الشعر العربي يرثي الأندلس
أولاً-الأندلس من الثريا إلى الثرى:
أ-صعود وهبوط في القوة العسكرية :
1-هذه هي الحضارة الأندلسية بكل مقوماتها وعطاءاتها وإنجازاتها، فقد مضت ثمانية قرون مجيدة عاشها العرب المسلمون في الأندلس تحت رايات التمدن وبنود التسامح وأعلام الحضارة , وانسحب تمدنهم على جيرانهم الأوربيين وانساحت حضارتهم إلى ساحاتهم , وتغلغلت صنوف معارفهم إلى قلوبهم وعقولهم وألبابهم ، ولقد بدأ مجتمع المجد والعلم والشعر والسحر والعمران والجمال الموهوب والمصنوع والمحسن والمبتكر يذوي وينهدم , فكان أمرا طبيعيا أن يرافق الشعر هذه المراحل كلها , ومراحل الحسن والجمال والثقافة والبناء , ومراحل الهدم والانحسار والهزيمة والتحلل والفناء
2-إن مجد المسلمين في الأندلس بلغ الذروة على أواخر عهد بني أمية الأندلسيين , و بخاصة في عصر الناصر وولده المستنصر , وما أن زالت دولة الأمويين وانقسمت الجزيرة المنيعة إلى دويلات صغيرة , وطوائف متنافرة فيما يسمى بعصر ملوك الطوائف حتى بدأ المد ينحسر , والقوة تشيخ , ولألاء النور يخفت ويخبو .
3-لقد أهمل العرب الفاتحون الظافرون الاستيلاء على منطقة شمالي غربي الجزيرة (( جلبيقية )) وهي ناحية خيراتها لا تغري على الاستيلاء أو الفتح , فظلت منطقة نصرانية منعزلة
أ-الأمر الذي شجع بعض الطامحين من أبنائها أن ينشىء حركة للمقاومة ضد العرب الوافدين ثم ضد المسلمين من عرب وأندلسين ,
ب-وبمرور الزمان بدت الدائرة تتسع إلى أن استطاع ألفونسو الأول أن يسيطر على المنطقة ويحيطها بسلسلة من القلاع والحصون فلما كان القرن الرابع الهجري كانت الفكرة التي خامرت بلاي الزعيم الأول لخطة المقاومة قد نضجت ,
ج-ونشأت إمارة على حدود الدولة الأندلسية الإسلامية عرفت باسم قشتالة وهي نفسها الكلمة الإسبانية أي القلاع ، وكانت هذه الإمارة دائمة التسلل إلى الأراضي الأندلسية الإسلامية الأمر الذي جعل الأمراء الأندلسيين يخوضون غمار حروب طاحنة ضدهم , وبخاصة عبد الرحمن الناصر الذي ردهم إلى صوابهم بكثرة ما أوفد إليهم من غزوات وما أوقع بهم من هزائم .
د-ولكن لا يكاد القرن الخامس ينتصف حتى ينجح النورمان في الاستيلاء على بربشتر من أعمال الثغر الأعلى , وكان ذلك سنة 456 هـ وقبل أن يمضي ربع قرن من الزمان تسقط طليطلة في أيديهم سنة 479 هـ .
4-ويستنجد ملوك الطوائف – وبصفة خاصة المعتمد بن عباد – بالمرابطين في إفريقية الذين يلبون النداء ويعبرون البحر إلى الأندلس ويلتحمون هم وحليفهم المعتمد بن عباد الملك الفارس الشاعر بجيوش النصارى بقيادة ألفونسو السادس في معركة سهول الزلاقة بعد عام واحد من سقوط طليطلة أي سنة 479 هـ ويحقق المسلمون المتحالفون نصرا حاسما على جيوش ألفونسو , ويخلد التاريخ معركة الزلاقة وبطلها الحقيقي المعتمد بن عباد الذي صمد فيها صمود أبطال الأساطير رغم ما ناله من بعض الجراح .
