فصاحة الكلام وبلاغته
المستشار الأدبي :حسين علي الهنداوي
تقوم جمالية العربية على مر العصور، ومنذ أقدم الأزمان على مكاشفتها المرموقة للكلمة التي هي لب المعنى الإنساني المعبر عن حاجات الإنسان المادية والمعنوية والشعورية تجاه الحياة والإنسان والكون , وذلك من خلال استعمالها الدائر بين قبائل العرب وفي منتدياتهم ومغامراتهم ومواسم الأسواق والحج في القديم ومن خلال ما طرأ على حياتهم في العصور اللاحقة , ثم ما لبث أن نزل القرآن الكريم بهذه اللغة التي ثبت أنها قادرة على حمل المعاني الإلهية والكونية والإنسانية , وما زالت الوقائع والأحداث تثبت حتى يومنا هذا أنها قادرة على مواكبة العصر ومتطلبات العلم وآفاق المستقبل , وما ذلك إلا لقدرة هذه اللغة وخصائصها التعبيرية والتصويرية والاشتقاقية التي تضفي عليها بعداً جمالياً خاصة حين تنقل لنا المشاعر الإنسانية تجاه الكون والحياة والناس, فتاريخ الأدب وتفاعلاته وتداخلاته هما منشأ هذا الفيض من الفن الكلامي , فإذا ما فتشنا عن سر جمالية الأدب وجدنا أنها تنحصر في أسلوبه (روحه ، و فصاحته ، وبلاغته ، خياله ) التي تظهر ما لدى النص الأدبي من إمكانيات معنوية ، وجمالية بحيث تجعله مؤثرا ً في النفس البشرية ، لأن الفصاحة والبلاغة هما ركنا الأدب الحاملان له وهما المعبران عن المعاني الإنسانية بشكل جمالي نافع . إن بلاغة الكلام وفصاحته تضفي على النص الأدبي غلالة من الجمال بكونه موطن استقطاب من الملتقي ، وعنصر استلابه. وإذا كانت فصاحة الكلام هي الظهور والبيان لمفرداته, فإن الكلام الفصيح هو الكلام الظاهر البيّن بحيث تكون ألفاظه مفهومة لا نحتاج في فهمها إلى استخراج لغة ولا يعني ذلك المباشرة في تناول القضايا الأدبية , فالفصاحة عند أهل اللّغة: البيان، والإِفصاح: و لسانٌ فصيحٌ، إذا كان طَلْقاً في نُطْقِ الْكَلاَمِ مُبِيناً لاَ يَتَعَثَّر. والرجلُ الفصيح هو المنطلق اللّسان في القولِ، الّذي يَعْرِفُ جَيِّدِ الكلام من رديِئة، ثم ذكر علماء البلاغة أنَّ الفصاحة تأتي وصفاً للكلمة الواحدة، ووصْفاً للكلام، ووصْفاً للمتكلّم، فيقال: كلمةٌ فصيحة، وكلامٌ فصيحٌ، ومتكلّم فصيح . أمّا الكلمة الفصيحة: فهي الكلمة العربية التي تَخْلُو من أربعة عيوب وهي: التنافر، والغرابة، ومُخَالفة القياس، وكراهة السَّمع لها. فالتنافر في الكلمة صفةٌ تجعلها ثقيلة على اللِّسان، يصعُبُ النُّطْقُ بها. وهذا التنافُرُ مِنْهُ ما هُو شديدٌ غايةٌ في الثّقل، ومنْهُ مَا هُو دون ذلِكَ، ويُحِسُّ به الذّوق السَّليم، ومن علامات التنافر في حروف الكلمة أنْ يصعُب على معظم ألسنة الناطقين بالعربيّة النُّطقُ بها. ومن أمثلة ما هو شديد التنافر كلمة "مُسْتَشْزِرَاتَ" بمعنى منفتلات، وقد جاءت في شِعْر امرىء القيس، إذْ قال:
وَفَرْع يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ ... أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّـــــــــخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلاَ ... تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ
الْفَرْعُ: الشَّعَرُ التَّامُّ الَّذى لا نقص فيه. الْمَتْنُ: الظَّهْرُ. الفاحِمُ: الشّدِيدُ السَّواد. الأَثِيثُ: الكثير. قِنْوُ النَّخْلة: عِذْقُها بما فيه من الرُّطب. الْمُتَعَثْكِل: الكَثِيرُ الشَّمَاريخ، وهي العيدان الحاملةُ للثّمر. غَدَائِرُهُ: أي : ذُؤاباتُه الْمَضْفُورة، مُفْردُها غديرة. مُسْتَشْزِرَات: أي: مُنْفَتِلاَتٌ، ، والعيب الثاني "الغرابة" في الكلمة كونُها غير ظاهرة المعنى ولا مألوفةِ الاستعمال عند فُصحاء العرب، وبلغائهم، في شعرهم ونثرهم، لاعند المولّدين ومَن بعدهم، فأكثر الكلام العربي الفصيح غريب عند غير فصحاء العرب وبلغائهم . وتكون بسبب نُدْرة استعمال الكلمة عند العرب، وإمّا أن تكون بسبب أنّ التوصّل إلى المراد منها في الكلام يحتاج إلى تخريج مُتكَلَّف بعيد. ومثَّلُوا للغريب النادر كلمة "بُعَاق" بمعنى "مطر". وكلمة "جَرْدَحْل" بمعنى "الوادي". والعيب الثالث: "مخالفة الكلمة للقياس" أي: سوقُ الكلمة مخالفةً للقياسِ النحويّ أو الصّرفيّ، ومن أمثلة ما هو مخالف للقياسِ في الكلمة الحرف المضعّف في الكلمة التي يقتضي القياسُ فيها إْدغامَهُما بحرفٍ مُشَدَّدٍ، نحو: كلمة "الأجْلَلِ" والقياسُ أَنْ يُقَالَ فيها الأجَلّ. ومنه قول أبي النّجم بن قُدامة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ ... أَنْتَ مَلِيكُ النَّاسِ ربّاً فَاقْبّلِ
وممّا هو مخالف للقياس جمع "فاعل" وصفاً لمذكر عاقل على "فَواعل: كاستعمال الفرزدق نواكس جمعاً لناكسٍ وصفاً لمذكّر عاقل في قوله:
وإِذَا الرّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيتَهُمْ ... ....خُضْعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ
و العيب الرابع: "كون الكلمة مكروهةً في السمع" أي: كونُها ممجوجةً في الأسماع، تأنف منها الطّباع، خشنَةً وَحْشِيَّةً. ومثَّلوا لهذا العيب، بنفور السمع عن كلمة "الْجِرِشَّى" بمَعْنَى "النفس" فعابوا على أبي الطيّبِ المتنبّي استعمالَها في قَوْلِهِ يمدحُ سيف الدولة:
مُبَارَكُ الاسْمِ أغَرُّ اللَّقَبْ ... كَرِيمُ الْجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ
كَرِيمُ الجِرِشَّى: أي: كريمُ النفس. وأمَّا الكلامُ الفصيح: فهو عند علماء البلاغة ما كان سهْلَ اللفظ، واضح المعنى، جيّد السَّبكِ، متلائم الكلمات، فصيح المفردات، غير مُسْتكْرَهٍ ولا مَمْجوجٍ ولا مُتكَلَّف، ولا مخالفٍ لقواعد العرب في نحوها وصرفها، وغير خارج عن الوضْعِ العربي في مفرداته وتراكِيبِه، وليس في كلماته تنافر، وليس فيه تعقيدٌ لفظيٌّ، ولا تعقيدٌ معنويّ. ولا بُدَّ لكون الكلام فصيحاً من أن يكون خالياً مِنْ أربعة عيوب، مع شرط فصاحة مفرداته، وهي: تنافر الكلمات عند اجتماعها، ولو كانت مفرداتها فصيحة. وضعف التأليف. والتعقيد اللفظي. والتعقيد المعنويّ. فتنافر الكلمات عند اجتماعها" هو وصفٌ يعرض للكلام من جرّاء اجتماع كلماتٍ فيه تجعل النُّطْقَ بها ثقيلاً ممجوجاً حال اجتماعها، مع كون كلّ كلمةٍ ليّنةً سهلة النطق بها. ويُحِسُّ بهذا الثَّقَل الممجوج أصحابُ الذوق السليم في نُطْق الكلام العربي، ومن علامات التنافر في الكلام أن يَصْعُب على معظم ألسنة الناطقين العربية النُّطقُ به. ومن ذلك ما أورده عَمْرو بن بحر الجاحظ من شعر بشأن قَبْر حَرْب بن أميّة بن عبد شمس:
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ ... وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
رُفع لفظ "قَفْر" مع أنه نعتٌ للفظ "مكانٍ" لضرورة الشعر، وخرّجوه على أنّه من قبيل الصفة المقطوعة عن موصوفها. وقد جاء الثقل من تكرار الراء والباء في البيت. ومن الأمثلة التي ذكروا فيها عيبَ التنافُرِ في الكلام، أو ثِقَلَ النُّطْقِ بِهِ، أَوْ مَجَّ الذَّوْقِ له، قول عبد السَّلام بْنِ رُغْبَان المعروفِ بديكِ الجنّ:
أُحْلُ وامْرُرْ وضُرَّ وانْفَعْ وَلِنْ .....وَاخْشَنْ وَأَبْرِرْ ثُمَّ انْتَدِبْ لِلْمَعَالِي
وعِلَّتُه تكرُّرُ أفعالِ الأَمْرِ فيهِ. وأما "ضعفُ التأليف" وهو أنْ يكون تأليف الكلمات في الجمل أو إجراؤُها الإِعْرَابي على خلاف المشهور المتَّبَع من قواعد النحو، أو فيه لحْنٌ نحويٌّ أو صرفي، واللّحْنُ في اللّغة ليْسَ من فصيحها، بل هو من عامّيها، أو من نطق الدخلاء على أهلها ممن ليسوا منها، أو من نطق أطفال الأمة الذين لم يتمرّسوا بقواعد لغتهم، ومن أمثلة ما فيه ضعف التأليف عوْدُ الضمير علَى مُتأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً، بينَما الأَصْلُ أن يعودَ الضميرُ علَى مُتَقَدّمٍ في اللفظ أو الرتبة. واستعمال الضمير المنفصل مع إمكان استعمال الضمير المتّصل، واستعمال الضمير المتصّل في حالِ وُجوبِ استعمال الضمير المنفصل. ونصْبُ الفعل المضارع أو جزمُهُ دون ناصبٍ أو جازمٍ. وتقديم غير الأَعْرَف في الجملة الاسميّة على الأعْرَف. وتقديم المعمول على عامله مع عدم جواز ذلك، أو مع عدم وجودٍ مقتضٍ لَهُ بلاغيّاً. ومجيء الضمير المتَّصِل بعد أداةِ الاستثناء "إلاَّ" قول حسّان بن ثابتٍ يرثي مُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ أحد رُؤساء المشركينَ، وكان يُدَافع عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً ... مِنَ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِماً
فأعاد الضمير في "مَجْدُهُ" على متأخّرِ لفظاً ورُتبة وهو "مُطْعِماً" على خلاف قانون التأليف المتّبع المشهور في العربيّة، وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة . والمعنى: ولو أنّ مجداً مهما كان عظيماً جعل من يتّصف به يخلُد طَوال الدَّهر، لكان مَجْدُ مُطْعِم بن عديّ جعله خالداً ، وقول الشاعر:
وَمَا نُبَالِي إِذَا مَا كُنتِ جارَتَنا ... أَلاَّ يُجَاوِرَنَا إلاَّكِ دَبَّارُ
فجاء بالضمير المتّصل بعد "إلاَّ" والأصل أن يقول: إلاَّ إِيّاك، ولكن خالف القاعدة لضرورة الشّعر، ولعيب الثالث: "التعقيد اللفظي" ويكون بجعل الكلمات في جملة الكلام مرتَّبةً على غير الترتيب الذي يقتضيه نظام الكلام وتأليفُه في اللّسان العربيّ ، كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، وكالتشتيت في الروابط بين عناصر الجملة الواحدة، أو بين عناصر الْجُمَل في الكلام الواحد. وهذا العيب أشدّ نكارةً وبعداً عن فصيح الكلام من عيب "ضَعْفِ التَّأْليف" ولا يُغْني عن ذكره وبيانه ذكْرُ عيْبِ "ضَعْفِ التَّأْليف" وَإِنْ كان الصنفان يلتقيان في كون كُلٍّ منهما يخالِفُ نظام الكلام في اللّسان العربيّ، لأنّ ضعْف التأليف قلّما يؤدي إلى ما يُسِيءُ في الدلالة، بل هو مُجرَّد خروجٍ عن المشهور من فصِيحِ كلامِ العرب؛ أمّا التعقيد اللفظيُّ ففي الغالب يؤدّي إلى الإِلْغازِ، أو الغموض، أو التشويش، أو الدلالة على معانٍ غَيْرِ مرادةٍ. والكلام الْمُعَيبُ بعَيْبِ "التعقيد اللّفظي" مرفوضٌ غَيْرُ مقبولٍ عند أهل البيان، لأنّه يُفْضِي إلى اختلال المعنى المراد واضطرابه، وذلك مُبَاينٌ للفصاحة الّتي تقومُ على الإِبانةِ وتوضيح المعاني المرادة. قال العتّابي: "الألفاظُ أَجْسَادٌ، والْمَعَانِي أرواح، وإِنّما نَراها بَعَيْنِ القُلُوب، فَإِذا قَدَّمْتَ مِنْهَا مُؤَخَّراً، أَوْ أَخَّرْتَ مِنْهَا مُقَدَّماً، أَفْسَدْتَ الصُّورَةَ، وغَيَّرْتَ الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ حُوِّلَ رَأْسٌ إلى مَوْضِعِ يَدٍ، أَوْ يَدٌ إلَى مَوْضِعِ رِجْلٍ، فإنَّ الْخِلْقَةَ تَتَحَوَّلُ، والْحِلْيَةَ تَتَغَيَّر". وقالوا: والفرزدق أكثر من استعمل التعقيد اللفظيّ في شعره، وكأنَّه كان يَقْصِدُ إلى ذَلِكَ، لأنّه لا يجري على لسانِ عربي إلاَّ متكلَّفاً مَصْنُوعاً، والفرزدقُ عربيٌّ أصيلٌ لا يشكو من عجمة حتّى تؤثّر عليه . ومن أمثلة التعقيد اللّفظيّ قول الفرزدق، يمدحُ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالَ هشام بن عبد الملك:
وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً ... .....أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ
أي: وما مِثْلُ إبراهِيم في النَّاسِ حيٌّ يشبهه في فضائله غير مَلِكٍ أَبُو أُمِّهِ أبوه. وأصْلُ ترتيب الكلام: وما مثله في الناس حيٌّ يقاربُه إلاَّ مملَّكاً أَبُو أُمِّهِ أَبُوه، فقَدَّمَ وأَخَّرَ في الكلمات، فألْغَزَ إلْغازاً سَيِّئاً. وقولُ الْفَرَزْدَق أيضاً يمْدَحُ الوليد بن عبد الملك:
إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ ... أَبُوهُ وَلاَ كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهُ
يريد: إلى مَلِكٍ أَبُوه ليستْ أُمُّه مِنْ مُحَارِبٍ، فقدّم وأخَّرَ فأبْهَمَ المعنى وألْغزَ وأفْسَد ؛ والعيب الرابع: "التعقيد المعنوي" ويكون باستخدام لوازم فكرية بعيدة، أو خفيّةِ العلاقة، أو استخدام كنايات من الْعَسيرِ ِإدراكُ المراد منه، لعدم اقترانها بما يشير إلى دَلالاتها المرادة، فَيَنْجُم عَنْهُ خفاءُ دلالة الكلام، وصعوبَةُ التوصُّلِ إلى معرفةِ المراد منه من قِبَلِ أهل الفكر والاستنباط، أو منْ قبَل المخاطبين به إذا كان المخاطبون به دون مستَوى أهْلِ الفكر والاستنباط . ومن الأمثلة قولَ العبّاسِ بن الأحنف:
سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ... وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدا
أي: سأطْلُبُ بُعْدَ الدّار عنكم وأتحمَّلُ آلاَمَ الفراق وأصْبِرُ عليه، لأنّ عاقبة الأَلم والصبر الفرجُ، وحين يأتي الفرجُ يكون قُرْبٌ دائم، ووصلٌ مستمرٌّ مصحوبٌ بسرور لا ينقطع، وقد أبعد في هذِه الكناية لكثرة لوازمها الذهنيّة التي لا تُدْرَكُ إلاَّ بإجْهادٍ ذهْنِيّ، على أنّ هذا المعنى حَسنٌ طرقَهُ الشعراء والأدباء وأهل الفكر ؛ وأما فصاحة المتكلم ، فهو من كان كلامه فصيحاً، وكان ذا ملكةٍ يقتدر بها على التعبير عن مقصوده بكلام فصيح، دون تَلَعْثُم، ولا تلكُّؤٍ ، ومع الهبة الفطريّة لا يكون المتكلم فصيحاً في اللّسانِ العربيّ، حتّى يكون مُلمّاً باللّغة العربيّة، عالماً بقواعد نحوها وصرفها، واسع الاطلاع على مفرداتها ومعانيها الدقيقة، كثير النظر في كتب الأدب، مطّلعاً على أقوال كبار الفصحاء، له درايةٌ بأساليب العرب في شعورهم ونثرهم وأمثالهم وكناياتهم ومجازاتهم، حافظاً لطائفةٍ جَمَّةٍ من عيون كلام فصائحهم وبلغائهم من أهل النثر وأهل الشعر، وأن يمارس موهِبَتَهُ بالتطبيقات العمليّة، حتَّى يكتسب مهارة التعبير عن مقاصده وما يجول في نفسه من معانٍ بكلامٍ فصيح . وقد ذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة أنها بليغة وإن قيل إنها فصيحة إذا فضلت عن مثلها، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه، ثم قال: والفصاحة على ذلك شطر البلاغة وأحد جزءيها ، ولها شروط إذا تكاملت في الألفاظ فلا مزيد على فصاحتها، وتلك الشروط: منها ما يتعلق باللفظة الواحدة، ومنها ما يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بضع.. وهذا كله هو خلاصة رأي القزويني أقتبسه من ابن سنان "(راجع ص55 وما بعدها من سر الفصاحة طبعة الرحمانية") ، وذكر ابن رشيق في العمدة: أن البلاغة والفصاحة راجعان إلى اللفظ والمعنى جميعًا ، وذكر عبد القاهر: أن البلاغة والفصاحة وما يجري مجراهها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى معناها حسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى، ولا جهة لذلك غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأحرى بأن يظهر مزية "ص35 من دلائل الإعجاز"، وقال في أسرار البلاغة: أما رجوع الاستحسان "أي الوصف بالبلاغة والفصاحة" إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه فلا يعدو نمطًا واحدًا، هو أن تكون اللفظ مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا ("ص3 أسرار البلاغة")، فالبلاغة والفصاحة عنده مترادفان، وإن اختلف فهم كلامه فيهما وفي هل يرجعان عنده إلى اللفظ أو إلى المعنى؟ . ويرى عبد القاهر أن الفصاحة تقال لكون اللفظ جاريًا على القوانين المستنبطة من استقراء كلامهم كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم "ص353 دلائل الإعجاز" وهو كلام السكاكي أيضًا "( ص176 من المفتاح") . ويرى السكاكي أن البلاغة بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وأما الفصاحة فهي عنده قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد المعنوي، وقسم يرجع إلى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية جارية على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة "وأن تكون" سليمة من التنافر "راجع ص176 من المفتاح". ويرى ابن الأثير أنه يحتاج في تأليف الكلمات إلى ثلاثة أشياء: اختيار الألفاظ المفردة، ونظم كل كلمة مع أختها بحيث لا يكون هناك قلق ولا منافرة، والغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه ... والأول والثاني عنده هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وتكلم في كتابة المثل السائر على الصناعة اللفظية "وهي عنده قسمان: قسم اللفظة المفردة، وقسم الألفاظ المركبة"، وعلى الصناعة المعنوية كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين: أحدهما الكلام كما في قولك قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة، والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ، وكاتب فصيح أو بليغ. والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال: كلمة فصيحة، ولايقال كلمة ، وهذا هو الفرق بين الفصاحة والبلاغة عند الخطيب، فالفصاحة عنده صفة للمفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة صفة للكلام والمتكلم فقط. ولاشك أن من يرى أن البلاغة والفصاحة مترادفان بحيث أن يقال كلمة بليغة كما يقال كلمة فصيحة، وإن كان عبد القاهر -الذي يرى أن الفصاحة والبلاغة مترادفان- يجعلهما وصفًا للكلام لا للفظ المفرد فلا تقول عنده كلمة فصيحة ولا كلمة بليغة. هذا والمراد بالكلام ما يقابل الكلمة فيشمل المركب الإسنادي والمركب الناقص جميعًا، فإنه قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصح السكوت عليه مع أنه متصف بالفصاحة مثل:
إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا

وهذا يؤكد أن من شروط الكلام الفصيح :

1- أن تكون الألفاظ فيه مألوفة الاستعمال .
2- أن تكون الألفاظ فيه في دائرة الكلام دون غيرها .
3- أن تكون الألفاظ فيه حسنة الوقع وتعبر عن المعاني بشكل صادق.
4- استلذاذ السمع لهذه الألفاظ والميل إليها ، مثلما يميل السمع لصوت البلبل دون الغراب وصهيل الفرس دون نهيق الحمار ؛ وكذلك الألفاظ ، فاستعمال ( الديمة) للسحابة يستلذه السمع أكثر من استعمال كلمة(البعاق ) ، والأمثلة كثيرة .
5- مطابقة هذه الألفاظ للمعاني من ثلاثة أوجه :
أ- مجانبة الألفاظ للغريب والوحشي الممجوج من السمع .
ب – تنكّب اللفظ المبتذل والابتعاد عنه .
ج – البعد عن الكلام المسترذل المكروه .
6- خلو هذه الألفاظ من التعقيد اللفظي والمعنوي .
7- البساطة في المفهوم .
8- عدم التكلف والتعسف في استعمال هذه الألفاظ.
9- العذوبة والرقة في اختيار هذه الألفاظ.

أما البلاغة فهي:

بلوغ المعنى المراد بأوجز الطرق والألفاظ والعبارات، وهي حُسْنُ الكلام مع فصاحته وأدائه لغاية المعنى المراد. والرجل البليغ هو من كان فصيحاً حسَنَ الكلام يَبْلُغُ بعبارة لسانه غايةَ المعاني الّتي في نفسه، ممّا يُرِيد التعبير عنه وتوصيلَهُ لمن يُرِيد إبلاغه ما في نفسه. وهي مطابقة الكلام لمقتضى حَال من يُخَاطبُ به مع فصاحة مفرداته وجُمَله. فيشترط في الكلام البليغ شرطان ( أن يكون فصيح المفردات والجمل ، ومطابقاً لمقتضى حال من يُخَاطبُ به) . ولمّا كانت أحوال المخاطبين مختلفة، وكانت كلُّ حالةٍ منها تحتاج طريقةً من الكلام تلائمها، كانت البلاغة في الكلام تستدعي انتقاء الطّريقة الأكثر ملاءمة لحالة المخاطب به ، لبلُوغ الكلام من نفسه مبلغ التأثير الأمْثل المرجوّ ؛ أمّا الأحوال التي تستدعي اختلافاً في طرائق الكلام وأساليبه، فتكادُ لا تُحْصرُ. فمنها ما يستدعي من الكلام إيجازاً ومنها ما يستدعي من الكلام بَسْطاً متوسّطاً. ومنها ما يستدعي من الكلام بَسْطاً مطوْلاً. ومنها ما يستدعي خطاباً بصورة مباشرة. ومنها ما يستدعي خطاباً بصورة غير مباشرة. ومنها ما يستدعي تنكيراً، أو يستدعي تعريفاً. ومنها ما يستدعي إطلاقاً، أو يستدعي تقييداً. ومنها ما يستدعي ذِكراً، أو يستدعي حذفاً. ومنها ما يستدعي وصلاً بحرف العطف، أو يستدعي فصلاً. وخطاب الذكيّ يُخَالف خطاب الغبيّ. وحال الوعظ يستدعي خطاباً غير حال البيان العلمي. وحال الدعاء والتماس مطلوب، يستدعي خطاباً غير حال التكليف من ذي سلطان. وخطاب أهل العلم والمعرفة يخالف خطاب الذين لا علم لديهم. وخطاب الملوك والأمراء والرُّؤساء يخالف خطاب العامّة. وخطاب أهل الحضر يُخَالف خطاب أهل البداوة وأهل المدَر. ولكل أهل صنعة خطابٌ يُلائم صناعتهم. والصغارُ وأحْداثُ الأسنان لَهُم ألوان من الخطاب تلائم حداثتهم، وصِغَر أَعْمَارِهم. إلى غير ذلك من أصناف المخاطبين، وأحوالهم النفسيّة والاجتماعية، وأحوال المتكلّم وظروف الكلام. واختيار الأسلوب من الكلام الملائم للمخاطب، أو الأكثر ملاءمة له يحتاج فطنةً عاليةً، وذكاءً حادّاً، وخيرات كثيرات بخطاب الناس. ويُلْحَقُ بمطابقة الكلام لمقتضى حال المخاطب وجوهٌ أُخَرُ كثيرةٌ تورثُ الكلامَ حُسْناً. وَكُلَّما كان الكلام مع فصاحة مفرداته وجمله أكثر مطابقة لحال المخاطب وتأثيراً في نفسه، كانَ أعلَى حُسْناً، وأرفَعَ منزلةً في مراتب البلاغة ودرجاتِها. وتتنازلُ الدرجات وتنحطُّ بمقدار بُعْدِ الكلام عن مطابقة مقتضى حال المخاطب وضَعْفِ تأثيره في نفسه. وللكلام البليغ حدٌّ أعْلَى رفيعٌ، وهو حدُّ الإِعجاز، وما يَقْربُ منه. ولَهُ حدٌّ أسْفَلُ مُنْحطٌّ إذ نزلَ عنْهُ درجَةً واحدةً الْتحقَ عند البلغاء بأصواتِ الحيوانات. وبين الحدّ الأعلى والحدّ الأسفل مراتب ودرجاتٌ كثيراتٌ يتعذَّرُ على الناس إحصاؤها. وبلاغة المتكلّم هي ملكَةٌ "أي: صفةٌ ثابتةٌ مستقرّة في ذاتِ المتكلّم" يستطيع بها تأليف كلامٍ بليغ. ولمّا كان كلُّ كلام بليغٍ لا بدّ أن يكون فصيح المفردات والْجُمَل كان كلُّ كلامٍ بليغٍ كلاماً فصيحاً، وَكان كلُّ متكلِّمٍ بليغٍ متكلّماً فصيحاً. لكن قد يكون الكلام فصيحاً وَلا يكون بليغاً، لأنّ الفصاحة أعمُّ، والبلاغةَ أخصُّ دائماً، فكلُّ بليغٍ فصيحٌ، كلاماً أَوْ متكلّماً، وليْسَ كلُّ فصيحٍ بليغاً، فالكلام الفصيح لا يكون كلاماً بليغاً حتَّى يكون مطابقاً لمقتضى حالِ المخاطب به. وممّا سبق يتبيّن لنا أنّ البلاغة ترجع في أصولها العامة إلى تحقّق العناصر السّتَّةِ التالية:
1-الالتزام بما ثبت في متن اللّغة وقواعد النحو والصرف، واختيار الفصيح من المفردات والْجُمَل والقواعدِ.
2-الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.
3-الاحتراز عن التعقيد في أداء المعاني المرادة من جهة اللّفظ أو من جهة المعنى.
4-انتقاء الكلمات والعبارات الجميلة، الّتي يُدْرِكُ جمالَها الحسُّ المرهف، والذّوْقُ الرفيع لدى البلغاء.
5- تصيُّد المعاني الجميلة، وتقديمها في قوالب لفظيّةٍ ذاتِ جمالٍ.
6-تزيين الكلام بالمحسِّنَات التي تَسْتَثِيرُ إعجاب المخاطَبِين. والمحسّنَاتُ التي تُزَيّنُ الكلامَ وتَزِيدُه جمالاً لا تُحْصَرُ، وباستطاعة الموهوبين أن يبتكروا فيها دواماً أشياء جديدةً لم يتوصَّلْ إليها البلغاء السّابقون من الناس. وقد وصف فحول البلغاء والفصحاء البلاغة بأنها :
1- أحسن الكلام نظاما ما ثقبته يد الفكرة ونظمته الفطنة .
2- أحسن الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه ، ففاح نسيم نشقه وسطعت رائحة عبقه
3- خير الكلام ما أحميته بكير الفكر ، وسكبته بمشاعل النظر ، وخلصته من خبث الإطناب ، فبرز دون الإبريز في معنى وجيز .
4- خير الكلام ما نقدته عين البصيرة وجلته يد الرويّة .
5- أحسن الكلام ما اتصلت لُحَمُ ألفاظه بسدى معانيه .
6- البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى ، حيث يبدو أسلوب توصيل المعاني من السهل الممتنع الذي لا يضاهيه أحد ولا يبلغ شأنه كلام . ولقد جاء القرآن الكريم أعلى الكلام بلاغة وفصاحة ، وفي الدرجة العليا من الفصاحة ثم كانت بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدها الشعر الجاهلي والإسلامي في غير المنحول . والغرض من دراسة علوم البلاغة والأدب وسائر الفنون الأدبية التي نبَّه عليها أدباء العرب، وكذلك سائر المذاهب الأدبيّة المستوردة من الشعوب غير العربيّةِ اكتشاف عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام، ومحاولات لتحديد معالمها، ووضع بعض قواعدها، دُون أن تستطيع كلُّ هذه البحوثِ والدّراساتِ جَمْع كلِّ عناصر الجمال الأدبِيّ في الكلام، أو استقصاءها، واكتشاف كلّ وجوهها. فالجمال كثيراً ما يتذوّقه الحسّ الظاهر والشعور الباطن ، دون أن يستطيع الفكر تحديد كلّ العناصر التي امتلكت استحسانه وإعجابه، وإنْ عرف منها الشيء الكثير، واستطاع أن يُفْرِزَه ويُحَدّد معالمه. إنّ آفاق الجمال أوسع من أنْ تُحَدَّدَ أو تُحْصَرَ بأُطُرٍ مقاييس، ولكن يمكن اكْتشَافُ بَعْضِ عناصرِ الجمال، وكُلِّيَّاتِه العامّة، وطائفةٍ مِنْ ملامحه. والْغَرَضُ من عرض الباحثين لفنون البلاغة وعلومها، وللمذاهب الأدبيّة المختلفة، وللأمثلة الأدبيّة الراقية المقرونةِ بالتحليل الأدبي والبلاغي، تَرْبيةُ القدرة على الإِحساس بعناصر الجمال الأدبيِّ في الكلام الأدبيّ الرفيع، وتربية القدرة على فهم النصوص الجميلة الراقية، والقدرة على محاكاة بعضها في إنشاء الكلام، والقدرة على الإِبداع والابتكار لدى الذين يملكون في فطرهم الاستعداد لشيء من ذلك. فَمَع ضرورة التَّسلُّح بهذه الدراسة، والاطلاع الواسع على النصوص الأدبيّة الجميلة الراقية، ودراستها دراسةً تَحْلِيلِيَّةً تكشفُ من جوانب الجمال والإِبداع فيها على مقدار اسْتِطَاعَةِ الْمُحَلّل، لا يصِحُّ بحالٍ من الأحوال الجمود عندها دون محاولات الابتكار والإِبداع والتجديد، بشرط أَنْ يكون ذلك الابتكار قادراً على انتزاع إعجاب ذوي الإحساس المرهف، والذَّوْق الرَّفيع في إدراك الكلام الأدبيِّ الجميل البليغ. ومن الخير لكّل كاتب أو مُنْشِىءٍ أو شاعرٍ أن يحْذَرَ منْ أنْ يضَعَ الصورة الأدبيَّةَ الّتِي دَرَسَها بلاغيّاً أو أدبيّاً، وينشِىءَ كلامَهُ على قَالَبِها، فإذا فَعل ذلِكَ أَفْسَدَ كلامه، وشوّه روح القاعدة البلاغيّة أو الأدبيّة، وإن التزم بصورتها. إنّ تربية الذوق والملكة البيانيّة، مع تلقائيّة الأداء التعبيريّ لدى إنشاء الكلام كتابةً أو ارتجالاً، عند منْ يَمْلك الاستعداد لأن يكون أديباً بليغاً، هي الكفيلة بتفجير الإِبداع المطلوب في الأدب، بشرط عدم الخروج عن ضوابط قواعد اللّغة وأصول البيان. ومن جيّد ما قرأت في التعريف بخير الكلام، قول "خالد بن صَفْوان" وهو من فصحاء العرب المشهورين، وكان يجالس عُمَر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، توفي نحو (133 هجرية) : "خَيْرُ الكلام مَا طَرُفَتْ مَعَانيه، وشَرُفَتْ مَبَانِيه، والْتَذَّه آذان سَامِعِيه". (عن لسان العرب في مادة "طرف") . والغرض من الكلام التعبيرُ عمّا في الفكر ومشاعر النفس وأحاسيسها بألفاظٍ دالّةٍ على ما يريد المتكلّم التعبير عنه. والكلماتُ رموزٌ اصطلاحيَّةٌ في الأوضاع اللُّغويّةِ الأولى، وفي الاستعمالات اللاّحقة للأَوْضَاعِ اللّغويّة والناجمة عن اسْتِخْدام الناس لمختلف الأساليب والْحِيَلِ الكلامية الْقَائِمةِ على التوسُّع في دلالاتِ الألفاظ، والانتقال بِها منَ الْحسّيَّاتِ إلى ما وراءَها، حتّى العقليَّات المجرّدة. فلدَينا إذَنْ كلماتٌ مُفْرَدة، وجُمَلٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كلماتٍ، وجَمِيعُها ذَواتٌ أَلْفَاظٍ وَذَوَاتُ دَلالاتٍ، وَأَلْفَاظُهَا ذَواتُ حُروفٍ مجتمعة تَنْطِقُ بِهَا الأدواتُ النَّاطِقَةُ، وهِيَ تُصْدُرُ بأصْواتٍ فَتَقْرَعُ آذان السامِعينَ بمختلِفِ أشْكالِهَا وصُوَرِها. وأصواتُ الحروفِ الَّتِي تُرَكَّبُ منْها الكلماتُ لها نَغَمَاتٌ وحُدودٌ مختلفات، فمنها ما يقْرَع السّمْعَ برِقَّةٍ ولينٍ فيستَحْلِيهِ، ومنْها ما يقرعُ السَّمْعَ بغلظةٍ وخُشُونَةٍ فَيَمُجُّهُ كَارهاً له، ومنْها ما ينْفِرُ منه السّمْعُ وتتقَزّزُ منْهُ النفس، سواءٌ أكان ذلك من الكلمة الواحدة مُفْرَدَةً ، أمْ من اجْتِماع عدَّةِ كَلِماتٍ أحدثَ اجتماعُها ما لم يكُنْ عِنْدَ انْفرادِ كلِّ منها ؟ . وَكلُّ أمّةٍ تَضَع ما تَلَقَّتْ منْ كلمات أجدادها، وما تُضِيفُ من كلماتٍ تضَعُها لتُعَبِّر بها عن أفكارٍ ومشاعرَ وأحاسيسَ قامَتْ في أنفسها، مَوْضِعَ التجربة، لاختبارِ مدى لينِها وسُهولَةِ النُّطْقِ بها، أو مَدى التَّأْثيرِ النَّفْسِيّ لدى النطق بها في أنْفُسِ السَّامعين، ولاخْتبار مَدَى استحسان الأسماع لها، أو استقباحها، واستغلاظها، والنُّفْرَة منها، وتَقَزُّز النفس لدى سماعها . وخلال التجارب الطويلة تشيعُ غالباً الكلماتُ الَّتي تَوَاضَعَ مُعْظَمُ النَّاسِ على قبولها واسْتحْسَانِها، لأداءِ المعاني الَّتِي يُعبَّرُ بها عَنْهَا، مع ملاحظة الشُّعورِ بالتَّلاؤْم بينَ اللَّفظِ والمعنى في كثيرٍ من الكلمات، في المجتمع البشري الذي درجَتْ على ألسنة أفرادِه. وتُعْزَلُ في الغالب ِ الكلماتُ القاسية الصعبة، والكلماتُ المستقبحة المستغلظة ، والتي تتقزّزُ مِنْها النفوس، إِلاَّ ما كانَ منها مقصوداً لِبَيَانِ قُبْحِ المعنَى، أو ما كان منها مقصوداً للشتائم، ونحو ذلك. ويَنتَقِي أصحابُ الأَذواقِ الرَّفيعَة منَ الكلمات أَلْيَنها في النُّطْقِ، وأحْلاها في الأسماع، أوْ أوفَقَهَا وأكْثَرها مُلاءَمَةً للمعاني الّتي تدلُّ عَلَيْهَا، ويخُصُّونَ بها أقوالهم ذوات الشأن، من خُطَبِ، ورسائل، ومقالات، وشِعْر، وقصّة وغير ذلك من موضوعات الكلام المحرّر المنتقى، الذي صار يُسَمَّى فيما بَعْدُ "أدباً" لأنَّه في الكلام يُشْبهُ أدبَ السلوك في الأعمال. وتظلُّ كلماتٌ مستقبحاتٌ شائعاتٌ، لدى من لهم هوىً في أن يستخدموا ألفاظاً قاسيةً خشنةً، تنفرُ منها الأسماع، إذْ يرَوْنَهَا نافعةً لهم في إزعاج الآخرين بها، أو لفت أنْظارِ الناس إليهم عن طريقها، كما يفعلون مثل ذلك في ألبستِهِمْ، وما يحملون من أسلحةٍ مستهجنة، وما يمارسون من حَرَكاتٍ وأعمال، إلى غير ذلك من أُمُورٍ يبتَعِدُ عَنْها الْمتأَدِّبُونَ من الناسِ بالآداب الحسنة، وذوو الأذواق الرفيعة، والسلوك الجميل الفاضِلِ بيْنَ الناس. وقد تتدخَّلُ عوامل أخرى في بقاء كلماتٍ صعبةٍ ثقيلةٍ في النُّطْقِ ضمْن الكلام الدارج المستعمل في اللّغة، وهذه العوامل يصْعُبُ تحديدها، وتبقَى هذهِ الكلماتُ حَيَّةً في الاستعمال بحُكْمِ الإِلْفِ والتقليدِ والمحافظة على المواريثِ اللُّغَويّة. ومن هذهِ العوامل تفاخُرُ الأُمَّةِ بقُدْرَةِ ألْسنَتِها على الانفرادِ بالنطق ببعض الحروف أو الكلمات، ومنها المحافظةُ على إحْدَى الصفاتِ القوميَّةِ للأُمَّة. وتَظَلُّ كلماتٌ يسْهُلُ نُطْقُها على النّاس بالتداولِ في تَعاملاتِهمُ اليوميّة، ولو لم تكُنْ راقيةَ النغمات في تركيب حروفها، ولا عذْبةً في الأَسماع، ولكنْ بقيتْ في التداوُلِ بتأثير العادة، والحاجة إلى تداوُلها اليوميّ في تَعَامُلاتِ النّاس. وهذه الكلماتُ يبتَعِدُ عَنْها أدباءُ الْقَومِ وشُعَراؤُهم وخُطباؤهم وكُتَّابُهم لدى إنشاء كلامهم المجوّدِ الْمُحَسَّنِ الذي يحرصُونَ على أنْ يكون له شأنٌ بينهم. فظهر بسبب ذلك صنف من الكلمات ضِمْنَ اللُّغَةِ الواحدة، يوصَفُ بأنّه فصيحٌ، وصنْفٌ آخَرُ يوصَفُ بأنَّهُ غيرُ فصِيح. ثُمَّ لدى تركيب الكلمات في الْجُمَلِ التي تدلُّ على المعاني الَّتِي يرادُ تعريفُ المخاطبين بها، قد ينشَأُ من التركيب قساوةٌ أو صعوبةٌ في النُّطقِ، أو استقباح واستغلاظٌ ونُفْرَةٌ منْهُ في الأسماع، فلا يكون الكلام في هيئته التركيبيَّةِ فصيحاً، على الرغم من فصاحة مفرداته قبل اجتماعها في هذه الهيئةِ التركيبيَّةِ الخاصّة. فظهر بسبب ذلك ما يُسَمَّى به الكلامُ المركّبُ فصِيحاً أَوْ غَيْرَ فصيح. لذلك نلاحظ أنَّ من يختار لكلامه مفرداتٍ فصحيةً، وينظمها في كلامه نظماً ملائماً فصيحاً، مع التزامه بضوابط قواعد اللّغة وأحكام أهل اللّسان النحويَّةِ والصرفية، فإنَّه يصِحُّ أنْ يُسَمَّى ناطقاً فصيحاً.
الشاعر والناقد : حسين علي النداوي
صاحب موسوعة( المرصد الأدبي )-حجم الموسوعة-خمسة عشر ألف صفحة