أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 15

الموضوع: أنا وقابيل!

  1. #1
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي أنا وقابيل!

    أنا وقابيل!


    تعيسةٌ أنا مُذْ فتحت عيني على هذا العالم الذي لا يهدأ!
    مللتُ هذه العتمة.. الروائح الموبوءة.. نتكدّس ونتكدّس.. أسمع أصواتهنّ.. أشمّ روائحنّ التي هي كرائحتي التي مللتها للمرة الألف بعد الألف!
    فماذا يمكن أن يصنعوا بي وبأترابي؟
    إشتقت إلى النور!
    في ذلك اليوم ظننت أني سمعت صوت الخلاص.. كانت الأقدام تقترب، والأصوات ترتفع بوتيرةٍ قلقةٍ.. لكن.. تبددتْ أحلامي عندما اقترب منّا أحدهم، فسالت في كياني موجة تشاؤم انبعثت من أنفاسه النّتنة..
    مدّ يديه القذرتين نحوي فأوقفه صوتٌ محذراً:
    ـ إذا تمّ كشف أمركم فاعلموا أننا ـ بمجرد مغادرتكم ـ لسنا مسؤولين عن شيء، حتى الوزير سينكر معرفته بكم!

    صكّتْ كلمة الوزير في أذني.. كان هنا منذ أيام.. لمسني بافتخار، بلامبالاة، بل بنشوةٍ عارمةٍ أخذ يمرّر أصابعه يتحسّسني..
    آه.. كم أصبت بالقرف حينها.. بالكراهية.. كانت يداه كنار كادت تفجرني!
    قفزتْ إلى ذهني أسئلة مؤرقة: لماذا صُنعنا؟ هل نحن فعلاً بنات أفكار خاطئة؟ الخطيئة نفسها؟
    تقطّعت سلسلة أفكاري عندما اهتزّ المكان وما فيه.. بدأوا يدفعوننا في سيارات، ويحشروننا دون مبالاة..
    كنت أرى المشهد من ثقب في سجني الصغير!
    لكم أكره هذه الحياة.. هذه الأيدي القذرة.. الأنفاس الخاطئة.. العرق المتصبّب على جباهٍ ليس فيها سيماء إنسان!
    لكم أكره سجني الخشبي هذا، أو السجن الحديدي الذي سأدخله في آخر المطاف، كما سبقني إلى ذلك أترابي!
    هناك.. حيث النهاية.. نهايتي أنا، ونهاية من ألتقي به وأعانقه.. نهايةٌ من دماء ورماد..
    هناك.. حيث أستحيل شعلة نارٍ أنتزع منه فتيل الروح!

