" سياسة التعليم"

اكرم الله الانسان بالعقل، وبه فضل على سائر المخلوقات، فكان العقل اغلى ما لدى الانسان وانزل الله القران وبعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالاسلام ليخاطب عقل الانسان ويرشده الى ما يصلحه ويصلح له . وقد جاءت ايات القران مخاطبة هذا العقل، قال تعالى"وما يذكر الا اولوا الالباب"، اى ذوو العقول، وقال سبحانه"ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب"وقال"فاتقوا الله يا اولي الالباب لعلكم تفلحون"وغيرها، بل كانت العقيدة الاسلامية نفسها خاضعة للعقل وقد رسم الاسلام سياسية للتعليم غايتها امداد العقل بالافكار الصحيحة والاراء السديدة من عقائد واحكام، وحث على طلب العلم والتزود بالمعرفة، فقال سبحانه"قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"وقال عليه الصلاة والسلام"يشفع يوم القيامة ثلاثه : الانبياء ثم العلماء ثم الشهداء". وقد نعى القران على من سبقوا الاسلام جهلهم وقله عملهم، ووصف عهدهم بانه عصر جاهلية فقال"ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى"وقال"يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"وقال"افحكم الجاهلية يبغون"مما يشير الى المكانه الرفيعة للعلم في الاسلام . وقد حرص الاسلام على تجنيب العقل مزالق الضلال ومتاهات الانحراف، فوضع ضوابط غاية في الاحكام، وامر المسلم ان يتعلمها ويتقيد بها، واوكل تنفيذ هذه السياسة التي هي افكار تتعلق برعاية الشؤون للحاكم يرعى بها شؤون الرعية عمليا وتثقيفيا، فكان الحاكم هو الذى يتبنى الافكار المتعلقة بسياسة التعليم في مراحله الابتدائية والثانوية والجامعية .
وابرز هذه الضوابط انه جعل العقيدة الاسلامية هي الاساس الذى يقوم عليه منهج التعليم، فلا توضع مادة دراسية او طريقة تدريسية الا على الوجه الذى لا يحدث اى خروج في التعليم عن هذا الاساس . فالعقيدة هي اساس حياة المسلم، وهي اساس الدولة، وهي اساس العلاقات بين الناس اى هي اساس المجتمع . فكل معرفة يتلقاها المسلم لابد ان يكون اساسها العقيدة الاسلامية، وهكذا سار الرسول الكريم في نشر دعوته وتعليم المسلمين الاحكام . فحين كسفت الشمس عند وفاة ولده ابراهيم قال الناس ‎كسفت الشمس لموت ابراهيم . فقال عليه الصلاة والسلام"ان الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا ينكسفان لموت احد ولا لحياته"فجعل العقيدة الاساس للمعلومات عن الكسوف والخسوف . الا ان جعل العقيده اساسا لمنهج التعليم لا يعني ان تكون كل معرفه منبثقه عنها، فالعقيده الاسلاميه لا تنبثق عنها كل معرفة لانها خاصة بالعقائد والاحكام فحسب وانما معنى ذلك هو ان المعارف المتعلقة بالعقائد والاحكام يجب ان تنبثق عنها، اما غير العقائد والاحكام فان معنى جعل العقيدة اساسا لها هو ان تبنى هذه المعارف عليها اى ان تتخذ العقيدة مقياسا، فما ناقضها لا يؤخذ وما لم يناقضها جاز اخذه . فنظرية داروين التي تقول ان الانسان تطور عن قرد لا تؤخذ لان الله يقول"‎ان مثل عيسى عند الله كمثل ادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"وكتاب الادب الجاهلي لطه حسين الذى انكر قصة ابراهيم وولده اسماعيل في بناء الكعبة لا يؤخذ ويمنع تدريسه لان الله ذكر هذه القصة واثبتها في القران، ومثلا كتاب تجديد الفكر الديني في الاسلام لمحمد اقبال الذى انكر وجود الجنة والنار ووصفها بانهما حالتان نفسيتان تعبران عن نجاح الانسان وفشله في الدنيا وان التكليف سيستمر للانسان بعد الموت، هذا الكتاب لا يؤخذ ويحظر تداوله لتناقضه مع صريح ايات القران الكريم في هذا الموضوع، وهكذا .
