مسألة الرق في فكر سيد قطب
رحمه الله
من تفسيره ( في ظلال القرآن )

كثيراً ما يتكرر السؤال عن حكم الرقّ في الإسلام، وهل يمكن أن يعود نظام السبايا في هذا العصر ؟
يجيب عن هذا السؤال المهم الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره ( في ظلال القرآن )، جواباً شافياً وافياً، وأنا على ما ذهب إليه وفصّل..

قال عند تفسيره للآية الكريمة ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) سورة المائدة، الآية 90 :
وأما في الرق مثلاً، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها. والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى. ولكنه جاء فوجد الرق نظاماً عالمياً يقوم عليه الاقتصاد العالمي. ووجد استرقاق الأسرى عرفاً دولياً يأخذ به المحاربون جميعاً.. فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله ـ مع الزمن ـ إلا الإلغاء، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة.
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء.. ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان. وما كان الإسلام يومئذ قادراً على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض. ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصوراً على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيء في عالم الرق هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.. ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلاً قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشىء.. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم. وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها. فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.
وبتجفيف موارد الرق الأخرى ـ وكانت كثيرة جداً ومتنوعة ـ يقل العدد.. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقه كاملاً في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده. ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته ـ أي إنه يصبح كياناً مستقلاً ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلاً ـ ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة. والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته.. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة. كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار.. وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة، لها وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه.
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئاً فشيئاً. وهذه حقيقة.. ولكن مبادئ الإسلام ليست هي المسؤولة عنه.. ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقاً صحيحاً في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه، قليلاً أو كثيراً.. ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا.. لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعاً إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك. فالإسلام لم يتغير. ولم تضف إلى مبادئه مبادئ جديدة. إنما الذي تغير هم الناس. وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم. ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه.
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ. إنما يستأنفها من حيث يستمد استمداداً مباشراً من أصول الإسلام الصحيحة..

ويقول عند تفسيره الآية الكريمة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) سورة البقرة، الآية 177 :
وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام ـ حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة. ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه. والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها ـ أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقاً في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة.. كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته..

ويقول عند تفسيره الآية الكريمة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) سورة النساء، الآية 3 :
فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة.
إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية. فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها ـ حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج ـ فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى « أم ولد » ويمتنع على سيدها بيعها; وتصبح حرة بعد وفاته. أما ولدها فهو حر منذ مولده.
وكذلك عند التسري بها. فإنها إذا ولدت أصبحت « أم ولد » وامتنع بيعها وصارت حرة بعد وفاة سيدها. وصار ولدها منه كذلك حراً إذا اعترف بنسبه وهذا ما كان يحدث عادة.
فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة.. على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه. فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة ـ كما بينا هناك ـ وأن الضرورة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء، لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شراً من هذا المصير!
على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه.. فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج وإما أن تتم عن طريق تسري السيد ما دام نظام الاسترقاق قائماً كي لا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية لا ضابط لها حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة كما كانت الحال في الجاهلية.

ويقول موضحاً سبب الاستكثار من الإماء، وخاصة في عصور المسلمين المتأخرة :
أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء، عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء وعربدة السكر والرقص والغناء.. إلى آخر ما نقلته إلينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء.. أما هذا كله فليس هو الإسلام. وليس من فعل الإسلام ولا إيحاء الإسلام. ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي..
إن الواقع التاريخي « الإسلامي » هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي « الإسلامي ».. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام خارجاً على أصوله وموازينه فلا يجوز أن يحسب منه لأنه انحراف عنه.
إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل. فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين. الإسلام هو الأصل والمسلمون فرع عنه ونتاج من نتاجه. ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي. إلا أن يكون مطابقاً للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام.
إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم ـ وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة ـ ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذٍ والأوضاع المتطورة في أنظمتهم هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم وطبقوها على أنفسهم.
فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم.. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه; فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي « الإسلامي » وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية فليس هذا واقعاً تاريخياً للإسلام. إنما هو انحراف عن الإسلام!
ولا بد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي. فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية وهي تختلف تماماً مع سائر النظريات التاريخية الأخرى التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب وتبحث عن « تطور » النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة ويؤدي إلى أخطار كثيرة في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي.