود الجغرافية من الأسس الثابتة التي تجعل جميع الذين يسكنون عليها شركاء في الدفاع عنها وحمايتها. وخارج هذا المفهوم ستبقى الدعوات الأممية السياسية مناقضة للمفاهيم القومية تجيز لمواطن الدولة المدنية الحديثة أن يرتكب جريمة الخيانة الوطنية العظمى، لأن المخدوعين بتلك الدعوات سيفتقدون أي شعور بالانتماء إلى وطن، بل إلى إيديولوجيات لا تعترف بالقيم الوطنية، بل هي لا تنتمي إلى مكان بل إلى أيديولوجيا عابرة للحدود. ومن هنا نعتبر أن كل الدعوات الأممية السياسية دعوات لا تمت إلى الروابط الوطنية أو القومية بأية صلة. وحتى لا نُفهم بأن الحزب يدعو إلى شوفينية قومية، وكي لا تتحول حدود القوميات إلى مراكز للتعصب والشوفينية، تأتي مسألة التمييز في تعريف الأممية لتزيل مخاوف الخائفين.

    كما للعولمة وجوه سلبية، ووجوه إيجابية، فللأممية كذلك. وما يزيل الالتباس بين تلك الوجوه هو تعريف مضامينها.

    فالعولمة أو الأممية لها أبعاد إنسانية، وهي القيم العليا، أو المُثُل العليا، التي تشكل جامعاً بين شتى شعوب العالم، على شتى تعددياتهم الدينية والسياسية والاقتصادية، ستبقى الحصانة الوحيدة والأكثر ضماناً لمنع الشوفينية القومية، وكذلك التعصبية الدينية والمذهبية الدينية، من أن تتسلل إلى المجتمعات القومية، بل تبقى العامل الأكثر واقعية في فتح جسور التفاعل بين الشعوب على مستوى رفد الحضارة الإنسانية بكل عوامل التوحد ومنع الحروب والصراعات أو التخفيف من آثارها السلبية. ومن هنا لا تتناقض الدعوة إلى القومية مع الدعوة إلى أممية تقودها مفاهيم القيم العليا المطلقة، سواءٌ أكانت قيماً إنسانية نصّت عليها الكتب الدينية المقدَّسة، أم كانت أعرافاً وتقاليداً وأفكاراً، تناقلتها الحضارة الإنسانية عبر تطورها المعرفي عبر التاريخ.

    سابعاً: المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي، نظرية وعملاً، حيويته وأهميته.

    وكما أن فكر البعث عبَّر عن أهمية الرابط القومي، على قاعدة من مفاهيم الأممية الإنسانية، جاء المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة الوطنية العراقية ليؤكد على أهمية النضال ضد الاستعمار من داخل تجربة ميدانية تدور على أرض العراق، وفيها ربط العلاقة بين واجب تحرير العراق من الاحتلال وواجب مشاركة كل العراقيين في التحرير. وعلى هذا الأساس وعد المنهج بـ« باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق»، ودعا إلى «تعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى».

    وكما وعدت قيادة المقاومة باستمرارية المواجهة فقد أوفت بوعدها، وكما دعت إلى تعميمها فهي اليوم تشمل كل الأطياف الدينية والسياسية، وتغطي كل الساحة العراقية، كما هي حريصة على تعميق العمل الجبهوي من دون أية شروط إلاَّ التفرغ لقتال المحتل حتى طرده نهائياً من العراق.

    وهكذا، وبعد أن انتظر الناعقون إعلان وفاة الفكر القومي العربي، وبعد أن أصاب الوهن التيارات القومية العربية، جاءت المقاومة الوطنية العراقية لتعيد الحيوية للتيارات القومية والشارع العربي لتعلن أن الحل الوحيد للأمة على المستوى السياسي عليه أن يمر عبر المشروع التوحيدي الشعبي العربي وليس عبر الأنظمة الرسمية، وهذا عليه أن يوظف الطاقات الشعبية في مقاومة الاستعمار والصهيونية عبر «الكفاح الشعبي المسلح».

    وبهذا على التيارات القومية العربية أن تحضِّر نفسها لملاقاة نتائج نضال تلك المقاومة، وتعمل على استثمارها في إعادة الحيوية السياسية والفكرية للمشروع القومي العربي. وعلى التيارات الأخرى التي ناهضت ذلك المشروع، أو أظهرت العداء له، أن تعيد حساباتها بعد أثبت الواقع أن مشاريعها السياسية لن تلبي حاجات القومية العربية في التحرر والوحدة، ومن هو عاجز عن تلبية مصالح أمته وقومه فلن يكون إلاَّ عاجزاً عن تحقيق آماله الأممية، أو قل أوهامه السياسية الأممية.

