أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: نظرات في ( الأصول العشرين ) للشيخ حسن البنا

  1. #1
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي نظرات في ( الأصول العشرين ) للشيخ حسن البنا

    نظرات في
    ( الأصول العشرين )
    للشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى

    بقلم : بهجت الرشيد


    الأصل الأول :
    ( الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء ) .


    هذا الأصل نابعٌ من حقائق الإسلام الكبرى ومسلماته ، منطلقٌ من وعي عميق لرسالة الإسلام .. فالإسلام ما جاء لينزوي في المساجد والزوايا ، وإنما جاء ليخرج الناس جميعاً من أوضاع الجاهلية وتصوراتها القاصرة المغلوطة إلى الربانية ، من عبادة العباد وتسلطهم على رقاب البشر ومصائرهم إلى الحرية المتمثلة في العبودية المطلقة لله تعالى ..
    فالإسلام إذن نظام يشمل جميع نشاطات الإنسان ، ومختلف أوضاعه ، عباداته ومعاملاته ، روحه وجسده ، قلبه وعقله ، سلمه وحربه .. يأمره بالتوحيد ، كما يأمر بإماطة الأذى عن الطريق ، قال تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) .
    وكيف يكون المسلمون شهداء على باقي الأمم ، إلا إذا كانوا القادة والقدوة في جميع جوانب الحياة ، يحملون مشعل الحق والخير والجمال لكل النّاس ..
    والله تعالى ما فرّط في الكتاب من شيء ، قال تعالى ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) .
    كما أمر تعالى أن يحكّموا شريعته ، ولا يذهبوا مع أهوائهم وشهواتهم ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) .
    وأرسل رسوله للناس أجمع ، عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم ، غنيّهم وفقيرهم ، حاكمهم ومحكومهم ، وأمرهم باتباعه ، قال تعالى ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) . ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) .
    وأنزل الكتاب مهيمناً ، قال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ ) .
    فالقرآن هو المرجع الأخير للبشرية ، والشريعة الخاتمة ، والنظام الذي لا يقبل التبديل والتعديل ، فلا بدّ من أن يهيمن شريعة القرآن ومبادئه وقيمه ونظامه على كل المفاهيم والقيم والأنظمة ، وفي كل المجالات ، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والفنية والعسكرية ..
    فالإسلام منهج حياة كامل ، لا يقبل التجزئة والتفريق ، وعلى المسلم أن يدخل الإسلام بالكلية ، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .
    وتوّعد سبحانه من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، قال تعالى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ) .
    ومن جعل القرآن أجزاءً يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) .

    إذن فلا مكان هنا لمن يقول لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ، وأن الدين أمر لا يتعدى الحدود الشخصية ، وأن النّاس أدرى بأمور دنياهم .. هكذا بإطلاق .. أو من يقول بتاريخانية النص القرآني ، وأن فيه آيات لا تصلح لزماننا هذا !
    لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

  2. #2
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي


    الأصل الثاني :
    ( والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ، ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات ) .

    لا خلاف بين المسلمين أن القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع ، وهو حجة على الجميع ، وأن أحكامه قانون واجب اتباعه ، وبرهان ذلك أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته ، أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله .
    وفي القرآن الكريم أنواع ثلاثة من الأحكام ، وهي :
    الأول : أحكام اعتقادية تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    الثاني : أحكام خلقية، تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل ، وأن يتخلى عنه من الرذائل .
    الثالث : أحكام عملية، تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات . وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن ، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه .
    والقرآن من حيث الثبوت قطعي ، إذ هو نفسه القرآن الذي أنزله الله على رسول الله المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وبلّغه الرسول المعصوم إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل ، ولا يشك في ذلك إلا جاحد كافر ..
    أما من حيث دلالة آياته ، فمنها القطعي الدلالة على حكمه ، والظني الدلالة على حكمه ..

    وكذلك السنة الشريفة ، فقد أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من قول أو فعل أو تقرير . وكان مقصوداً به التشريع والاقتداء ، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع ، أو الظن الراجح ، بصدقه يكون حجة على المسلمين ، ومصدراً تشريعياً يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين ، أي أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونًا واجب الاتباع .
    والأل على حجية السنة كثير منها : قوله تعالى ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) . ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) . ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) .( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .
    وكذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم على وجوب اتباع سننه .
    ومرتبة السنة تأتي بعد القرآن الكريم .
    قال ابن تيمية رحمه الله في ( مجموع الفتاوى ) : ( أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي بإجماع المسلمين الكتاب ، السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القران ، بل تفسره ، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها ، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة ، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة ) .

