أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: وهم الخوف من العروض

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد النعمة بيروك شاعر وقاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    الدولة : عيون الساقية الحمراء
    المشاركات : 1,510
    المواضيع : 102
    الردود : 1510
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي وهم الخوف من العروض

    وَهْمُ الخوفِ من العروض

    قيل أن الفراهيدي كان ينقر بأصابعه على خشبة، في سعيه لاكتشاف بحر معيّن من الشعر، عندما دخل عليه ابنه الصغير، الذي كان يرى في أبيه الشيخ الفقيه الورع، فخرج يعدو إلى أمّه مفزوعا وهو يصيح: "لقد جُنّ أبي يا أمّاه"..
    هكذا هو العروض: نقر، أو دقّ على دُف، أو طرب، أو ترنّم، أو تقطيع صوتي.. إنه إيقاع في آخر المطاف، لذلك سموه الشعر الغنائي، وسمّاه الصحراويون "لغْنَ"، فقط دعك في هذا الإطار وسمّه ما شئت، لكنه ليس بالقطع ذلك "البعبع" الذي طالما أفزعنا ببعض التفاصيل الواهية، التي نفّرت أكثر ممّا رغّبت، فكان الشعر منذ أمد طويل ضحية التعقيد الذي لازم -وما زال يلازم- المنظومة التعليمية في العالم العربي، ولم يكلّف أحد نفسه عناء النّقر الذي كان يفعله الفراهيدي، ليقول لنا "هذا هو البحر" بدل الدخول في تفاصيل التغييرات التي تحدث على بحور الشعر، والتي انهمكنا فيها، واشغلنا بها قبل أن ننشغل بالبحور ذاتها، أو نعرف الشعر ذاته، وكأن شعراء الجاهلية وبني العباس كانوا يدرسون الزحاف والعلل قبل أن ينظموا القصائد، وكأن الشعر أيضا لم يظهر قبل العروض، فالفراهيدي لم يفعل شيئا غير اكتشاف ما هو موجود بالفعل، ولا أظنّ كل التفاصيل التي جمعها الفراهيدي في علم العروض تهم الشاعر الحقيقي الذي يعرفها بالفطرة، وإنما اجتهد هذا العالم وغيره لتقديم شيء يحمي الشعر من غير المنتسبين إليه، والذين يتعلّمونه تعليما، بدل فهم طبيعته القائمة على الرنة الموسيقية الفطرية في ذهن الشاعر وفي قلبه، وربما في غير الشعراء من العرب أو الناطقين بالعربية بالفطرة والذين يستحسنون جيده، ويستثقلون قبيحه، دون الحاجة لدراسة العروض، تماما كما ظهرت اللغة قبل النحو والصرف اللذين أحدثا لغير العرب من الدخلاء على العربية قديما، فالعربي يرفع الفاعل دون تلقين من أحد، وتحضرني هنا قصة الأعرابية التي رفضت أن تقول "تبّت يدا" لأن الفقيه الذي يشرف على تلقينها "سورة المسد" وقف دون ذكر "أبي لهب"، فكانت في كل مرّة تقول "تبّت يدان" لأنها لا تجد المضاف إليه.
    إن هذه الأعرابية الطفلة تعلّمت قواعد اللغة العربية سماعيا من أفواه أهلها والناس، ولم يقم أحد بتعليمها أن المثنى غير المضاف إلى شيء لا تحذف نونه، وهو بالضبط ما ينطبق على الشعر، ولنا في الحالة الحسانية مثلا واضحا في الآذان الشعرية التي لاتخطيء الوزن سماعيا، دون سابق تعلّم لأي حيثيات تتعلّق ب"لبْتوتْ" والظّهْرة" وما يتعلّق بها من تفاصيل.
    ورغم أن العالم تجاوز الطرق التقليدية في التعليم، حتى في اللغات، حيث بات التعرف على طبيعة اللغة يأتي أوّلا قبل كل شيء، من خلال الاستماع إلى العبارات الجاهزة، والتعوّد على اللكنة والطبيعة الخاصة بها، وهو ما يخلق نوعا من التعارف بين المادة والمتلقي، تأتي بعده بفترة تفاصيل اللغة كمنظومة، إلا أننا ما زلنا نصرّ اليوم على تعقيد الأمور في الكثير ممّا يمكن بثّه في ذهن الطالب دون الحاجة إلى جعله ينفر منه، بدلا من أن يحب ما يدرس، ويستمتع بما يطبّق.