    وما هو مطلوب منها على الأقل أن تترك مواقعها العدائية ضد من أثبت أنه بالفعل يشكل صمام الأمان في الدفاع عن الأمة والجماهير وحمايتها. ولم ينزلق، كما انزلقت هي، إلى متاهات خيانة سيادة الشعب العربي على أرضه وموارده تحت حجج أممية واهية. وهذه تجربة العراق تشكل الدليل الأكبر. فعسى أن تعود تلك التيارات إلى رشدها، وتشارك في طرد الاستعمار والصهيونية أولاً كخطوة ضرورية وواجبة على طريق الحوار بين أهل البيت الواحد بعد أن يطمئنوا على تحريره بشكل كامل.

  9. #9
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    المشاركات : 301
    المواضيع : 146
    الردود : 301
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي وضع العربة خلف الحصان : صلاح المختار

    ما هو الانطباع الذي يتولد لديك اذا شاهدت حصانا مربوطا في مؤخرة العربة بدل مقدمتها؟ بالتاكيد انه انطباع ان من فعل ذلك احمق وغبي لان الحصان لن يستطيع جر العربة. هذا هو موضوعنا الان. ان أممية التطرف الديني تقوم على وجود تناقضات حادة وعيوب بنيوية في دعوتها لوحدة المسلمين، واول عيب، ومن اخطرها، هو المتجسد في الجواب على السؤال التالي : ايهما اقرب الى العربي، العربي الاخر ام الماليزي؟ بالطبع العربي، تماما مثلما ان الماليزي اقرب الى الماليزي من العربي المسلم. وهذه قاعدة بداهة معروفة جسدها المثل العربي القديم الذي قال (انا واخي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب). ان هناك مشكلة معقدة في تفكير التطرف الاصولي وهي اسبقية الدعوة للوحدة الاسلامية على الدعوة للوحدة العربية، وبذلك تكون قائمة على انكار ورفض التعاقب المنطقي للخطوات العملية في تحقيق الوحدة الاسلامية، أي البدء بوحدة الامة العربية، ثم تتوسع اذا توفرت البيئة الملائمة لها وبعد انجاز وحدة الامة العربية. ان عيب الدعوة للوحدة الاسلامية دون تحقيق الوحدة العربية قبل ذلك، هو ثغرة اخرى في تكوين التيارات الدينية المتطرفة تسمح بتسلل الاعداء منها، سواء كانوا امريكييين او صهاينة او ايرانيين. ان بقاء العرب مفتتين وقيام وحدة اسلامية ستترتب عليه نتائج بالغة الخطورة على الهوية العربية، ما دامت هناك نزعات شوفينية معادية للعرب كالنزعة الشوفينية الايرانية القديمة جدا.

    لذلك فان من يدعو للوحدة الاسلامية دون ان يسبق ذلك عمل جاد لاقامة الوحدة العربية كمن يضع الحصان خلف العربة وليس امامها، فيخلق مشاكل عملية تؤدي الى ليس استبعاد الوحدة العربية فقط بل تجعل أيضا الصراعات الاسلامية – الاسلامية هي الطابع السائد اذا قامت وحدة اسلامية. من يستفيد من هذا الطرح؟ ان الغرب والصهيوينة وايران هي الاطراف المستفيدة، فهذه الدعوة تحاول، باسم الدين، انزال مرتبة الوحدة العربية الى مستوى الدعوة العرقية العنصرية، بل ان الجهلة وانصاف الاميين، والذين فقدوا نعمة الرؤية والادراك من اتباع التيارات الدينية المتطرفة، من مختلف الطوائف، يتهمون القومية العربية بانها دعوة غربية او ماسونية!

    والتسويق هذا يتم تحت مقولات لا صلة لها بالاسلام، بل هي ترويج شعوبي خطير تقف وراءه الصهيوينة العالمية والغرب الاستعماري حتما، منها ان الدعوة الاسلامية فوق القوميات وانها لاتعترف بها وترفضها! مع ان كل الشعوب الاسلامية تفتخر بانتماءها القومي لانه انتماء طبيعي يمثل الهوية الثقافية والتاريخية الخاصة لكل مسلم، دون ان يعني ذلك التعصب القومي المقيت. واذا كان هذا البعض لا يميز بين الدعوات العرقية والعنصرية وبين الدعوة القومية العربية غير العنصرية فان ذلك دليل على وجود احد الاحتمالين التاليين، فاما ان من يوجه هذا النوع من التيارات الدينية المناهضة للقومية العربية طرف اسرائيلي او امريكي او النخب الشوفينية الايرانية بشكل واع، او انه ضحية امية متطرفة تجعله اعمى البصيرة وناقص العقل.