    وفهم القرآن الكريم والسنة النبوية يكون طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ، إذ إن الشريعة المباركة عربية ، لا مدخل فيها للألسن العجمية ، قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) . ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) . ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) .
    فمن أراد فهم الشريعة ، فمن جهة لسان العرب تُفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة .

    ....................
    رجعت في بناء هذه النظرة إلى :
    الموافقات للشاطبي . علم أصول الفقه لعبدالوهاب خلاّف



  3. #3
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي


    الأصل الثالث :
    ( وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه ) .


    الإيمان الصادق هو الذي يقرّ في القلب وينطق به اللسان وتعمل بمقتضاه الجوارح ، الإيمان الخالي من الشرك الأكبر والأصغر والرياء ، والعبادة الصحيحة هي ما كانت على مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، خالية من البدع والمستحدثات ، والمجاهدة تكون بمجاهدة النفس والشيطان وكل مظاهر الظلم والفساد ..
    فمن كان صاحب إيمان صادق وعبادة صحيحة ومجاهدة ، وجد آثار ذلك حلاوةً ولذةً وطمأنينة وبهجة في الدنيا والآخرة ، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : ( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ) ( رواه مسلم ) . قَالَ صلى الله عليه وسلم ( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) ( رواه البخاري ) .
    ويجد نوراً يملأ باطنه ، فينعكس على ظاهره .. قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نوراً يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل .. وقيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
    وكذلك فإن للإيمان و العبادة والتقوى والمجاهدة أثراً في الكشف عن حقائق العلم وأنوار المعرفة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإصابة الحق في الأقوال ، والسداد في الأعمال ، والثبات عند تلاطم الشُبه والشكوك والفتن ، قال تعالى ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
    قال ابن تيمية في ( مجموع الفتاوى ) : ( وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم قال حذيفة بن اليمان إن في قلب المؤمن سراجاً يزهر ... وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الايمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم ، ولهذا قال بعض السلف في قوله ( نورٌ على نورٌ ) قال هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فاذا سمع فيها بالأثر كان نوراً ) .

    لكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ، إذ إن أدلة الأحكام هي الكتاب والسنة والاجماع والقياس ... الخ .. كما هو ثابت ومعروف في علم ( أصول الفقه ) ، والإلهام والرؤى ليست منها ..
    قال ابن تيمية في ( مجموع الفتاوى ) : ( وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفاً وهي خيالات غير مطابقة ، وأوهام غير صادقة ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) .
    ولأن فتح هذا الباب يؤدي ادعاء من يشاء ما يشاء بما يشتهي ويلذّ ، ولهذا قال ابن بدران الحنبلي في ( المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ) : (ولو فتح بابه ـ أي الإلهام ـ لأدى إلى مفاسد كثيرة ولكان للمتدلسين مدخل لإفساد أكثر الشرع ، فالصواب أن لا يلتفت إليه وإلا لادّعى كثير منهم إثبات ما يلذ لهم بالإلهام والكشف ، فكان وحياً زائداً على ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولإدّعى المخرقون شركته في رسالته ) .
    وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره : ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) : ( وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ} ، و{إنما} صيغة حصر. فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب : أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء ، لعدم العصمة ، وعدم الدليل على الاستدلال به ، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره ، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} ، وبخبر ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل . وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان . وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات ... وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك ، الا عن طريق الوحي . فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة ـ فلا شك في زندقته . والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً. وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ...} ، والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ) .

    و قال العلامة ابن عاشور في تفسيره ( التحرير والتنوير ) : ( واعلم أن قصة موسى و الخضر قد اتخدتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلا بنوا عليه قواعد موهومة . فأول ما أسسوه منها أن الخضر لم يكن نبياً و إنما كان عبداً صالحاً ، و أن العلم الذي أوتيه ليس وحياً و لكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقيه .و بنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، و سموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ... وقد انتصب علماء الكلام و أصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجة . و عرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً و لتفاوت مراتب الكشف عندهم . و قد تعرض لها النسفي في عقائده ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط ) .

    وقد تناول الأستاذ الدكتور صلاح سلطان مناقشة حجية الإلهام والرؤى في كتابه القيّم ( الأدلة الاجتهادية بين الغلو والإنكار ) ، وتوصّل بأنها ليست بحجة شرعية ، لكن لا حرج على من انشرح صدره لأمر مباح أو رأى فيه رؤيا أن يؤخذ به ، بشرط توافق ذلك مع الأدلة الشرعية ، وعلى هذا الشرط أشار الشاطبي في موافقاته بقوله : ( وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكماً شرعياً ولا قاعدة دينية فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحق في نفسه بل هو إما خيال أو وهم وإما من القاء الشيطان وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع وذلك أن التشريع الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص ... وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذى نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل ) .
    وهذا معنى قول الشيخ البنا ( ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه ) .
    وقد أصاب وأجاد رحمه الله تعالى ..





