الحقيقة المرّة
في واحد من بيوت فلسطين تسكن " الحجة آمنة " ؛ امرأة فلسطينية شهدت أمرّ المراحل في التاريخ الفلسطيني ، خرجت مع والدتها وشقيقها تحت نيران الإرهاب الصهيوني عام 1948م وأما والدها المناضل الشاب فقد اغتيل على يد عناصر صهيونية قبيل حرب 1948 .
الحجة آمنة تسكن اليوم في بيت ابنها " عبد الرحمن " ، شاب حظي من الدنيا بست وثلاثين عاما وخمسة أطفال . والحجة آمنة أطلقت على ابنها الأول اسم " عبد الرحمن" تيمنا باسم شقيقها الوحيد الذي اختفى في الأيام الأولى من هجرة عام 1948م.
وصدقوا في المثل العربي :" تكاد المرأة تلد أباها أوأخاها" . فهذا "عبد الرحمن" – الابن - قبل أيام كان من أهم المقاومين في جنين .
"الحجة آمنة " امرأة عابدة راضية محتسبة ، لا تخرج من بيتها إلا للضرورة ؛ ولا تشارك النساء الثرثرة إن اجتمعن ؛ لذا لم تعتد على تواجد النساء في غير ما لزوم في بيتها ؛ إلا أن البيت يعج بالنساء والرجال منذ أسبوع ، كلام وثرثرة يملأ فناء البيت ؛ لكن الجميع يسكت عند خروج الحجة آمنة من غرفتها .
منذ يومين لم تخرج "الحجة آمنة" من غرفتها ؛ أعتقد البعض أن الحاجة المؤمنة ضاقت نفسها من ثرثرت النساء ، ومبررات الزيارة غير المقنعة ، أما الحاجة فكانت تقول لمن يأتيها بالطعام إلى غرفتها إن ضغط الدم عندها مرتفع و السكري كذلك وقدميها ثقلت فلا تريد الخروج ..
الحجة آمنة الليلة كما في ليالي كثيرة تعاودها الذكريات ، بيت جميل جديد واسع من أجمل بيوت البلدة حوله سور من الحجر عريض وأمامه بوابة كبيرة ، وأمام البيت شارع يوصل إلى مدينة "اللد" ، ومن الجهة الأخرى تقع بيادر البلد ؛ الأطفال يلعبون بكرة قدم ثم يتسابقون نحو "زير " الماء .. وشقيقها"عبد الرحمن" يركض بين صحبه طفلا متميزا يليق بأب متميز .. ثم تأتيها الذكريات بمشاهد أخرى سيارة تقترب من سور المنزل وفيها جثث العديد من الشبان وتعرف هي وجه أبيها فتركض وهي تصرخ نحو والدتها .... مشهد آخر وهي تعارك الشوك بقدميها خلف أمها وشقيقها " عبد الرحمن " وأناس يتجهون نحو الجبال وتتذكر حديث الكبار أنهم خرجوا ليوم أو يومين حتى يهدأ الحال ويعودوا فالمدافع والقناصة الصهاينة يضربون بيوت البلدة وسكانها من المستوطنتين المقامتين فوق الأراضي المرتفعة من البلدة .. وتذكر الحجة آمنة جيدا المغارة التي حاولت أمها تنظيفها لتنام وطفليها فيها لكن ما أن دخلوها حتى خرجوا مسرعين هاربين إلى الخارج من الحشرات الغريبة التي ملأت المغارة ؛ مما اضطرهم للنوم تحت الشجر ... وعندما بدأ الناس يتسللون للعودة خفية إلى بيوتهم لإحضار شيء من حاجياتهم ؛ تذكر آمنة كيف أن أمها أعطت مفتاح البيت " لعبد الرحمن" ليذهب مع الرجال الذين نووا التسلل للبلدة تلك الليلة لإحضار حاجيات أساسية لهم من بيوتهم .. أما المشهد الذي لاحق الحاجة آمنة طوال حياتها وحضرها هذه الأيام فهو سماعها لقول رجال ونساء لم يلحظوا وجود الطفلة آمنة قريبة منهم : أن لا يجب أن تخبر أم "عبد الرحمن " بموت ابنها فهي أرملة رجل عظيم وليس لها بعد الله إلا هذا الذي ذهب ، فأجمعوا القول على أن لا يخبروها بالحقيقة المرّة وأن يتركوها على أمل عودة ابنها ، فلا يجب أن يقال لها أن الصهاينة اجتمعوا على كلّ من تسلل تلك الليلة فقتلوهم وقطعوا من أغصان الزيتون فأشعلوا النار وحرقوا العائدين إلى بيوتهم ثم علقوا بعض الجثث المحروقة فوق الشجر ؛ قالوا : نقول لها أنه ربما أعتقل كالمعتقلين من أهل البلد أو ربما أخذه الصهاينة لهم لصغر سنه ووسامته وفطنته كما أُخذ غيره من أبناء القرى المجاورة "...
وهنا رفعت الحجة آمنة رأسها إلى السماء فضغطت على عينيها لتحبس الدمع فيها لكنه انهمر وانهمر وهي تذكر كيف عادت ترجف نحو أمها لكنها لم تستطع أن تنطق بالحقيقة المرّة التي سمعتها .. وظلت آمنة تحبس الحقيقة المرّة عن والدتها التي بقيت على أمل اللقاء بابنها "عبد الرحمن" حتى آخر رمق في حياتها فأوصت وهي على فراش الموت بقطعة أرض من أرضهم في البلد لآمنة وجعلت بيت العائلة لعبد الرحمن ....
الليلة نادت الحجة آمنة على حفيدها صلاح الابن الأكبر "لعبد الرحمن" .
صلاح يقترب من جدته وهو على غير حال الأطفال ؛ الحزن والدمع وثورة المظلوم تختنق خلف صمته ، بالكاد يرفع وجهه باتجاه جدته ، كأنما يخشى النظر في عيني جدته الحبيبة .. كأنما يخفي سرا كالذي أخفته منذ نصف قرن ..
"الحجة آمنة " تبتسم بسمة الرضا واحتساب "العبدين" في سبيل الله وتضم حفيدها ؛ بعد أن أفسحت له جزءا من فراشها كما أحب دوما وتكمل الجدة وصف المنزل الكبير والسور والبيادر ولعبة الكرة وزير الماء العذب وتصف الجدة بالدقة لأن صلاح يسألها عن التفاصيل كشكل البلاط ونوعه وعن معنى البلكون والعلية والخابية وما يزرع في البيادر و يسأل عن قصص جده البطل ..
وقبل أن ينام تستدرك الجدة الليل فتقول لحفيدها : لك يا حبيبي البيت الكبير ولأختك قطعة أرض أمام البيادر و .........
ربيحة علان علان
رام الله – فلسطين