1- مغني اللبيب لابن هشام
جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل، ويمثلونه بنحو (كلوا واشربوا) أي أوقعوا هذين الفعلين.

2- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام
فصل: ويجوز بالإجماع حذفُ المفعولين اختصارًا أي لدليل نحو (أَيْنَ شُرَكَائِىَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، وقوله :
بْأيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأيّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَىَّ وَتَحْسِبُ
أى تزعمونهم شركائى وتحسب حُبَّهُمْ عارًا عَلَىَّ
وأما حذفهما اقتصارًا أي لغير دليل فعن سيبويه والأخفش المنعُ مطلقًا واختاره الناظم، وعن الأكثرين الإجازة مطلقًا لقوله تعالى: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (فَهُوَ يَرى) (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ)، وقولهم : (مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ). وعن الأعلم: يجوز في أفعال الظن دون أفعال الِعْلمِ.
ويمتنع بالإجماع حذفُ أحدهما اقتصارًا وأما اختصارًا فمنعه ابن مَلْكُونَ وأجازهُ الجمهور كقوله:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّى غَيْرَهُ ... مِنِّى بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ

ويوضح الشيخ يوسف محمد البقاعي الشواهد في تحقيقه كالآتي:
1- سورة البقرة، الآية: 216 و231.
موطن الشاهد: {يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}.
وجه الاستشهاد: استدل بعض النحاة بهذه الآية على جواز حذف مفعولي: العامل القلبي "تعلمون" اقتصارا، من غير دليل يدل على المفعولين المحذوفين؛ لأنهم يجيزون الحذف مطلقا، كما جاء في المتن؛ وأما تقدير الآية -والله أعلم: يعلم الأشياء، كائنة، أو نحو ذلك.
2- "53" سورة النجم، الآية: 35.
موطن الشاهد: {يَرَى}.
وجه الاستشهاد: جواز حذف المفعولين، كما في الآية السابقة، من غير دليل يدل عليهما؛ وقيل: إن الحذف في هذه الآية لدليل؛ لأن قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْب} يشعر بالمفعولين؛ والتقدير في الآية -والله أعلم- يرى ما يعتقده حقا.
3 "48" سورة الفتح، الآية: 62.
موطن الشاهد: {ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْء}.
وجه الاستشهاد: حذف ما يسد مسد المفعولين؛ لأن التقدير: ظننتم انقلاب الرسول والمؤمنين إلى أهليهم منتفيا أبدا؛ وظن السوء: مفعول مطلق مفيد للنوع؛ والأرجح أن الحذف في الآية الكريمة اختصارا؛ لوجود دليل في قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} يشعر بمفعولين؛ أو بما يسد مسدهما.
4- مثل قالته العرب يضرب لمن يسمع أخبار الناس ومعايبهم؛ فيقع في نفسه عليهم مكروه، ويعني: من يسمع يخل مسموعه صادقا، وهو من أمثال الميداني: 2/ 300.

3- حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك:
قوله: (في هذا الباب) لانعدام الفائدة بانعدامهما أو انعدام أحدهما أما في الثاني فظاهر، وأما في الأول فلأن الشخص لا يخلو عن ظن أو علم بخلاف المفعول في غيره فيجوز حذفه بدليل وبلا دليل لحصول الفائدة مطلقًا، وينبغي أن محل امتناع الحذف إذا أريد الاخبار بحصول مطلق ظن أو علم، أما إذا أريد ظننت ظنًا عجيبًا أو عظيمًا أو نحو ذلك أو أريد إعلام السامع بتجدد الظن أو العلم أو إبهام المظنون أو المعلوم لنكتة فينبغي الجواز أفاده الروداني.
ومما يجوز الحذف أيضًا تقييد الفعل بظرف أو جار ومجرور نحو ظننت في الدار أو ظننت لك لحصول الفائدة حينئذٍ نص عليه في التسهيل.
قوله: (ويسمى اقتصارًا) أي يسمى الحذف بلا دليل اقتصارًا؛ للاقتصار على نسبة الفعل إلى الفاعل بتنزيله منزلة اللازم في صورة حذف المفعولين وعلى أحد المفعولين لتنزيله منزلة المتعدي إلى واحد في صورة حذف أحدهما. فعلم أن الاقتصار للتنزيل المذكور، ولا ينافي ذلك نص البيانيين على أن المنزل منزلة اللازم لا مفعول له؛ لأن نظرهم إلى المعاني الحاصلة في الحال ونظر النحاة إلى الألفاظ بحسب الوضع تعديًا ولزومًا ووافق في المعنى البيانيين، ويحتمل أن الاقتصار لا للتنزيل بل مع ملاحظة المفعولين من غير إقامة دليل عليهما.
والمتجه عندي ضعف القول بالمنع على احتمال التنزيل وضعف القول بالجواز على احتمال الملاحظة، وأن الأولى الجمع بين القولين بتوزيعهما على الاحتمالين فاحفظه.
قوله (أما الثاني فبالإجماع) إنما أجمع هنا واختلف فيما بعده لأن المفعول حقيقة مضمون المفعولين كقيام زيد في ظننت زيدًا قائمًا فحذف أحدهما كحذف جزء الكلمة وحذف الكلمة بتمامها كثير بخلاف حذف جزئها. ومثله يقال في الحذف لدليل. وإنما أجمع على منع حذف أحدهما اقتصارًا. واختلف في حذف أحدهما اختصارًا لأن المحذوف لدليل كالمذكور ولهذا أجمع على جواز حذفهما اختصارًا واختلف في حذفهما اقتصارًا.

4- جامع الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني
(1) أفعال القلوب
أفعال القلوب المتعدية إلى مفعولين هي "رأى وعلم ودرى ووَجدَ وألفى وتعلَمْ وظنَّ وخالَ وحسبَ وجعل وحَجا وعدَّ وزَعمَ وهَبْ".
(وسميت هذه الأفعال "أفعال القلوب"، لأنها إدراك بالحس الباطن، فمعانيها قائمة بالقلب. وليس كل فعل قلبي ينصب مفعولين. بل منه ما ينصب مفعولا واحداً كعرف وفهم. ومنه ما هو لازم كحزن وجبن).
ولا يجوزُ في هذه الأفعال أن يُحذَفَ مفْعولاها أو أحدُهما اقتصاراً (أي بلا دليل). ويجوز سُقوطهما، أو سقوطُ أحدهما، اختصاراً (أي لدليل يَدُل على المحذوف).
فسقوطهما معاً لدليل، كأنْ يُقالَ "هل ظننتَ خالداً مُسافراً؟" فتقولُ: "ظننتُ" أي "ظننتُهُ مُسافراً"، قال تعالى: "أينَ شُركائيَ الذين كنتم تزعمونَ؟"، أي "كنتم تزعمونهم شركائي".
وقال الشاعر:
بأَيِّ كِتابٍ أَم بأَيَّةِ سُنَّةِ * تَرى حُبَّهُمْ عاراً عليَّ وتَحْسَبُ
أي "وتحسبُهُ عاراً".
وسُقوطُ أحدهما لدليلٍ، كأن يُقالَ: "هل تظُنُّ أحدا مسافرا؟"، فتقولُ: "أظُنُّ خالدا"، أي "أظُنُّ خالدا مسافِرا؟"، ومنه قولُ عنترةَ:
وَلَقَدْ نَزَلتِ فَلا تَظُني غَيْرَهُ * مِنَِّي بِمَنْزِلةِ المُحَبِّ المُكْرَم
أي "نزلتِ مني منزلةَ المحبوب المُكرَمِ، فلا تظني غيره واقعاً".
ومما جاء فيه حذفُ المفعولين لدليل قولُهم: "مَنْ يسمع يَخَلْ" أي "يخَل ما يسمعُه حقاً".
فإن لم يدُلَّ على الحذف دليلٌ لم يجُز، لا فيهما ولا في أحدهما. وهذا هو الصحيحُ من مذاهب النّحويين.