  4. #4
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي


    الأصل الرابع :
    ( والتمائم والرقي والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة ) .


    جاء الإسلام ليحررنا من الخرافات والأساطير والدجل والشعوذة ، بأي اسم اختبأ ومن أي مصدر كان .. فحفظ الدين والنفس والعقل والمال من مقاصد الدين الكبرى ، وأي مسّاس بهذه المقاصد مرفوض ومردود ..
    إن ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعجزته الخالدة .. القرآن .. هو إعلان رسمي بأن يتولى الإنسان تحقيق معجزة التغيير الحضاري على كافة الصعد بنفسه مع منهجه الإلهي .. وهو بذلك يعني إلغاء الكهانة والرهبنة وكل أشكال الخرافات .. يعني إشارة الإنطلاق إلى عصر البحث العلمي والبرهان الواقعي وضرورة ( اقرأ ) الذي أول ما نزل به القرآن .. يعني إحياء العقلية الإبراهيمية المتسائلة ..
    إن القرآن الكريم يُلغي أي شكلٍ للخرافة ، ويدعو إلى إعمال العقل بصيغة الفعل دائماً في عشرات الآيات ، ليدلّ على الحركة والفاعلية والتجدد ، لا الاستقرار والثبوت كما هو حال الاسم ، بل ويدفع الإنسان إلى تبني المنهج العلمي في التعامل مع الأشياء ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ..

    لذا فإن التمائم والكهانة والودع والرمل وادعاء معرفة الغيب ، من المنكرات التي يجب محاربتها واستئصالها من جذورها ، فهي خطيرة على الإيمان الصحيح ، لأن فيها تعلق القلب بغير الله تعالى ، والغفلة عنه تعالى ، واعتقادٌ بأن هذه الأشياء تنفع وتضرّ من دون الله عزّ وجلّ ، وكذلك فإنها تجرّ المسلم نحو الخرافات التي جاء الإسلام ليحطمها ، وإسكاتٌ للعقل الذي جاء الإسلام ليُنطقه ، وتزرع السلبية والتواكل في حياة الإنسان ، والإسلام يريد له الإيجابية والتوكل ..
    قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ ) ( رواح احمد في المسند . وصححه الألباني )
    وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيء لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ». ( رواه مسلم في صحيحه )
    وقال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هنّ ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ) ( رواه البخاري في صحيحه )
    وعن عيسى ـ وهو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ قال : دخلت على عبدالله بن عكيم أبي معبد الجهني أعوده ، وبه حمرة فقلت : ألا تعلق شيئاً ؟ قال: الموت أقرب من ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تعلق شيئاّ وكل إليه ) ( أخرجه الترمذي في سننه . وحسنه الألباني )
    وما أروع فقه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، فقد دخل يوماً على امرأة عليها خرزاً من الحمرة ، فقطعه قطعاً عنيفاً ، ثم قال : إن آل عبدالله عن الشرك أغنياء .. كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الرُّقى والتمائم والتِّولة شرك .. ( رواه الحاكم في المستدرك . وصححه الألباني )
    نعم .. قطعاً عنيفاً .. وهكذا علينا أن نقطع تلك الخرافات والدجل من حياتنا ، ونتوكل على الله تعالى وحده ، وأن نأخذ بالأسباب كما أمرنا ربنا في كتابه العزيز ، ونلتصق بالسنن الربانية ، وحينها سنصنع المعجزات .
    وما أجمل الكلمات الرائعة لسهل بن عبد الله التستري إذ يقول : ( من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان ، فالأخذ بالأسباب سنة النبي ، والتوكل على الله حال النبي ، فمن كان على حاله فلا يتركن سنته ) .

    وتستثنى من ذلك الرقية الشرعية ، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال : ( كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ : (اعْرِضُوا عَلَىَّ رُقَاكُمْ ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ ) ( رواه مسلم في صحيحه)

    ....................
    التمائم : جمع تميمة ، وهي ما يعلق على الأولاد من خرزات وعظام ونحو ذلك لدفع العين .
    الودع : جمع ودعة وهو شيء أبيض يجلب من البحر ، يعلق مخافة العين .
    علمُ الرَّملِ : علم يبحث فيه عن المجهولات ، وهو خرافة .