5- ولكن الأصدقاء القادمين من شمال إفريقية لتقديم العون إلى حلفائهم في الأندلس لا يلبثون أن يطمعوا في هذه البلاد لسحرها وجمالها فيقوضون ملك بني عباد ويأسرون المعتمد سنة 484 هـ أي بعد الزلاقة بخمس سنين , ويقضون على إمارة بني المظفر – أو بني الأفطس – سنة 485 أي بعد عام من القضاء على بني عباد


ب-كآبة الأدب( الشعر) :
1-كان الثمن غاليا فهام الشعر حزينا لرثاء إمارتين من أرقى إمارات الطوائف لأن كلا من ملكيهما كان أديبا فارسا شاعرا و ينشأ شعر رثاء الإمارات بعد شعر رثاء المدن أو معه في وقت واحد .
2-ويتوالى سقوط المدن الأندلسية في أيدي الفرنجة في نطاق ما أطلق عليه حركة الاسترداد
3-فتسقط سرقسطة سنة 512 هـ ثم طرطوسة سنة 543 ويتجه النشاط المعادي للمسلمين إلى الغرب فتسقط إشبونة وشنترين سنة 542 وماجة سنة 556 ويابرة سنة 516ه
4- إنها سلسلة من الهزائم بل قافلة من النكبات تحل بالأندلس المسلمة لا يوقفها إلا نهاية دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين على أنقاضهم في إفريقية والأندلس , وكانت من القوة بحيث أوقفت سقوط المدن الإسلامية
ج-عودة المجد للأندلس :
عاد المجد إلى الأندلس لمدة تقارب قرنا من الزمان , وحارب العرب المسلمون أعداءهم ، وأحرزوا انتصارات حاسمة على الفرنجة في عديد من المعارك التي أهمها معركة الأراك سنة 593 هـ بقيادة الخليفة يعقوب بن منصور الموحدي , وقدر عدد القتلى من النصارى الإسبان فيها بما يقارب مائة وخمسين ألفا , والأسرى بما يناهز ثلاثين ألفا , وقد بلغ ما استولى عليه المسلمون من الخيول وحدها ثمانين ألفا ومن البغال التي كانت تحمل المؤن والعتاد للإسبان مائة ألف بغل. وكانت معركة الأراك المجيدة شبيهة بمعركة الزلاقة الشهيرة من حيث ضخامة حجم الانتصار الذي أحرزه المسلمون ومن حيث شراسة الهزيمة التي لحقت بنصارى الأندلس ,
د-عودة للهبوط : ولا يكاد ينقضي على هذه الموقعة بضعة عشر عاما حتى ينتكس جيش المسلمين حينما أخذ على غرة في معركة -العقاب -الشهيرة , سنة 609 هـ . وليست كلمة العقاب هنا بمعناها اللغوي وإنما هي اسم للمكان الذي جرت على أرضه المعركة على مقربة من –جيان- حيث تحطم معظم جيش الموحدين في الأندلس وقد اعتبرت هذه المعركة ذروة ما أطلق عليه حركة الاسترداد النصرانية , 1-فبعد العقاب بسنوات قلائل أخذت المدن الإسلامية الهامة في الأندلس تتهاوى الواحدة بعد الأخرى شرقا وغربا ,
2-ففي شرق الأندلس سقطت ميورقة سنة 627 , وبياسة سنة 623 , وقرطبة ذات الأمجاد سنة 633 , وبلنسية سنة 636 , ودانية سنة 641 , وشاطبة سنة 644 , ومرسية سنة 640 وجيان سنة 643 , وإشبيلية سنة 646 هـ - 1248 م .
3-وكانت الكارثة تسرع في نهش مدن الأندلس الغربية إسراعها في التهام مدن الشرق , سقطت بطليوس سنة 627 , وماردة سنة 628 , وشلب سنة 640 ولبلة سنة 655 , وقادس سنة 659 , وشريش سنة 702 هـ - 1264 م .