    لهذه الأسباب أصبحت دراسة العروض مقتصرة تقريبا على الطلاب والتلاميذ، لا لشيء سوى لاجتياز الإمتحانات، بدل أن تكون منطلقا لحب الشعر، واحترافه، أو احتراف تعليمه.
    ومن خلال تجربتي الشخصية مع تلاميذ الباكالوريا المطالبين بمعرفة بحر القصيدة المعروضة للتحليل الأدبي، فقد لاحظتُ أن الكثير منهم يطلب مني أن أجد له طريقة يعرف بها بحر القصيدة دون الحاجة لكلّ تلك التفاصيل، وربما دون تقطيع أصلا، بيد أن البعض الآخر يرفض حتى الانتباه لدرس العروض بسبب الخوف من تفاصيله، ويتوهّم أنه لم ولن يتعلّمه أبدا، وقد حدث أن شرد عنا أحد الطلاب في حصة العروض بدعوى أنه يفضل استغلال ذلك الوقت في مراجعة شيء آخر، قبل أن أطمئنه بأنني لن أدخل في التفاصيل، وسأعرض عليه بحور الشعر بطريقة أخرى، إذْ طلبتُ منه أن يترنّم ببيت على وتيرة قصيدة "البردة" للبوصيري والتي أعرف أنه –أي التلميذ- كان يتغنى بها مع الفقهاء في المساجد، وحينما فعل، قلتُ له أن ذلك البيت في البحر البسيط، حينها صاح "لقد خبرتُ البحر البسيط"، وهكذا انتقلتُ معه ومع التلاميذ إلى بحور أخرى، حيث كنتُ أقرِن كل بحر بلحن معين، ويكفي لتعلم البحر المتقارب مثلا أن يستمع المرء بنوع من الطرب والترنّم والإمعان لقصيدة "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشابي، على إيقاع النشيد التونسي –مثلا- الذي يحتوي على بعض من أبياتها، حينها لن ينسى ذلك البحر الذي يظل مقترنا بذلك اللحن، حيث يكون المقياس الذي يعرف به ما إذا كان أي بيت يصادفه موزونا على المتقارب أم لا.
    والحقيقة أنني منذ فترة تعرّفت على السيد رضوان رحالي وهو رائد من رواد هذه الطريقة البسيطة في تلقين بحور الشعر دون الحاجة للدخول في الكثير من التفاصيل الصعبة والمملّة والمعقدة، إذ تعتمد طريقة هذا الشاعر على قراءة القصيدة بشكل يقف أو يكاد عند كل تفعيلة من تفعيلات البحر الذي تسير القصيدة على منواله بشكل إيقاعي واضح، فيه نوع من الإنشاد العروضي الممتع، حيث يحب الأطفال ترديد المقاطع الشعرية التي تخلق رنة موسيقية في أذهانهم، فيعرفون بحر القصيدة سماعيا دون الحاجة لتقطيعها على الكراسة، وحتى إذا أراد التلميذ ذلك فستكون عملية سهلة، ليست أكثر من انعكاس لما يحتفظ به في ذهنه من إيقاع.
    لقد نجح رحالي في عرض تجربته الفريدة في مدينة الطنطان وأسفرت عن شعراء في سن مبكرة، منهم من أصبح شاعرا معروفا مثل يوسف الركيبي، وها هو اليوم يستنسخ التجربة في مدينة الداخلة حيث عرض منذ أيام قصيدتي "أنا لستُ شارلي سيدي" على تلاميذه في ثانوية ابن طفيل والرازي، ويظهر لأي متتبع لعملية التلقين من خلال موقع اليوتيوب، كيف أن الأطفال يترنّمون ويستمتعون بترديد تفعيلات البحر الكامل وهو يقرؤون القصيدة.
    لقد آن الأوان لإعادة النظر في الكثير من آليات التلقين المدرسي، التي تُغيّب في الغالب جانب التحبيب، والتبسيط، والليونة في عملية تلقين التلميذ، فلن يتميز هذا الأخير في المادة المعروضة عليه، أو ما يتعلّق بها، ما لم نُحدِث في نفسه شغفا ما، خصوصا في وجه من أوجه الأدب الجميل، ألا وهو الشعر.
    http://bairoukmohamednaama.wordpress.com/