    هدرت السيارة في طريقٍ ملتوية، كنت أتحسّس العالم من ذلك الثقب الضيق المضيء، الذي كان كل شيء بالنسبة لي، صلتي بالعالم.. بحريتي.. أملي.. مستقبلي الذي أعلم يقيناً أنه لن يتغير..
    شيئاً فشيئاً كانت رائحة المكان تتغير.. الملح.. نعم رائحة الملح.. علمتُ حينها أننا اقتربنا من البحر..
    عجباً ! تساءلت: هل سنركب البحر، إلى أين هذه المرة؟ أنكون شؤماً عابراً للقارات أيضاً؟
    فنحن شؤم.. ولادتنا شؤم.. طريقنا شؤم.. موتنا شؤم.. لا نحلُّ بمكان حتى يصيبه الوباء.. المرض.. الكراهية.. الحقد.. فأيّ وباءٍ نحمله إلى وجهتنا تلك؟
    أصابني إعياءٌ مضاعفٌ واستسلامٌ جبان!
    الرؤيا كانت معدومة إلا من بصيصٍ يبهر البصر ثم يخفتْ.. كان الليل قد أرخى سدوله.. والرجال يتهامسون بحذرٍ شديدٍ ويتحركون بسرعةٍ خفيفةٍ، أثناء نقلنا إلى متن السفينة خشيةً من حرّاس الشاطئ.
    كانوا يكدسوننا في أسفل السفينة بين الأشياء، فعادت الروائح الكريهة مرة أخرى.. الرطوبة والعفن وأنفاس الرجال القساة!
    بدأت الرحلة، ولكن.. إلى أين؟
    تساؤلٌ لم أملك ولم يملك من قبلي من أمثالنا له جواباً، الإجابة الوحيدة كانت دائماً أن لحماً بشرياً يحتضننا، نتضمّخ بالدماء!
    بعد مدة لم أدرِ كم كانت، انتبهت على صوت أحدهم وهو يهمس: هناك.. سنسلمهم بعد غروب الشمس..
    وبعد الغروب نقلونا إلى سيارات قادتنا نحو المجهول..
    حينها بدا لي سؤالٌ مهم.. لماذا كل هذا الهمس والحرص والخوف؟
    عشرات السنوات وهو ينقلوننا على مرآى الأبصار والضمائر، ولا أحد يحرك ساكناً، بل أيقنت أن الجميع مشتركون في الجريمة.. فلماذا هذه المرّة كل هذا الحرص والصمت؟
    شككت أن الحمولة هذه المرة تخبئ شيئاً مختلفاً، ليس مثلنا.. أغلى ثمناً وأخطر!
    توقفت السيارات فجأة.. كانت أنفاس الرجال وهمساتهم تتصاعد، نقلوا شيئاً ما غيرنا بسريّة تامّة.. تحول شكّي إلى يقين.. كان بيننا ما توقّعت!
    انطلقت السيارات بسرعة، سمعت ضحكاتٍ منتعشةٍ راضيةٍ..
    ثمّ وصلنا كما يبدو إلى وجهتنا.. الآن أسمع صوت الشؤم والدمار.. أنفاس الكراهية والضغينة.. ههنا كل معولٍ لهدم الإنسان والإنسانية..
    تباً.. وألف تبٍّ لهذه الحضارة الممقوتة التي تصنعنا وتقذف بنا في الهيجاء، لا نملك لأنفسنا دفعاً ولا منعاً!
    آهٍ.. لو كنت مثل هؤلاء، لطويتُ الأرض سراعاً، ولطرتُ دون جناحين إلى جزيرة نائية أقضي حياتي فيها متأمّلاً هذه السماء المتلألئة.. وإنّي إذن لسعيد!
    رمونا في أحضان الرجال القساة.. حشرتني يدٌ قذرة مهووسة في علبةٍ صغيرةٍ، ثم لا أدري كيف وصلت إلى شيء أشبه بنفق ذي نهاية مضيئة.. ارتحت وتنفست الصعداء، فلعلّ هذا الرجل قد أشفق لحالي، فرأى أن يتركني أذهب حيث النور..
    لكن.. تحركت تلك الفتحة المضيئة يساراً بحركة جنونية.. تمعنّت النظر من خلالها.. كانت تلاحق فتاة سمراء لم تتجاوز الثانية عشر.. تهرول بفزع.. يستوقفها صوت الرجل القذر المهووس.. تقف مذعورة، تلتفت إليه.. عيونها تسبح بالدموع.. صدرها يعلو وينخفض بعنف.. يداها ترتعشان.. شفتان تتوسلان من غير ما حركة..
    ثمّ.. أحسستُ أنفاس الرجل أصبحت أكثر هوساً وقذارة، دقات قلبه تخفق بشوق للكراهية والحقد والضغينة..

    السماء تغيّرت ملامحها.. الروائح والألوان والأشكال تبدّلت..
    انطلقت بسرعة هائلة عبر النفق.. لامست الضوء بعنف شديد.. جامحة نحو هدفي الدقيق.. الفتاة المذعورة!
    اختلط بارودي بنجيعها ودماغها.. أحسست بحرارة جسدها ثم برودته.. شممت دمها، كان لا زال شاباً طرياً!
    سقطتْ..
    وأنا لابدةٌ في رأسها البريء أندبُ حظي المشؤوم..



    لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,133
    المواضيع : 318
    الردود : 21133
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    حتى الطلقة المصنوعة من حديد شعرت وتحركت لتنقذ تلك الفتاة المسكينة
    حتى لو كان ذلك بموتهما هما الأثنتين.
    وقصة رائعة عن تجارة السلاح وما تجلب من دمار ، وما تنتهك من حقوق الإنسان
    وما يكتنف هذه التجارة من غرابة وغموض ـ تتسابق الدول الكبرى في صناعة الأسلحة
    ليهدد الإستقرار وتشعل نار الفتن والحروب في الشعوب الصغيرة ويكون القتل والدمار من نصيبهم
    فتزدهر صناعاتهم وتزداد أرباحهم.
    حبكة تقوم على فكرة قوية ـ ونص بديع في صياغته وسرده، وقفلة رائعة موحية.
    مدهشة بذكاء طرحها ولا عجب فإنك قاص موهوب ومعبر.
    لك تحياتي وودي. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,133
    المواضيع : 318
    الردود : 21133
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    يبدوإنني قد تركت القصة وصياغتها ، لأتحدث عن تجارة السلاح وخستها
    ولكن هذا لا ينفي إنني تمتعت بالفكرة والتي سبكتها بالوصف والحوار الداخلي
    والسرد المشوق ـ فشكرا لك وسلمت يداك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي


    أشكرك أستاذتي العزيزة على هذه القراءة المبدعة والتحليل الدقيق
    الذي سبر الحرف واستخلص رحيقه ومراده..
    وأشكرك على شهادتك التي أعتزّ بها

    حفظك المولى ورعاك
    تحياتي ودعواتي



  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    رحلة رصاصة بين نشأتها وتخزينها ونقلها وحتى مرفأها الأخير في رأس طفلة مذعورة
    نجح الكاتب بأنسنة الطلقة موضوع النص حتى عايشنا فيها معاناة امرأة وخلناه يطرق باب تجارة الرقيق الأبيض فإذا به باب لا يقل قذارة وخسة حيث تجارة السلاح ولعبة الموت

    خلتها طالت قليلا، غير أن جمالية السرد وهذا الغوص الذكي في الحوار الداخلي حيا تتزاحم فيه المشاعر وتتقاطع خطوط الأمل واليأس جعلها تمضي شائقة لافتة

    دام صليل يراعتك نابضا بالفكر
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    براعة في الوصف وذكاء في الطرح باسلوب مشوق وفكرة نبيلة الى نهاية موجعة
    وما بين البداية والنهاية طريق للحرف تبعناه بشغف
    انت قاص مبدع
    بوركت وتقديري

  7. #7
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيحة الرفاعي مشاهدة المشاركة
    رحلة رصاصة بين نشأتها وتخزينها ونقلها وحتى مرفأها الأخير في رأس طفلة مذعورة
    نجح الكاتب بأنسنة الطلقة موضوع النص حتى عايشنا فيها معاناة امرأة وخلناه يطرق باب تجارة الرقيق الأبيض فإذا به باب لا يقل قذارة وخسة حيث تجارة السلاح ولعبة الموت

    خلتها طالت قليلا، غير أن جمالية السرد وهذا الغوص الذكي في الحوار الداخلي حيا تتزاحم فيه المشاعر وتتقاطع خطوط الأمل واليأس جعلها تمضي شائقة لافتة

    دام صليل يراعتك نابضا بالفكر
    تحاياي
    تشرفت بحضورك العطر أستاذتي العزيزة وقراءتك
    وسعيدٌ أنها أعجبتك..

    دمت بخير وعافية
    تحياتي ومودتي





  8. #8
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    أخي الأستاذ بهجت الرشيد..
    أسلوب جميل في السرد .. وصف الأجواء واكب الحدث مما جعل القارئ يعود مرة أخرى للنص حينما توصل لفك الحبكة ..
    سررت بالمرور والقراءة .
    تحياتي .
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  9. #9
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 64
    المشاركات : 8,888
    المواضيع : 157
    الردود : 8888
    المعدل اليومي : 1.51

    افتراضي

    أقصوصة بديعة أخي الأديب الراقي بهجت الرشيد اعتمدت الفانتازية لإبراز الجريمة من زاوية الجماد الذي كان به من الإحساس والضمير ما ليس فيمن يوظفه للجريمة .