ه-مسلمو الأندلس أسقطوا أنفسهم بأيديهم : إنها سلسلة من الهزائم , بل من الكوارث , بل من الإهانة والذل والفناء لحق بمسلمي إسبانيا بأسرع ما يتوقع عقل العاقل , لقد أسقطوا أنفسهم بأيديهم وليس بأيدي أعدائهم لأن الذي يعطي عدوه وسائل الغلبة , ويسلمه أدوات الانتصار , بتصميمه على بث التفرقة , وإنماء التباعد , وتوسيع شقة الخصام ومحاربة أخيه وابن عمه والاعتداء على بني قومه في عقر دارهم والتوسع على حسابهم فتحا وأرضا عوضا عن أن يبسط يده للاتحاد , ويفتح قلبه للحب , ويشد أزر أخيه , ويؤلف قلبه , وينطلق الجميع صفا واحدا لحرب العدو , لقد كان عدد من حكام الأندلس موسومين بهذه الصفات , وكان الناس يستنكرون فعلهم ولا يجرؤون على المجاهرة بآرائهم فيهم , وكانوا يسطرون خواطرهم ضد حاكميهم ثم يخفونها حتى لا يقع عليها الحاكم الظالم الذي يسير بقومه في طريق الهزيمة والفناء . إن الكاتب الأديب الشاعر أبا عبد الله محمدا الفزازي يكتب بعض خواطره شعرا ويخفيها , ولقد وجدت هذه الأبيات في جيبه بعد وفاته :
الروم تضرب في البلاد وتغنم والجور يأخذ ما بقى والمغرم
والمال يورد كله قشتالة والجند تسقط والرعية تظلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم إلا معين في الفساد مسلَّم
أسفي على تلك البلاد وأهلها الله يلطف بالجميع ويرحم
و-صمود غرناطة : وما إن انتصف القرن السابع الهجري حتى كانت كل ولايات شرق ووسط وغرب الأندلس في يد إسبانيا النصرانية ولم تصمد إلا ولاية غرناطة في الجنوب وظلت تكافح من أجل البقاء غير ناسية رسالة الحضارة والتمدن زهاء قرنين ونصف قرن من الزمان في بطولة واستبسال قل أن يجد التاريخ له مثيلا , وكانت هذه الإمارة بحجمها الصغير قد كثفت على مساحتها الكثير من أمجاد الأندلس .......غرناطة آخر معقل للإسلام في إسبانيا , ورحل آخر ملك مسلم عن قصر الحمراء في قصة فريدة في التاريخ هما وحزنا وحسرة وألما وندما في اليوم الثاني من ربيع الأول سنة 897 هـ الموافق الثاني من يناير ( كانون الثاني ) سنة 1492 م .................................................. ...........
ثانياً-رثاء المدن الأندلسية الذاهبة:
رثى الأدباء والشعراء الممالك الأندلسية بكثير من التفجع والحزن والأسى فكان:
1-رثاء طليطلة :
أ-صدمة سقوط طليطلة :
وهي واحدة من أكبر القواعد الإسلامية في الأندلس وكان سقوطها في وقت مبكر في سنة 478 هـ ولكن أسباب سقوط الدول لا تخضع للزمان بقدر ما تخضع لصىلاح الحاكم أو فساده وسلامة السكان أو فسادهم . لقد كان سقوط طليطلة صدمة كبرى أصابت المسلمين في الأندلس بالذهول الذي ما لبث أن ترجم إلى الحقيقة المريرة التي عبر عنها الشعراء.
ب-أسباب سقوطها :
إن من أسباب سقوط طليطلة حسبما :
1-فساد الحكم ,
2-وانتشار الظلم والجور والمصادرات ,
3-وذيوع الفاحشة بين الناس ,
4-وتعفن المجتمع بالانحلال
5-والإقبال على الشهوات
6-واقتراف المعاصي ,
7-وخور الحكام وتفرقهم وجبنهم
8-والاستهانة بأخطار العدو , إما كبرا وغرورا , وإما غفلة وغباء .
