فطر الإنسان على حب النفس والرغبة في أن يكون هو لا غيره صاحب الحظوة والحظ من أي شيء ومن كل شيء. وهذه الفطرة تدفعه عادة إلى التعاطي مع الواقع الحياتي من خلال انتهاز كل فرصة مواتية بل والدفع تجاه خلق الفرص التي يتمكن من خلالها لتحقيق ما يريد من كسب مادي ومالي وثقافي واجتماعي، ومن حسب يوصله لحالة الرضا الذاتي والتوازن النفسي. ولكن فطر الإنسان أيضا على معرفة المثل العليا للعلاقات مع الآخرين والتمييز بين الصواب والخطأ ولو على مستوى الأصول، فتقوده فطرته منذ نعومة أظفاره إلى سبيل الحق وتوجهه الظروف المحيطة والبيئة المتعلقة إلى ترسيخ هذه الفطرة فيه خلقا وسجية أو تحويرها فيه إلى طباع وخصال يجتهد ما عاش إلى تبريرها أو تصويرها على غير حقيقتها في عين القوم ثم لا يلبث أن يألفها ويصدقها ويراها مع الأيام صوابا ورشدا.
ومن هنا ومن خلال الممارسة المستمرة لحالة التبدل الفطري يميل ميزان الحكم في النفس ويصبح الرأي نابعا عن هوى النفس والقرار متأثرا برغبة النهزة لممارسة الأنا وما يرافق ذلك من وسائل عاضدة، ويجتهد ما استطاع إلى أن يحقق الكسب لنفسه أولا وثانيا قبل اهتمامه للعدل أو التفاته للحق. ولئن أتيت تسأل المرء أي مرء لأكد لك أنه لا يعرف إلا الحق ولا يحكم بغير العدل، ويذهب بعضهم حد الحلف مغلظا بالنزاهة في الحكم تنكر نفسه بالتعود على رؤية الأمور وفق منظورها وتفسيرها ماهية الفرق بين النهزة والنزاهة.
ويتبادر السؤال هنا؛ وهل من الخطأ أن يبحث كل امرئ عن صالح نفسه؟ أو؛ أما من نزيه منصف في الناس؟؟
الحقيقة أن الجواب الصحيح والذي لا يقبله جل الناس إن لم يكن كلهم هو أنه نعم من الخطأ انشغال كل امرئ بصالح نفسه فحسب دون مراعاة لحالة التعايش المجتمعي وعمارة الأرض التي تلزم البشر آليات تهتم بالنفس ولكنها تراعي أيضا وجود الآخر وطبيعة العلاقة معه وحقه هو الآخر في أن يكون له ذات الحقوق وذات الحظوظ. ونعم، لا يوجد هناك منصفون في حكم للنفس فيه حظ قل أو كثر وإنما يتفاوت فيه مستوى الانحياز بقدر مستوى التداخل وقدر حظ النفس منه وكذا مقدار التمسك بالقيم المثلى في نفس الحاكم، ولا يكون تمام النزاهة إلا عند انعدام المصلحة وعند ارتفاع القيم المثلى في نفسه إلى أعلى مستوى.
وعليه فإن حالة النهزة متأصلة في النفوس البشرية مهما ارتقى مستوى المرء وحتى لو كان تقيا أو رسولا نبيا اللهم من عصمه الله تعالى من هذا، وما اعتبرت قيمة العدل والنزاهة من أعلى القيم الإنسانية إلا لأنها حالة نادرة ولا يكاد يتمتع بها أو بحظ وافر منها إلا نخبة قليلة ممن اجتبابهم الخالق عز وعلا وإن كثر المدعون بهذا حتى ليكاد يصبح هذا الزعم حالة عامة عند الناس وبذا ستجد عجبا أن للعدل مليار أب ولن تجد للعضل وللجور أبا واحدا.
هي حالة موجودة ومنشرة إذن ولكن هذا لا يجعلها حالة صحيحة ومقبولة، وإنما على المرء أن يدرك بأن النزاهة في الحكم لا تحتاج جهدا جبارا في التخلص من النهزة ومن الأنا بل إنها تحتاج إلى مراجعة لطبيعة النفس والعودة بها للفطرة السوية وإلى إدراك الصواب والخطأ كقيم مجردة ومن ثم إدراك حظ النفس والبعد عن الحكم فيما لا يستطاع دفعه من حظ النفس وحكم الهوى. أما تحقيق المآرب والغايات فهذا حق لكل إنسان لا يمكن مصادرته ولكن يجب أن يكون لغايات نبيلة وبوسائل شريفة وبنهزة لا تصادر حقيقة الآخر ولا تجور على حقه، وبنزاهة الرأي والرؤية والتعاطي الراقي مع الحدث ومع صانعه.