    التعديل الأخير تم بواسطة بهجت عبدالغني ; 01-06-2014 الساعة 09:29 PM

  5. #5
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي

    الأصل الخامس :
    ( ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد ) .


    الإمام هو الرئيس الذي يختاره المسلمون عن مشورةٍ ورضا ، ويفوّضون إليه السياسة العامة ، فيحفظ الدّين على أصوله الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمّة وإقامة شعائر الدّين ، ويقوم برعاية مصالح المسلمين بأنواعها .
    ونائبه هو من ينوب عنه حال غيابه أو من يولّيه إقليماً أو عملاً معيناً ..
    ورأي هذا الإمام واجتهاده أو نائبه معتبرٌ ويُعمل به ، فيما لا نصّ فيه ـ والنصّ هنا الكتاب والسنّة ـ أو كان مبنياً على المصلحة المرسلة ..
    وهذا بعض التفصيل لما يتعلق بالكتاب والسنة والمصلحة والمرسلة ، ألخصها من كتابي ( مدخل إلى الاجتهاد المقاصدي ) :
    اعلم رعاك الله أن النص إما أن يكون قطعي الثبوت والدلالة ، وإما قطعي الثبوت ظني الدلالة ، وأما ظني الثبوت قطعي الدلالة ، وإما ظني الثبوت والدلالة ، وأن القرآن الكريم والسنة المتواترة قطعي الثبوت ، لكن ليس جميع نصوصهما قطعي الدلالة ..
    يقول ابن قيم الجوزية في ( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ) : ( الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود ، المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه ، والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ... ) .
    ويقول الزركشي ( البحر المحيط في أصول الفقه ) : ( إعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنية قصداً للتوسيع على المكلفين ، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه ) .

    فالأحكام القطعية في ثبوتها ودلالتها لا يجوز للمجتهد أن يُعمل اجتهاده ونظره فيها ، إذ ( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ) .
    وهذه الأحكام لا يحتمل التأويل أو التغيير ، أراد الشارع الحكيم أن تلتقي عندها الأفهام ، ويرتفع عندها الخلاف ، وينعقد عليها الإجماع ، إذ تعتبر أساس الوحدة العقدية والفكرية والسلوكية للمجتمع المسلم ، وتمثل الإطار والمحور الثابت للشريعة الإسلامية ، وهي للأمة كالجبال الراسيات للأرض، تمسكها أن تميد ، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل ، ويقيه شرّ الفساد الذي يصيب الكون كله لو اتبع أهواء البشر .
    وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الثوابت بقوله : ( الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ) ( أخرجه الحاكم في المستدرك . قال الألباني : حسن ) .
    يقول الشيخ محمد أبو زهرة في ( تاريخ المذاهب الإسلامية ) : ( وليس لفقيه أو لغير فقيه أن يدعي مصلحة يضفي عليها الإسلام اسم المصلحة تكون مصادمة للنصوص ، فإن تلك هي الهوى الذي نهى القرآن والحديث عن اتباعه ) .
    وقد عقد ابن قيم الجوزية فصلاً في ( إعلام الموقعين ) لتحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك .

    أما الأحكام المتغيرة القابلة للاجتهاد ، فهي الظنّية التي تقبل الاحتمال ، وذلك لعدم ورود نصوص قطعية فيها ، وإنما وردت فيها نصوص ظنية الثبوت أو الدلالة ، حيث اقتضت حكمة الشارع أن يجعل هذه النصوص تحتمل أكثر من معنى ، لكي يتسع لأكثر من فهم ، وأكثر من رأي ، لتكون في هذا فسحة واسعة لمن أراد الموازنة والترجيح ، واخذ اقرب الآراء إلى الصواب ، وأولاها بتحقيق مقاصد الشرع التي فيها مصالح العباد الدنيوية والأخروية.. كما أن الشارع سكت عن حكم أشياء فلم ينص عليه ، وهو ما أطلق عليه الدكتور يوسف القرضاوي ( منطقة الفراغ التشريعي ) ، ليملأها المجتهدون وفق مسالك الاجتهاد من القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان أو الاستصحاب .. أو غير ذلك ، بما هو أصلح لهم وأليق بزمانهم وحالهم ، مراعين بذلك المقاصد العامة للشريعة ، مهتدين بروحها ، ومحكمات نصوصها ، وهذه المنطقة رحمة من الله تعالى بعباده ، تركها غير ناسٍ ، لئلا تكثر التكاليف على الأمة فتنوء بتطبيقها .. ولهذه المنطقة أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن نسياً ، ثم تلا هذه الآية وما كان ربك نسياً ) ( المستدرك على الصحيحين . قال الإمام الذهبي : صحيح )