ج-التعبير عن سقوطها :
1-عبر الشاعر عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن الغسال تعبيرا مثقلا بالشؤم متنبئا بغروب شمس الأندلس , ومنطقه يكمن في هذه الأبيات المخفية أو بالأحرى التي كانت مخفية لمن سمعها من معاصريه :
يا أهل أندلس شدوا رحالكم فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثورا من الوسط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عوافبه كيف الحياة مع الحيات في سفط
2-وهذا شاعر آخر أكثر تشاؤما بل إنه داعية إلى الخراب , متطوع لبث روح الهزيمة يستعمل اصطلاحات لاعبي الشطرنج في قوله :
يا أهل أندلس ردوا المعار فما في العرف عارية إلا مردات
ألم تروا بيدق الكفار فرزنه وشاهنا آخر الأبيات شهمات
3-ويورد المقري في رثاء طليطلة قصيدة من عيون الشعر لم يذكر قائلها تزيد على سبعين بيتا ضمنها الشاعر كل أحاسيسه بالحسرة ومدها بكل ما رفدت هبه شاعريته
لثكلك كيف تبتسم الثغور سرورا بعدما بئست ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ثبير الدين فاتصل الثبور
لقد قصمت ظهور حين قالوا : أمير الكافرين له ظهور
ترى في الدهر مسرورا بعيش ؟ مضى عنا لطيته السرور
أليس بنا أبي النفيس شهم يدير على الدوائر إذ تدور
لقد خضعت رقاب كن غلبا وزال عتوها ومضى النفور
وهان على عزيز القوم ذل وسامح في الحريم فتى غيور
طليطلة أباح الكفر منها حماها ! إن ذا نبأ كبير
فليس مثالها إيوان كسرى ولا منها الخورنق والسدير
محصنة محسنة بعيد تناولها , ومطلبها عسير
ألم تك معقلا للدين صعبا فذا لله ما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعا فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلم معالمها التي طمست تنير
فعادت دار كفر مصطفاة قد اضطرمت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس , أي قلب على هذا يقر ولا يطير
د-أسباب سقوطها : حسبما ذكر الشاعر في قصيدته أن فساد الحكم , وانتشار الظلم والجور والمصادرات , وذيوع الفاحشة بين الناس , وتعفن المجتمع بالانحلال والإقبال على الشهوات واقتراف المعاصي , وخور الحكام وتفرقهم وجبنهم والاستهانة بأخطار العدو , إما كبرا وغرورا , وإما غفلة وغباء دفع المدينة للسقوط :
وكان بنا وبالقينات أولى لو انضمت على الكل القبور
لقد سخنت بحالتهن عين وكيف يصح مغلوب قرير
لئن غبنا عن الإخوان إنا بأحزان وأشجان حضور
نذير كان للأيام فيهم بملكهم فقد وفت النذور
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم نجور , وكيف يسلم من يجور
أنأمل أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور ؟
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه ؟ فيسهل الأمر العسير
أصبرا بعد سبي وامتحان يلام عليهما القلب الصبور
فأم الصبر مذكار ولود وأم الصقر مقلات نزور
نخور إذا دهينا بالرزايا وليس بمعجب بقر يخور
ونجبن ليس نزأر , لو شجعنا ولو نجبن لكان لنا زئير
لقد ساءت بنا الأخبار حتى أمات المخبرين بها الخبير
أتتنا الكتب فيها كل شر وبشرنا بأنحسنا البشير
وقيل تجمعوا لفراق شمل طليطلة تملكها الكفور
ويقع الشاعر في حيرة شديدة وهو يذكر طليطلة الجميلة الأسيرة المحتلة وحين يذكر الأهل والحقل والبستان والديار , ويرثي الحال المقيم ويبكي لمصير النازح , وتتمثل له كل المعاني السحر والجمال في وطنه ,
كفى حزنا بأن الناس قالوا إلى أين التحول والمسير
أنترك دورنا ونفر عنها وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسنا نباكرها فيعجبنا البكور
وظل وارف وخرير ماء فلا قر هناك , ولا حرور
ويؤكل من فواكهها طري ويشرب من جداولها نمير
لقد ذهب اليقين فلا يقين وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق يا لله ! ماذا رآه وما أشار به مشير
مضى الإسلام فابك دما عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ويحس الشاعر من جانبه بالضياع فيستنهض الهمم ويستنفر المتقاعس ويبحث عن قائد زعيم شجاع غيور باسل يخوض معركة التحرير ,
ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير ؟
عظيم أن يكون الناس طرا بأندلس : قتيل أو أسير
أذكر بالقراع الليث حرصا على أن يقرع البيض الذكور
يوسع للذي يلقاه صدرا فقد ضاقت بما تلقى الصدور
تنغصت الحياة فلا حياة وودع جيرة إذ لا مجير
فليل فيه هم مستكن ويوم فيه شر مستطير
2- رثاء مدينة بلنسية :
أ-رحلة السقوط :
وهي من أجمل المدن وأرقاها , ومنها عدد من الشعراء المرموقين من أمثال ابن خفاجة وابن أخته ابن الزقاق البلنسي , والرصافي الرفاء البلنسي وغيرهم كثيرين .