    كيف انكر عروبتي وهي التي تشكل، اول ما تشكل، اسمي الخاص وهويتي الخاصة؟ ان القومية العربية ليست مثل القوميات الاوربية العنصرية والاستعلائية لانها هوية تعبر عن ثقافة وسايكولوجيا ووحدة انتماء شعب عريق اثبت التاريخ انها كانت انسانية ومنفتحة بالتعريف وبالممارسة.

    لقد نزل القران بلغة اهلها واختير محمد رسولا ونبيا لانه من اهلها وقرر الله عز وجل ان تكون لغة المآل الاخير لكل للبشر الصالحين : الجنة. قال الرسول الكريم (ص) : (أحب العرب لثلاث, لأني عربي, والقرآن عربي,ولسان أهل الجنة عربي). ان اعتزاز الرسول الكريم بعروبته هو ما نعنيه بالقومية العربية من حيث الجوهر. وحينما اراد البعث ان يعرف العربي في دستوره منذ اللحظة الاولى لنشؤءه اختار التعريف المحمدي للعربي بالضبط : (من تكلم منكم العربية فهو عربي)، واضاف على ان يخلص للامة العربية ويكون صادقا في ذلك وهذا امر بديهي وينسجم مع طبائع الامور. واذا كان هناك من لديه وهم حول ذلك فليتخلى عن وهمه. اضافة لهذا فان الشعب الاسلامي الوحيد المجزء هو الشعب العربي، شعب محمد وشعب لغة اهل الجنة وشعب لغة القران! فهل هذا الامر صدفة؟ والسؤال المنطقي هنا هو التالي : لماذا تصر احزاب دينية على رفض الوحدة العربية ووضعها في درجة دنيا او موقع التناقض مع الوحدة الاسلامية مع ان الاولى مدخل حتمي للثانية؟ اليس من حق العرب كما هو حق الايرانيين والماليزيين والباكستانيين ان يحققوا وحدتهم؟ ومتى كانت وحدة العرب دعوة ماسونية او بدعة غربية كما يقول بعض الاميين او العملاء؟

    ان احد اهم المعاني المندسة في قلب وضع الاسلام ضد القومية العربية هو التالي : الغرب والصهيوينة وايران تعمل على ابقاء العرب مجزئين لضمان استمرار تنفيذ مخطط الاستعمار بنهب العرب وثرواتهم، ومخطط الصهيونية باكمال تنفيذ مخطط اسرائيل الكبرى. اما ايران فانها ترى في الوحدة العربية العدو الاخطر على مطامعها المعروفة في الارض العربية وفي حكم العالم الاسلامي لان وطن العرب هو الجزء الاساسي من المنطقة الحيوية للمشروع الايراني الامبراطوري، من جهة، ولان العرب هم حملة رسالة الاسلام وناشريها والاقدر بلغتهم وليس بجنسهم على فهم وتفسير القران الكريم، من جهة ثانية. لذلك فان المطمح الامبراطوري الفارسي المزروع في جينات الشوفينية الفارسية منذ الفتح الاسلامي لبلاد فارس، والمتبرقع بالاسلام لا يمكن تحقيقه الا بازاحة العرب من مسرح صنع التاريخ بتجزئتهم او ابقاءهم مجزئين.

    ليس سرا ان الشوفينية الفارسية ترى ان من بين اكبر ثلاثة شعوب اسلامية قام اثنان ببناء امبراطوريات هم العرب والترك، في حين ان الشعب الثالث الشعب الايراني لم يفعل ذلك رغم انه كانت له حضارة وامبراطورية دمرها العرب. فتزاوج الانتقام من العرب مع الرغبة العاتية في اعادة بناء امبراطورية فارسية باسم الاسلام ليلد لنا مخلوقا شرسا ويغلق عقله على حلم امبراطوري مهما كان الثمن فادحا على المسلمين! من هنا فان هذه الاطراف الثلاثة تعادي الوحدة العربية وتشجع العمل على اقامة الوحدة الاسلامية شكليا ليس فقط لانها تعرف انها مستحيلة نتيجة انعدام عنصر التعاقب، أي قيام الوحدة العربية اولا كتمهيد للوحدة الاسلامية، بل ايضا لانه يسمح بتعليق الامال على ما هو بعيد جدا، وهو اقامة وحدة اسلامية، وطمر الامال بما هو ممكن قريب ودائم وفعال وتصل اهميته، اذا تحقق، الى حد تغيير قواعد الصراع والتوازنات الستراتيجية القائمة اقليميا وعالميا، وهو الوحدة العربية.