    أما المصلحة المرسلة ( الاستصلاح على تسمية الغزالي ) التي أشار إليها الشيخ البنا ، فهي ما ليشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء بنصٍ خاص ، فتكون معتبرة إذا شهد لها النص العام على اعتبارها من جنسه ، لأنها تلائم مقصود الشارع ، مثل : تدوين القرآن في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وتكون ملغية إذا لم يشهد له النص العام لاعتبارها ، لأنه لا يلائم مقصود الشارع من جنسه ، مثل : منع المريض مرض الموت من عقد النكاح أو الطلاق أو فسخ ذلك العقد .
    وضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة هي : أن تكون معقولة ، وأن لا تصادم نصاً ، وأن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة ، وأن تكون حقيقية لا وهمية ، وأن لا تعارض مصلحة أرجح منها أو مساوية له ، وأن تكون عامة لا خاصّة ..

    فرأي الإمام أو اجتهاده لا بدّ أن يراعي كل ما سبق ، حتى لا يأتي رأيه مخالفاً لثوابت الشرع أو مصادماً للقواعد الشرعية أو مبنياً على مصلحة فاسدة ملغاة ..
    ورأي الإمام واجتهاده قد يتغير بتغير العرف والعادة ، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والاحوال ..
    والعرف هو ما تعارف عليه الناس في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم . ويُعتبر في الشرع بشروط وهي :
    1 ـ أن لا يعارض النص ، قرآناً كان أو سنة أو إجماعاً شرعياً أو مقصداً معتبراً معلوماً وأمراً يقينياً مقطوعاً به .
    2 ـ أن يكون مطرداً أو غالباً ، فلا عبرة بالقليل والنادر .
    3 ـ أن يكون سابقاً على التصرف ، فإن كان متأخراً عنه لم يعتبر .
    4 ـ أن لا يعارضه تصريح مخالف ، فإن صرّح المتعاقدان بما يدلّ على خلاف العرف ، بطل العرف ، ولزم العمل بما صرّحا به .

    وقوله رحمه الله ( والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد ) ، أشار إليه الشاطبي في موافقاته بقوله : ( الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني ) .
    ويعني أن الأصل في العبادات التوقف ، فعلى المسلم أن يتعبّد كما أمر الله تعالى ، على الهيأة المخصصة من غير زيادة ولا نقصان ، ومن غير البحث عن المعاني والعلل ، فنحن نصلي الصبح مثلاً ركعتين ولا نسأل لماذا .. كما قال علي رضي الله عنه كما في ( الإحكام في أصول الاحكام لابن حزم ) : (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين ) .
    وذلك لأن العلماء يقولون إن العبادات غير معقولة المعنى ، كما نقل المقري عن الشافعي في كتابه ( قواعد الفقه ) أن ( الاصل في العبادات ملازمة أعيانها وترك التعليل ) . وقال أيضاً : ( والحق أن ما لا يعقل معناه تلزم صورته وصفته ) .
    وأما الأصل في العادات فهو الالتفات إلى أسرار التشريع ومقاصد الشريعة والعلل والحِكم ، وبمعرفة هذه العلل والمقاصد يمكن من معرفة حكم العاديات التي لم يرد نصّ صريح بشأنها ، وذلك بتعدية الحكم عن طريق القياس أو المصلحة المرسلة ...
    والقول بعدم تعليل العبادات راجع إلى أن العلّة في العبادات لا يمكن إدراكها بالعقل ، فإذا تعذر إدراك العلة تعذر القياس ، ولهذا قال العلماء : لا قياس في الأحكام التعبدية ..
    وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن العبادات خالية من المقاصد ، وكيف وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز ، فمقصد الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومقصد الصوم هو تحقيق التقوى عند المسلمين ، ومقصد الزكاة هو تطهير المسلمين وتزكيتهم من الذنوب والآثام ، ومقصد الحج هو ذكر الله تعالى والشعور بآلام الفقير ومساعدته ، وتوحيد كلمة المسلمين وتهيئتهم للجهاد في سبيل الله تعالى ، ولذا جاء بعد آيات الحج مباشرة قوله تعالى ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) .





المواضيع المتشابهه

  1. "حسن البنا" قصيده بالعاميه ممزوجه بالفصحى للشاعر / أكرم حسن
    بواسطة اكرم حسن احمد في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 24-07-2012, 10:12 AM
  2. حسن البنا رحلة لن تنته بعد
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-02-2005, 09:33 AM
  3. الإمام حسن البنا رحمه الله
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 31-01-2005, 03:55 PM
  4. موقع رائع"حقيقة حسن البنا" أرجو من الجميع دخوله
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 26-11-2004, 02:08 PM