ولقد سقطت بلنسية في أيدي نصارى الأندلس مرتين ,
1- المرة الأولى سنة 478 هـ وظلت محتلة حتى سنة 495 هـ أي سبعة عشر عاما حتى حررتها جيوش يوسف ابن تاشفين , وكانت يومئذ بقيادة الأمير محمد مزدلي , 2-وأما السقطة الثانية والأخيرة فكانت في فترة الانهيار الطاغي في النصف الأول من القرن السابع الهجري , وعلى وجه التحديد سنة 635 وقيل سنة 640 هـ بعد أن ظل الأعداء يحاصرونها ويضيقون الخناق عليها عددا من السنين .
ب-رثاء الشعراء لها :
1-تفجع الشعراء :
لقد رثى الشعراء بلنسية مرتين كما لو كانت إنسانا مرموقا مات مرتين ويبدو أن أهل بلنسية كانوا على شيء من الإهمال والغفلة , وكانوا جاهلين بشؤون الحرب مقبلين على الملذات والأكل والشراب ,
2- سقوط مدينة –بطرنه- :
ذلك أن مدينة -بطرنه -وهي غير بعيدة عن- بلنسية- كانت قد سقطت قبل ذلك بحوالي ثلاثين سنة
3-السقوط الأول لمدينة بلنسية :
كان على البلنسيين أن يعيشوا حياة استعداد وحذر ولكنهم ما برحوا يقيمون الاحتفالات متجمعين خارج مدينتهم في ثيابهم الأنيقة المترفة ومعهم أميرهم عبد العزيز بن أبي عامر يأكلون ويشربون فكمن لهم الفرنجة وأعملوا فيهم القتل والأسر الأمر الذي جعل:
أ- أحد الشعراء يصف هذه الحادثة الأسيفة مشيرا إلى احتلال بطرنة وسقوطها قبل زمن قصير قائلا :
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم يكن ببطرنة ما كانا
ب-وحين تم للفرنجة إخضاعها والاستيلاء عليها سنة 478 هـ وقتلوا أهلها , وأحرقوا دورها وعاثوا فيها الفساد , وشوهوا نضرتها , بكاها شاعرها وابنها ابن خفاجة قائلا
عاثت بساحتك الظبا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار
إن ابن خفاجة لم يطق أن يرى جنته بلنسية تخرب وتنقلب إلى جحيم وخراب فكانت هذه النفثة الساحرة التي تعطي عبرة وتذرف عبرة .
4-السقوط الثاني لبلنسية : ثم كانت الهجمة الثانية للفرنجة على بلنسية , وكانت هجماتهم ضارية وحشية , يعملون الحرق والقتل والسبي , دون تفريق بين شيخ كبير أو ولد صغير أو طفل رضيع أو امرأة عزلاء ,
5-هزيمة شنيعة : والحق أنه منذ معركة العقاب سنة 609 هـ التي سبقت الإشارة إليها , وأمر الأندلس بات سائرا على درب الفناء , فإن المسلمين لم يهزموا في الأندلس على مدى عيشهم فيها بمثل هذه الهزيمة , فقد قدر المؤرخون قتلى المسلمين بعدد تراوح بين مائة ألف عند بعضهم ومائة وخمسين ألفا عند البعض الآخر , فكانت نذير شؤم وزوال فزلزلت أفكار الناس وبلبلت أحوالهم وأدخلت اليأس إلى قلوبهم كما عبر عنها
أ-أبو إسحاق بن إبراهيم الدباغ في أبياته المفزعة:
وقائلة أراك تطيل فكرا كأنك قد وقفت لدى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب غدا سببا لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام وقد دخل البلا من كل باب
كان على المسلمين الأندلسيين أن يستنجدوا بالمسلمين من ملوك إفريقية , وكانوا على حال من القوة والمنعة , فكان أن استصرخ زيان ابن مردنيش أمير بلنسية بأبي زكريا عبد الواحد بن حفص صاحب افريقية