  2. #2
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    المشاركات : 15
    المواضيع : 2
    الردود : 15
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي

    احسنت إستاذى الفاضل
    وجزاك الله خيرا واتمنى ان تواصل الشرح فى تبسيط بحور الشعر كما تفضلت فى شرح البحر البسيط والمتقارب

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد النعمة بيروك شاعر وقاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    الدولة : عيون الساقية الحمراء
    المشاركات : 1,510
    المواضيع : 102
    الردود : 1510
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طاهر طاهر مشاهدة المشاركة
    احسنت إستاذى الفاضل
    وجزاك الله خيرا واتمنى ان تواصل الشرح فى تبسيط بحور الشعر كما تفضلت فى شرح البحر البسيط والمتقارب
    أهلا بك أخي طاهر، بالنسبة للشرح فقد ورد في المقال مثالان، أما التعليم فيحتاج الصوت..
    عن البحر البسيط فاللحن الذي تنشد به قصيدة البردة خاص بالمنطقة الحسانية الممتدة من جنوب المغرب إلى مالي، ولكن يمكن البحث عن أغنية فيها أبيات من نفس البحر، بالنسبة للمتقارب فيكفي أن تقرأقصيدة الشابي الشهيرة "إرادة الحياة" بلحن النشيد التونسي، والمعيار سهل، عندما لا تستطيع أن تلحن شطر على منوال النشيد فهو ليس في المتقارب، أما إذا استطعت وانسابت معك الكلمات في اللحن فهو في المتقارب، وقس على بقية البحور والألحان التي توافقها، ويمكن العثور على ألحان للبحور في اليوتيوب، إذ يكفي أن تكتب اسم بحر في خانة البحث..

    شكرا لحضورك الجميل.

  4. #4
    الصورة الرمزية عدنان الشبول شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2013
    المشاركات : 5,981
    المواضيع : 225
    الردود : 5981
    المعدل اليومي : 1.51

    افتراضي

    عرض جميل أستاذي الكريم ، واللحن كما تفضلتم هو أسهل طريقة لمعرفة البحر الشعري وكذلك هو دليل الشاعر عندما يقول شعرا ...

    ولكل أن يعتمد اللحن الذي يحب لأي بحر ... فيتجمل الشعر ويطرِب وتحلو قراءته كذلك




    موضوع جيد ومفيد وخفيف لطيف


    ألف تحية

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد النعمة بيروك شاعر وقاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    الدولة : عيون الساقية الحمراء
    المشاركات : 1,510
    المواضيع : 102
    الردود : 1510
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عدنان الشبول مشاهدة المشاركة
    عرض جميل أستاذي الكريم ، واللحن كما تفضلتم هو أسهل طريقة لمعرفة البحر الشعري وكذلك هو دليل الشاعر عندما يقول شعرا ...

    ولكل أن يعتمد اللحن الذي يحب لأي بحر ... فيتجمل الشعر ويطرِب وتحلو قراءته كذلك




    موضوع جيد ومفيد وخفيف لطيف


    ألف تحية
    هو كذلك الأديب عدنان.. لو أدرك البعض سهولة النظم -ولا أقول الإبداع- لجربوه، إذ يكفي أن يقرأ المرء قصيدة طويلة في بحر معين بنوع من الطرب والترنم ليقول على منوالها، خصوصا مع التكرار، وبالأخص حين يتوفر حد أدنى من الشاعرية..

    أسعدني رأيك في المقال.. شكرا جزيلا لك.

المواضيع المتشابهه

  1. وهم الخوف من العروض الرقمي
    بواسطة خشان محمد خشان في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 29-03-2014, 01:44 AM
  2. الفرق بين العروض وعلم العروض
    بواسطة خشان محمد خشان في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 25-09-2012, 01:00 AM
  3. "مَن كذَبَ عليَّ مُتعمِّداً، فليَتَبوّأْ مقعدَهُ منَ النّـار "
    بواسطة أسماء حرمة الله في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 25-03-2008, 01:17 AM
  4. مَن قتل مَن ؟
    بواسطة سعيد أبو نعسة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 01-12-2006, 09:20 PM