إشكالية قراءة النص الشرعي ..
ينقل المبرد في كتابه ( الكامل في اللغة والأدب ) المراسلة التي كانت بين نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق رأس الأزارقة الخوارج .. حيث ينصح نجدة عامراً ويزجره عن قتله أطفال المسلمين .. فبماذا أجابه نافع ؟
أجابه :
( وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله ـ يا نجدة ـ مني ومنك، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} ، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} ، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام ) .
قلتُ : قاتله الله .. كيف جمع الجهل بآيات الله تعالى والجرأة على دماء المسلمين ..
ولو قرأ بتدبّرٍ القرآن ولم يجعله عضيناً لعرف جهله ، ولما ركب الغثارة رأس هذا الأنوك ..
فنوحٌ عليه السلام دعا بتلك الدعوة ، وصرّح بتلك الحقيقة بعدما أوحى له ربه أنه لن يؤمن له قومه وأبناؤهم ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) .. فجاء دعاؤه متناسقاً ومتحداً مع الوحي الإلهي ..
ثم تفكّرت .. كم من دماءٍ سفكت ، وأعراض انتهكت ، وأموال أُكل بالحرام ، بمثل هذا الفهم الأعوج ، والجرأة الجاهلة الغاشمة ..
لقد أخذوا ببعض الكتاب وتركوا بعضه ، ولم يفقهوا مقاصده ، ولم يراعوا سياقاً ولا مناسبة ، ولمثل هؤلاء كتب الشاطبي رحمه الله : ( ومدار الغلط إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت ... ) .
إنهم يقفون عند بعض الآيات ويتناسون أخرى .. فالذي ينظر إلى الدين على أنه سلامٌ لا قتال فيه ولا حروب ، تراه انحاز إلى الآيات التي فيها السلم ، ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ! دون سواها ، فينتزعونها من سياقها وسباقها ولحاقها ومقاصدها ، ثم يجمعونها في مكان واحد ، موهمين الآخرين بكثرة الأدلة والنصوص .. نصرةً لمذهبهم ورأيهم !
وكذا يفعل من ينظر إلى الدين على أنه حرب وقتال وسيوف لا سلام فيه ، فتراه يحشد آيات القتال دون سواها !
وكذا كل من يريد أن يمرّر فكراً أو رأياً اقتنع به أولاً بعيداً عن القرآن والسنة ، ثم صار يبحث عن نصوص شرعية ليؤيد رأيه ، ويضفي إليه الصبغة الشرعية !
أي يمارسون ما يمكن تسميته بالـ ( القراءة الاستغلالية ) للنصوص ..
وما ضلت تلك الفرق والجماعات الضالّة إلا بتقطيع النصوص ، واتخاذهم القرآن عضيناً ، وعدم أخذهم الدين جملة ، فإن القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً ، ويشهد بعضه لبعض ، كما قال ابن زيد : إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضاً ، ولا ينقض بعضه بعضاً ، ما جهل الناس من أمرٍ ، فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم !