[SIZE="5"]
الأدب ومقتضى الحال والنظم والصورة
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
صاحب موسوعة (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة(خمس عشرة ألف صفحة
سوريا-درعا-hoshn55@gmail.com
يعد مصطلح ( مقتضى الحال ) مقتضى الحال أساس علم البلاغة، فبه يسمو الشعر والأدب حيث "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، تجنب ألفاظ المتكلمين، كما إنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا، أو مجيبًا، أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن، وبها أشغف ، وعلى الأديب أن يحدّد المعنى الذي يخاطب به الآخرين، سواء أكان هذا المعنى في اللغة أو الأدب أو البلاغة ، ويتعرَّف على أجزائه، ثم يحدّد الطبقة من المستمعين، لأن لكل طبقة طريقة في التعبير يحسنون فهمها، وموطن الجمال في العمل الأدبي يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى فلا بدّ للمعنى الشريف من لفظ شريف، فليست في اللفظ وحده ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محل الصورة الأدبية، التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ... ..... إن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا( البيان والتبيين: الجاحظ 135.1.) ويرد الجاحظ الجمال والبلاغة إلى الألفاظ، لأنها محصورة محدودة، بينما المعاني عنده ممتدة مبسوطة، لكنه بعد ذلك يربط بين اللفظ والمعنى فهو يجعل الشأن للصياغة، والشعر ضرب من التصوير، والصياغة والتصوير يرتبط فيها اللفظ بالمعنى يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير. (الحيوان 40.3). ويتفق أبو هلال العسكري مع الجاحظ في تأثرهما بصحيفة بشر بن المعتمر. ويرى ابن قتيبة أن القصيد يعلو ويهبط حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، وقد قسم ابن قتيبة الشعر إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وعلا فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه (الشعر والشعراء: 7). ويسير ابن طباطبا بما جاء به بشر بن المعتمر فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فأحضر المعاني الذي يريد بناء الشعر عليها في فكره نثرًا، أو أعدَّ له مما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي تواققه ... فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه ابتدأ وعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على ما بينه وبين ما قبله ". هذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية، يحضر الشاعر المعاني، وينتقي لها من الألفاظ والقالب الموسيقي ما يتناسب معها، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات، فهو يربط بين اللفظ وإيقاعه وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم التي تتبني عليها الصورة الأدبية. ويهتم الآمدي "م 370 هـ " باللفظ والمعنى في النظم والتصوير فيقول: ("وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأنِّي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى اللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله ... والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة.... وينبغي . أن تعلم أن سوء التأليف ورديء اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل ... وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه أحدث فيه غربة لم تكن وزيادة لم تعهد)"( الموازنة بين أبي تمام والبحتري 173.) . ويكاد يتفق علي بن عبد العزيز الجرجاني مع الآمدي في فهمه للنظم والصورة الأدبية ، ويعقد ابن رشيق باب اللفظ والمعنى، ليربط بينهما كما ربط بشر بن المعتمر، يقول ابن رشيق ) إن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحدِّه ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية في العلاقة التي تتم بين الألفاظ وتكشف عن المعنى(العمدة: )124.1). وهذا ما قرَّره عبد القاهر الجرجاني "م 471 هـ" واكتمل على يديه حيث انتهى إليه الحديث عن النظم والصورة الأدبية، بعد أن بدأه بشر بن المعتمر، ليبلغ عبد القاهر فيه الغاية، ويرسي قواعد النظم ومفهومه ويحدّد معالم التصوير الأدبي، يقول عبد القاهر: ("إن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم") (دلائل الإعجاز: 473 تحقيق د/ محمد عبد المنعم خفاجي.). ويوضح هذا أكثر فيقول: ("وأعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشَّك، ألا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يتعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب تلك.... وإذا كان كذلك فعلينا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله") ، ويقول: ( واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله.... وسبيل الكلام هو سبيل الصيغة والتصوير، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه، سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ ) ، وبهذا يكون عبد القاهر وضح نظرية النظم، والعلاقات التي ينبني عليها التصوير الأدبي، فأعطى للفظ حقَّه، وللمعنى حقه، والصورة تأتي من العلاقة بينهما معًا، ويرجع أساس الجمال إلى النظم والصباغة والتصوير، ولا بد لكل كلمة في النظم أو الصورة أن تأخذ مكانها بين أخواتها على أساس توخي معاني النحو حتى تحقق الوحدة الفنية في النص الأدبي. فصياغة الشعر ليست سهلة أو ميسورة، لأن تصوير المعنى يحتاج إلى دقة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمة والشريفة ، أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة، لتستقر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها وتتوازن مع نظائرها، وتتشاكل مع أخواتها. وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية والوحدة الفنية بين الألفاظ فيها، بحيث لا توافق الكلمة أختها، فتعبر إحداها عن الصبابة والثانية عن الفخر، فيصير النسج بذلك مهلهلًا، والتماسك ضعيفان وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل يومًا وليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتتواءم كل كلمة مع أختها، ويتم التلاحم بين أجزاء الصورة الأدبية، وتتحقق الوحدة الفنية فيها.
[/SIZE]