    ان الدعوة الاممية الدينية المعادية للقومية العربية، لا تنتج مخاطر مستقبلية كبيرة على الغرب الاستعماري والصهيونية بل هي دعوة ملغومة ومرحلية تستهدف بالدرجة الاولى اضعاف القوى القومية في ساحة الصراع الرئيسية، من خلال تكفير القوميين العرب ووصف القومية العربية بكلمات عدائية خالية من العقل والادراك والحكمة، مع ان القوى القومية هي التي تخوض وتقود الصراع التحرري الرئيسي منذ اكثر من قرن. يعرف العدو ان استبدال الوحدة القومية السهلة الفهم والممكنة التحقيق بما هو بعيد جدا، وهو الوحدة الاسلامية، يخدم خطة الغرب في تشتيت الجهود واستنزافها في صراعات بين المسلمين حول موضوع ترتيب الأولويات فيصبح الشكلي جوهري والجوهري شكلي! ان تفتيت او اضعاف الرابطة القومية العربية، او مناهضة قيام الوحدة العربية، كما فعلت وتفعل ايران في زمن الشاهين الافندي محمد رضا والمعمم خميني، سيقود تلقائيا وحتميا الى زيادة الفرقة والتباعد بين شعوب العالم الاسلامي.

    ان الاصولية الدينية المتطرفة لا تضعف الهوية القومية للعرب فقط، بالنظر الى القومية العربية (كفكر صليبي مستورد من الغرب، كما يقول فطاحل هذه الجماعات الظلامية!)، وهي نظرة بقدر ما هي انشقاقية فانها تعبر عن جهل فاضح بالتاريخ والحاضر وبمفاهيم الوطن والامة والدين، بل ايضا ان هذه النظرة تقود الى تكفير القوميين العرب وتشن حملة اجتثاث ضدهم، مما يؤدي حصول انشقاقات عدائية بين القوى الوطنية التي يفترض وقوفها متحدة ضد الاستعمار والصهيونية واشعال حروب وفتن سياسية بين القوميين والاسلاميين لا تخدم الا العدو الخارجي.

    ولكي تكون الصورة الواقعية واضحة ننبه الى حقيقة بارزة وهي ان الفكر الديني المتطرف والعادي يجد له الاف المنابر بدعم السلطان العربي وسيده وعبر فضائيات لاحصر لها، تروج يوميا وعلى مدار الساعة لأفكار تضع الاسلام ضد القومية العربية دون السماح للقوميين العرب بالرد او انشاء منابر تدافع عن القومية العربية! ولهذا فان من بين اهم الاسئلة الموحية والمهمة جدا السؤال التالي : لم تسمح امريكا والصهيوينة للانظمة العربية ببث الاف الساعات يوميا من الدعاية ضد العروبة باسم الاسلام وتمنع القوميين العرب من الرد او فتح منابر مماثلة؟ ان الجواب واضح وهو ان العروبة هوية قومية سهلة الفهم لا تعقيدات كثيرة تحيط بها ومنغرزة في نفوس العرب، واذا انفتحت الابواب امامها وقامت الوحدة العربية فان تاريخ البشرية سيتغير وسيصبح العرب امة الريادة عالميا كما كانوا، وسيعود الاسلام دين دولة الله على الارض.

    ان القومية العربية بهذا المعنى هي الممهد الطبيعي والوحيد لقيام دولة الله في الارض مجددا واستئناف الخلافة الراشدة في بغداد، لانها، أي القومية العربية، هي عمود الخيمة وبدونها لا خيمة ولا بناء.

    ان السماح للفكر القومي بان يدافع عن نفسه، ولو بتوفر ساعة واحدة مقابل كل الف ساعة بث من الدعاية لاسلام ملتبس غير اسلامنا سوف يضمن ابعاد الاسلام عن حلبة التناقض مع العروبة، وسيؤدي ذلك الى مزاوجة طبيعية وتكاملية بين العروبة والاسلام، وتلك هي مقدمة الوحدة العربية والطريق المفضي لوحدة اسلامية عمادها وحجر الزاوية فيها الوحدة العربية وليس العكس.

    ان العربة لا تسير حينما نضع الحصان خلفها بل يجب ان يكون في مقدمتها لضمان ان تسير.

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ما وراء حقيقة تصريح موفق ( الربيعي ) بخصوص الاتفاقية الأمنية ـ السيستانية الأمريكية
    بواسطة صبـاح الـبـغدادي في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-07-2008, 05:11 AM
  2. الاتجاه الساخر في نثر حسين سرحان ـ مقالة للدكتور عبدالله الحيدري
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 29-04-2006, 11:21 PM
  3. الطيب الجوادي يعترف "و أمري لله"
    بواسطة يراع في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-11-2004, 12:42 PM
  4. رحبوا معي بالطيب الجوادي
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 29-12-2003, 01:21 PM
  5. أمير عشائر ربيعه يصفع ( موفق الربيعي) ويطرد أخاه وعمه!
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22-12-2003, 01:41 PM