    تقديري الكبير وتحية طيبة
    يا شام إني والأقدار مبرمة /// ما لي سواك قبيل الموت منقلب

  10. #10
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,367
    المواضيع : 200
    الردود : 2367
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    " تعيسةٌ أنا...... اشتقت إلى النور!"
    صور لنا السارد رؤية البطلة للعالم الذي تتخيله،عالم بات خال من الأمن والاطمئنان ، بل بات في هرج ومرج ،غير مستقر، يتميز بالعتمة، فرائحة الدم تنبعث من تراب الأرض كأن هذا العالم يغرق .
    مهد السارد للنص بافتتاحية تصور حيرة البطلة وعدم ثقتها في هذا العالم الموبوء، من أجل كسب ثقة القارئ، وجعله يقتنع بما سيحكى فيما بعد، فهي ليست افتتاحية تشويقية وإنما هي محفزة للتأمل والتعاطف والفهم وشد القارئ لكسب صوته وتحسيسه بخطورة ما وقع .
    قد لا نفهم كيف ترى البطلة عدم هدوء العالم ، لكن السارد اختار إشارات لغوية لتوضيح عدم استقرار العالم الذي يتجلى في العتمة والروائح ، والتكدس والأصوات المتعالية .. وبذلك يكون السارد قد نقل بالبطلة من الكل إلى الجزء، من مشهد العالم الكلي إلى العالم النفسي الجزئي للبطلة، من العام إلى الخاص. بحيث نجد تلك البطلة نسيت عتمة العالم، فحسرت تفكيرها في العتمة النفسية التي تأكل من نفسها وذاتها ومحيطها..فكان السؤال التالي / فماذا يمكن أن يصنعوا بي وبأترابي؟ اشتقت إلى النور!
    في ذلك اليوم ظننت أني سمعت صوت الخلاص../ في ذلك اليوم / إشارة إلى زمن غير محدد،حدث بقي راسخا في ذهن البطلة، حيث اختلط صوت "الأنا " بصوت " الجماعة " اقترب منا " فالبطلة لم تكن وحدها، والسارد جعلها تحكي عن نفسها بدل من أن يحكي الكل عن ما يحس به. فالبطلة كانت تتوهم أن الخلاص آت لما حضر الوزير كسلطة عليا، لكن أحلامها تبددت لما أحست أن مؤامرة قد حيكت في الخفاء، وهي محاولة من السارد لتكسير مسار السرد بعدما فتح كوة يطل بها القارئ عن الوضع السياسي المترهل الذي يجري في الكواليس، كأن توطئا مبيتا بين السلطة العليا والجماعة المنفذة للأوامر، لم يحدد السارد مضمون هذا التواطؤ والأسباب الداعية له صراحة ليترك للقارئ أن يستنفر ثقافته ومعرفته من أجل استنباط مجمل حوادث الاختطاف التي تحدث في بلد يعيش فيه أو قريب منه دون تحديد المكان والزمان ..
    /قفزتْ إلى ذهني أسئلة مؤرقة: لماذا صُنعنا؟ هل نحن فعلاً بنات أفكار خاطئة؟ الخطيئة نفسها؟...... وإنّي إذن لسعيد!/
    إنها مؤامرة الترحيل، بل مؤامرة الاختطاف تمت بتخطيط ممنهج، عمل السارد على رسم خريطتها الجغرافية، ابتداء من الطرق الملتوية، وصولا إلى البحر، فالركوب في السفينة، ثم إلى الوجهة المجهولة. لقد كان زمن الرحلة طويلا، إذ بدأ في جنح الظلام / الرؤيا كانت معدومة إلا من بصيصٍ يبهر البصر ثم يخفتْ.. كان الليل قد أرخى سدوله../ومن المتوقع أن تنتهي الرحلة في غروب الغد / انتبهت على صوت أحدهم وهو يهمس: هناك.. سنسلمهم بعد غروب الشمس../ رحلة فيها تمويه وتضليل، وما دامت خريطة السفر غير معروفة وواضحة يمكنها أن تجري في بقاع العالم. لكن السارد ركز على رحلة القلوب والأنفاس وما يعتريها من ذعر وخوف وتساءل، بل متمنيات متلبسة بالريبة والشك .. فقد أحست البطلة أن لا فرق بين أجساد البشر والبضاعة، كل شيء يباع في السوق بثمن، ولا فرق بين تجارة الأجساد والأسلحة الفتاكة.. يقول السارد على لسان البطلة / شككت أن الحمولة هذه المرة تخبئ شيئا مختلفا، ليس مثلنا.. أغلى ثمناً وأخطر!/ نقلوا شيئا ما غيرنا بسريّة تامّة.. تحول شكّي إلى يقين.. كان بيننا ما توقّعت!/...