وقد هدف الاسلام من التعلم والتعليم تكوين العقلية الاسلامية والنفسية الاسلامية اللتين تشكلان معا الشخصية الاسلامية فكل ما ادى اخذه الى ايجاد هذه الشخصية اخذ وما كان يؤدى الى غير ذلك منع ولم يقرر في المنهج . وحيث ان واقع الانسان انه يدرك الاشياء والافعال فيحكم عليها وهو يعقلها ويدركها فيميل لها، وان المعرفة لا تخرج عن هذين الامرين، فقد عالج الاسلام الامرين هذين وربطهما بالعقيدة، فكان من نصوصه ما يعالج التفكير ومنها ما يعالج الميول، فما يعالج التفكير قوله تعالــى"ويتفكرون في خلق السموات والارض"وقول رسوله الكريم"تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة"، ومما يعالج الميول قوله سبحانه"قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بامره والله لا يهدى القوم الفاسقين"وقوله صلى الله عليه وسلم"لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه"وكل ذلك لاجل ان يكون حكم المسلم على الاشياء والافعال مبنيا على العقيدة وكذلك ميوله، وبذلك لا يشغل المسلم عقله بالاراء الفلسفية لانها تخالف العقيدة الاسلامية ولا تميل نفسه لحياة الانحلال والترف وحضور مجالس الاختلاط لانها ليست ميولا اسلامية .
والعلوم والمعارف، منها ما هي علوم تجريبية وما هو ملحق بها كالرياضيات والطب، ومنها ما هي معارف ثقافية كاللغة والتاريخ والفقه، فالعلوم التجريبية وما يلحق بها تؤخذ وتقرر في المنهج، حسب الحاجة اليها دون اية قيود، اماالمعارف الثقافية فانها تدرس في المرحلتين الابتدائية والثانوية وفق سياسية معينه لا تتناقض مع افكار الاسلام واحكامه، واما في المرحلة العالية فتؤخذ هذه المعارف كما يؤخذ العلم على شرط ان لا تؤدى الى اى خروج عن سياسة التعليم وغايته، اما الفنون والصناعات فهذه قد تلحق بالعلوم كالفنون التجارية والملاحة البحرية وشق الترع وبناء السدود وتحسين البذور .‎فهذه تؤخذ كالعلوم سواء بسواء، واما ما كان منها ملحقا بالثقافة، وذلك عندما تتأثر بوجهة نظر خاصة كالتصوير والنحت، فهذه لا تؤخذ اذا ناقضت وجة نظر الاسلام، كما هي الحال في رسم كل ذى روح، او صنع تمثال لاى حي .
فالمتعلمون يدرسون الثقافة الاسلامية في جميع مراحل التعليم ويتوسعون فيها، وتشمل الفقه واصول الفقه والتفسير والحديث واللغة العربية وادابها والتاريخ الاسلامي، ويجرى كذلك تدريس العلوم الطبيعية والكيمياء والهندسة والطب وعلم الاحياء والصيدلة وما اليها، ويجعل لها اقسام متخصصة في المرحلة العليا اى الجامعية، اما غير ذلك، كالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ الاجنبي واللغات الاجنبية وادابها فانها تحظر ويمنع تدريسها في المرحلتين الابتدائية والثانوية لانها ثقافات تخالف وجهة نظر الاسلام، ولكن هذه الابحاث، كذلك الافكار الرأسمالية الغربية والافكار الشيوعية والاشتراكية، وعقائد اهل الكتاب، وعقائد البوذيين والهندوس والقاديانيين والبهائيين، وافكار القومية والوطنية لا تدرس الا في المرحلة العليا ولكن من اجل نقضها وبيان فسادها وتهافتها . وبذلك لا يصل الى عقول المسلمين سوى الثقافة الاسلامية والعلوم التجريبية وما يتناقض مع العقيدة الاسلامية، وليتم تشكيل العقلية الاسلامية والنفسية الاسلامية في الفرد المسلم، فتكتمل لديه الشخصية الاسلامية، ويبقى المجتمع الاسلامي مجتمعا مميزا في التفكير والسلوك، ويصان من عوامل الهدم والتخريب .