يبدو أن كلمات في قصيدة الشاعر محمد الأمين السعيدي ..//حتى تكتمل الأجنحة//..أثارت كثيرا من التساؤلات ..وسببت كلماتها المباشرة عن السكر ..الخمر ..النبيذ..تأويلات متعددة..وأقربها النفور ..
بادئا ..لاأعتقد أن اثنين يختلفان حول الجمال الفني للقصيدة ..إنما الحديث هنا عن المضمون..
ارتأيت أن أخصص لها موضوعا منفردا ليناقش جميع إخواننا الراغبين في المناقشة ..وتتضح أمور كثيرة ..ولما كنا قد لاحظنا التزاما في الواحة ..فقد تشجعنا للطرح ..دون حرج ..ودون المساس بالقصيدة ..ودون تجريح للشاعر ..تهمنا الحقيقة ..ولاغاية سواها..
وننتظر من الشاعر أن يقنعنا بتوجهه ..كما يقنعنا الآخرون برؤيتهم ..
هنا في البلادالتي لا تراني
تُعانقني الكأس والغانيهْ
يسيل نبيذ القول حين أثورُ والغانيهْ
تطوف بيَ الأشباح قبل استفاقتي
تُسائلني الأنهارُ عن سر سكرتي
أقول لها : إني ولدتُ وفي يدي
كروم جراح حلوةٍ وخمورُ
أنا في حضوري غائب لستُ أنجلي
لحيٍّ ولي وسْط الغياب حضورُ
نبدأ بما يسمى بالنقد الأخلاقي الذي يقوم على معيارية المثل والقيم ..وهذا النوع قديم منذ الإغريق حينما تناول فلاسفتها /النفع الخلقي/على يد أرسطو.. ثم انتشر في العصور الوسطى ..ثم العصر الحديث ..
// ولم يخل القرن التاسع عشر من ظهور أصوات نقدية سعت إلى المطالبة بأن يكون المقياس الحقيقي والوحيد للشعر والأدب عامة هو الأخلاق وما يبعثه هذا الأدب من حكمة وفضائل ويصوره من قيم وأخلاق فاضلة ..//1
// ....الاتجاه الأخلاقي في النقد .وهو اتجاه ربط النقد بوظيفة توجيهية غرضها توجيه الأدباء إلى طرق الفن الأدبي الصحيحة والقيم التي يتطلبها المجتمع من أدبائه وتهذيبهم بوصفهم رموز الحركة الفنية والأدبية والأخلاقية...//2
لقد حاول الشاعر أن يتناول فطرة بشرية تتمثل في غياب وحضور النفس ..بين الانطواء على الباطن ؛وسبر أغوار الذات المتمردة التي تغيب عن واقعها المألوف في عالم الغيب؛فيسجل لاوعي الحاضر المرئي..وفي الوقت ذاته يصاحبها الوعي الصارم لحقيقة الواقع ..
وحاول أن يتناص مع شعراء التصوف الذين يقطرون صبابة ؛ويهيمون شوقا في ملكوت الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ..وينتشون بالتأمل في ما أعد الله للمؤمنين في الجنة ..فكان خمرهم هو هذه النشوة ..
لنسجل نسقا ثقافيا مضمرا عن هؤلاء ؛تمثل في السخرية من دعاة المجون ؛والاستهتار بالقيم ..أولئك المنشغلون بملذات الحياة ؛المهملون للآخرة ..الشاعر يفر إلى استكناه اللذة في باطنه ؛لكنه لايتخلص من الحضور في الدنيا بمادياتها الجسدية ؛ومحسوساتها الواقعية ....ففي غمرة الغياب هو حاضر ..
لكن ثمة خلل فني وقع فيه الشاعر ـ رغم حسن نيته ؛ورغم سيرته الشاهدة على علمه ونبل خلقه ـ ..هو غياب القرائن اللغوية التي تدل على أنه يقصد خمر الآخرة ..والمرء مطالب باجتناب الشبهات ..وهذا ينفر القارئ العادي لامحالة .إن الصورة المتلفزة؛وأشكال الاتصالات اللغوية والإشارية ؛وانتشار وسائل الإعلام ؛وتوسع دوائر التربية والتعليم في كنف العولمة ..كل هذا خطاب نسقي ..أسقط ما يسمى بالنخبة المثقفة ؛وأذابها في ما يسمى بـ /الوعي الجماهيري/ ..بمعنى أن مقروئية القصيدة الشعرية ليست مقصورة على النخبة ..والنخبة هنا أصلا ليس لها ما يرشدها إلى أن لذة الخمر مُحالة إلى الآخرة .....فما الذي يمنع العادي من قراءة القصيدة والتأثر بها ..ألا يحبب له هنا الخمر ؟؟
إن المتصوفة لما تداولوا سكرة الخمر / النبيذ/ ونشوته كانوا يسخرون من أهل الدنيا الذين عاثوا في الأرض فسادا ..وأحلوا الخمر ؛والحِرّ والحرير ..فكان انغماسهم في الحضرة الإلهية بالأحسان في العبادة ـ عبر القرآن والذكر ـ يولد في نفوسهم الشعور بالطمأنينة والسكينة ؛فينتشون وهم يفكرون في الآخرة ؟؛ويسبحون بمخيلاتهم بما أعد الله للمؤمنين من خيرات ..فيحلمون حلما مشروعا ..ويتجردون من الدنيا بكل معطياتها ..ويقولون للذائذها /موعدك الجنة/ ..ولم يفلح الشاعر في ذكر القرائن اللغوية الدالة ..
وقد صار ـ بهذا المفهوم ـ الماجن نقيض في سلوكاته للمتصوف ..لذا ظهر التصوف كرد فعل نقيض للماجن..
وفي كل الأحوال ..نتساءل عن موقع شاعرنا من هذا؟؟
لاأرى في النص ما يشير إلى هذا أو ذاك ..بل اختلط الغياب بالحضور ..الشعور باللا شعور ..والمساحة الوسطى بينهما هي حلم اليقظة..أنطوى على نفسه ؛وولج شعوره الباطن ؛وتوغل في العمق يسبر الأغوار ..فسكر بالخمر وثمل في الحلم ..لكن ديننا الحنيف حثنا على الإكثار من الذكر والاستغفار والتسبيح ؛والهروب إلى الله تعالى ؛والشعور برقابته الجليلة لنا ..حينما تنتابنا الهواجس الناجسة ؛وتستفرد بنا نفوسنا ؛وتحاول أن تفرض علينا أهواءها لتنعم بتلك اللذة الفانية ..
الصراع هنا بين الضمير والنفس ..
نفس تأمر بالسوء ..ضمير حي متقد / الأنا الأعلى / يفرض شروطه ؛يدير المعركة ؛ينتصر..ولذة المؤمن ليست في الخمر ؛ولا في الغراميات ..إنها في ما يحقق السمو الروحي ..والمؤمن مطالب هنا بالذات باجتناب الشبهات..
//...النابغة الجعدي أنشد النبي فلما بلغ قوله :
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ـ ـ وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :/فأين المظهر يا أبا ليلى؟/.
قال النابغة الجعدي :/ الجنة /
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
قل إن شاء الله ..
فقد أحس الرسول أن الشاعر انزلق إلى فخر الجاهليين ؛فعاتبه : أين المظهر؟غير أن النابغة الجعدي وهو الشاعر المسلم كان هدفه الجنة ؛وحينذاك حدث التطابق بين الفكرتين :الفكرة الإسلاميةالتي تدعو الإنسان أن يسمو حتى يبلغ الجنة بأخلاق الإسلام وفضائله .وبين فكرة الشاعر التي تَمثّل فيها الفكرة الإسلامية ؛وآنذاك فقد رضي الرسول عن البيت بعد أن وجه الشاعر توجيها إسلاميا..//3.
الأمثلة عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين كثيرة جدا ..ونكتفي بهذا ..
ونأمل أن نكون قد أضأنا جانبا مهما من قصدية الشاعر ..حتى ولو لم يوفق في استحضار القرائن اللغوية الدالة ..المؤكِّدة ..
والمعذرة للشاعر بالدرجة الأولى ..الدافع هنا هو أنني صرحت بعودتي للقصيدة..
1ـ في النقد الأدبي :د/:شوقي ضيف ط7 القاهرةدار المعارف مصر..؛ص 46
2ـ النقد الأدبي الحديث ..قضاياه ومناهجه..د/ صالح هويدي..ص133
3ـ النقد الأدبي في العصر الإسلامي والأموي.. د/ ختير عبد ربي دار الغرب للنشر والتوزيع .ص53