    /رمونا في أحضان الرجال القساة/.... اختلط بارودي بنجيعها ودماغها.. أحسست بحرارة جسدها ثم برودته.. شممت دمها، كان لا زال شاباً طرياً! سقطتْ/
    إنه القتل البشع ، فلا رحمة ولا إنسانية ..قتل مجاني دون رقيب ولا حسيب ..قتل يدخل في تربية الأجيال على سفك الدماء لتحقيق نشوة الانتصار الذاتي والنفسي .. إنه استنساخ للقيم الإنسانية النبيلة بقيم سلوكية سمتها الاستهتار بأرواح بريئة ..
    حاول السارد تقديم شخصيات مختلفة المواقف في صيغ حكائية متنوعة ،واختار " أنا " الذي يحمل الهم الاجتماعي والإنساني من خوف وذعر وانعدام الاستقرار والتوازن، فكأنه يشير إلى استفحال الجرائم في هذا العالم الذي يتبجح بالديمقراطية المبنية على العدل والمساواة، بينما نجد الحقيقة أن العالم ما يزال يرتكب الجرائم على غرار ما ارتكبه قابيل.
    النص يعطينا فكرة عن الفوضى التي يشهدها العالم في ظل الصناعة المتقدمة للأسلحة المدمرة والتي تسقط في أيادي يابسة وجافة من الرحمة، وموازاة مع فوضى العالم، خلق السارد فوضى نفسية وذاتية وفكرية، تحاصرها الآلام فظيعة تولدت من الظلم والعدوان، كالاختطاف والاغتصاب والقتل، والمتاجرة في البشر والحجر. فكأن العالم المعاصر ولى ،وأصابه نكوص معوج نحو العالم البدائي الأول. فاستحضار شخصية "قابيل " في العنوان لم يكن اعتباطيا،أعتقد أن الهدف من إدراجه هو التذكير بالجرم الأول لنقارن بين بداية العالم الاجتماعي القديم والجديد عسى أن نخرج برؤية منصفة للعالم الذي نعيش فيه.
    قصة جديرة بالقراءة والمتابعة اعتمدت عل حكي جميل مبني على لغة أدبية متناسقة مع الحالات والوضعيات النفسية والذاتية والفكرية لكل شخوص القصة ،إلا أن السارد أطال في وصف تلك الرحلة، فبقدر ما كانت ملتوية ومضللة ومخفية بقدر ما جاء التتبع للرحلة ملتويا ينقصه الضبط في تعيين الأماكن بدقة ..وقد نقول بأن العملية كانت مجهولة لذلك ارتأى السارد أن تكون الرحلة غامضة وسرية. والواقع نجد السارد جمع بين الواقع والتخييل، وأعتقد أن هذه الواقعة قد وقعت فعلا إلا أن السارد لم يكشف كل التفاصيل التي قد تضيء جوانب كثيرة. وليس بالضرورة أن يكشف الأدب عن وقائع خفية حقيقية للإنسان، وإنما يتوسل بها للكشف عن ما هو سلبي وإيجابي من أجل الإسراع إلى التغيير والتفكير في طرق أخرى بديلة تنحو نحو السلوك القويم والأخلاق الحسنة.
    هكذا قرأت هذا النص الجميل والمؤلم في نفس الوقت ،أتمنى أن يحالفني القول فيما ذهبت إليه ..
    محبتي وتقديري أخي المبدع المتألق بهجت ..

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. هابيل وقابيل - الجزء الرابع
    بواسطة راتب عبد العزيز القرشي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-06-2012, 09:00 PM
  2. هابيل وقابيل - الجزء الثالث.
    بواسطة راتب عبد العزيز القرشي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 21-06-2012, 09:35 AM
  3. هابيل وقابيل - الجزء الثاني
    بواسطة راتب عبد العزيز القرشي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-06-2012, 11:47 PM
  4. قصائد هابيل وقابيل - الجزء الأول
    بواسطة راتب عبد العزيز القرشي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17-06-2012, 09:51 AM