أطلقي الروح سيدتي!!!
نظرته الثابتة العميقة تثقب نفسي تفتش في حنايا الذات.. إشعاعات عينيه البارزتين الكحيلتين تحت حاجبين كثين كأشعة مقطعية تتلمس ملامح حياة كاملة عشتها دون توقف..
ابتسامة هادئة مشعة -هي الأخرى- بالطمأنينة سبقت كلمات تبدو غامضة إلا على عقلي الواعي..
"أطلقي روحك سيدتي.. حرريها من سجن العقل.. فكي عنها قيود المجتمع والناس والأقاويل هنا وهناك.. روحك سيدتي نقية طاهرة خلقها مولاها على فطرة وسجية لتقودك إلى بر الأمان.. لمَ تحبسينها في جسد فانٍ وعقلٍ شكَّاك وحِكَم بالية لمجتمع منكوس يغش الفطرة بالفلسفة والحليب بالماء وعسل النحل بالجلوكوز، والحب القدري بمصالح زائلة؟"..
تململتُ في مقعدي، لملمت أطراف ثوبي في محاولة يائسة لادعاء الثبات.. همهمت كمقدمة لإلقاء سؤال.. أشار لي بكف قوية بترت السؤال على طرف لساني.. وأكمل بمهابة: "ويلٌ لعقلٍ عذَّب روحًا.. ويلٌ لجسد سجنها.. ليس عندي جواب لأسئلتك ولا شفاء لأسقامك، ولا راحة لك أو خلاص.. إلا بخلاص الروح.. حرريها أولا ثم اتّبعيها تهتدين"
نهض في جلال.. غشيني نور لم يسعف عينيّ لالتقاط صورة كاملة له..
كان إيذانا منه أو أمرا واضحا بالانصراف..
كلماته الثاقبة تتكرر في عقلي ككلمات أغنية "شخصية عنيدة لأصالة" التي لا تبرح الـ"U S B" تُلح بها على مسمعي كلما قُدت سيارتي الخاصة في شوارع باريس..
وانساح شريط ذكرياتي أمام عيني، كأنما نشَّطته أشعة الرجل العينية التي أطلقها بداخلي.. كنت أعلم أن روحي لن تسكن أو تستقر إلا مع روحه.. ومع ذلك اخترت أن أحبسها عنه.. جادلني عقلي المتعب:"لكنه لم ينفذ وعوده"..
جادلته صارخة في تحدٍ: "تعلم قد حبسته الظروف"
"لا تحدثيني عن الظروف والمبررات.. الرجل يظل رجلا بكلمته أيا كانت الظروف.. أنت نفسك عشت تنفذين كلمتك ولو على رقبتك"
ابتسمتُ في خيبة وهمست"ولذا خارت قواي كلها.. لقد أردتني أن أنفذ مشيئتك واجعلها فوق مشيئة القدر.. انظر إلى ثمرة زرعك تجدها في نفس معذبة وروح حبيسة"..
"كنت أعلم وكنت تعلم قبلي بكل ظروفه.. الفوارق المادية والاجتماعية.. بُعد المشرقين بيني وبينه.. مسؤولياته الأسرية الجسيمة.. رفض الناس حولي.. غضب الأهل.. نظرة المجتمع.. المرة الوحيدة التي نصرت فيها روحي عليك عرفت معنى جنة الله تعالى على أرضه.. لم يُرضك هذا.. كبرياءك.. غرورك رفضا الاعتراف بالهزيمة لصالح روحي.. كنت قويا كفاية بمن حولي فكبلتها وسجنتها في نفسي لتُعذّبها وتُشقيني"
طرقات الصداع تفتك برأسي المتألم، يعاقبني على تمردي عليه.. صاح:
"لا أفهم هذه التقسيمات.. يقينا لا أعترف إلا بما أدركه بالحواس.. الروح غيْب.. والغيب لا يُدرك كُنهه سوى الخالق.. الإنسان مكلف بعقله لا بروحه.. أنا مناط التكليف وبيدي الأمر والنهي"
قلتُ ساخطة:
"إليك عني.. فماذا جلبت لي بشهاداتك العلمية الرفيعة.. مشروع "الكوتش".. الوظيفة المرموقة.. التألق في دنيا الثقافة وعالم الفكر؟.. هل جلبت لي السعادة التي افتقدتها إلا معه؟.. أنت مادّة، السعادة شعور وإحساس، تيار يسري في النفس بلا موجات حسية من أي نوع.. الروح سر الخالق فوق المادة والأشياء.. وحدها تلتقط موجات السعادة.. وحدها تجتذبها.. وحدها تشعر بها.. نجحت في قهرها فماذا كانت النتيجة؟.. جربت الرجال.. جربتهم في الحلال"..
ضحكتُ من نفسي ساخرة أتساءل:
"وهل الحلال شيخ وعقد وولي وشهود.. ولو غابت الروح أو تمردت أو رفضت التوقيع على عقد البهتان؟
" جربتهم فلم أجد السكن والمودة والرحمة إلا مع ذاك الذي لم يوفر لي من البيوت سكنا ولا من المعيشة زخرفا.. احتواني بحنان فوق الحنان وسر فوق الأسرار وروح أوت إلى روح بعد طول تيه..
ثم.. ثم أفقدتني إياه.. ومن بعد أفقدتني الحياة"
تكررت كلمات الرجل المهيب وقورة قوية في أذني"أطلقي روحك سيدتي من سجنها.. لا جواب عندي غير ذلك"