ب- والشاعر المبدع والعالم المثقف المؤرخ أبا عبد الله ابن الأبار القضاعي البلنسي المتوفى سنة 658 هـ الذي أرسل إليه وأنشد بين يديه القصيدة السينية المشهورة : فقد انقلبت المساجد إلى كنائس , وانهدمت مدارس القرآن فصارت خرائب , وذوت حضارة المدينة وخبا نورها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ! إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة إجحاف نائبة تثني الأمان حذارا والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي سنة منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العابئات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناء جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها مدارسا للمثاني أصبحت درسا
يمضي الشاعر في استصراخه الأمير مبديا حسرة على ما أنهدم من محاسن المدينة:
فأين عيش جنيناه بها خضرا وأين عصر جليناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
3-رثاء إشبيلية:
أ-هجمة صليبية جديدة وتأبي المدينة على السقوط :
ومن المدن التي كافحت غزو النصارى ببسالة وضراوة وعزم وإيمان وتصميم , إشبيلية العتيدة قلعة المعتضد بن عباد وعرين ابنه المعتمد ؛ فلقد جمع فرناندو قوات هائلة جندها من كل أطراف إسبانيا النصرانية , ووسم المعركة بميسم صليبي صريح حين جمع الأمراء والمطارنة والقساوسة وبثهم بين جيشه البري ثم جلب أسطولا بحريا عسكر به في نهر الوادي الكبير ليشدد النكير على المدينة المتأبية على سقوط , وكان من المخجل حقا أن يشترك (( أمير )) مسلم هو ابن الأحمر في مساعدة النصارى بالمدد والعدد انتقاما من أهل إشبيلية لرفضهم الخضوع لطاعته . ولم يكن ابن الأحمر الوحيد من بين أمراء المسلمين الذين ساعدوا ملوك الحروب الصليبية الأندلسية وإنما وجد بين الحكام المسلمين عدد من الخونة كانوا على شاكلة ابن الأحمر , كانوا يفعلون ذلك انتقاما من خصومهم السياسيين بغض النظر عن أخوتهم جميعا في العروبة والدين .
لقد استعصت المدينة على جموع الجيوش والأساطيل الاسبانية النصرانية وامتنعت عليهم رغم خيانة ابن الأحمر , ومن صفحات الشرف الخالدة لهذه المدينة أن الذين دافعوا عنها هم أهلها من أبناء الشعب دون قيادة ملك أو أمير , وظلت تقاوم في ضراوة مدة ثمانية عشر شهرا رغم الحصار الرهيب
ب-استسلام المدينة :
فلما نفد الزاد والطعام والسلاح , لم تجد المدينة بدا من الاستسلام في جمادى الأولى سنة 645 هـ مقابل حقن دماء أهليها وحفظ أموالهم وأن يمهلوا شهرا لتسوية أمورهم وإخلاء دورهم .
-خلال تلك المقاومة الباسلة كتب شاعر اشبيلية إبراهيم بن سهل الإسرائيلي قصيدة رائية يستنهض همم المسلمين في إفريقية ويستصرخ نخوتهم:
نادى الجهاد بكم بنصر مضمر يبدو لكم بين القنا والضمر
خلوا الديار لدار عز واركبوا عبر العجاج إلى النعيم الأخضر
وتسوغوا كدر المناهل في السرى ترووا بماء الحوض غير مكدر
يا معشر العرب الذين توارثوا شيم الحمية كابرا عن أكبر
إن الإله قد اشترى أرواحكم بيعوا ويهنئكم وفاءه المشتري
أنتم أحق بنصر دين نبيكم ولكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ذاك البناء بكل لدن أسمر
ج- أحقاد كامنة :
إن امتناع اشبيلية على الغزاة فترة طويلة جعلت فرناندو الثالث الذي حشد الحشود للاستيلاء عليها يرتب موكبا فخما لدخولها , وكان أول عمل أقدم عليه
1-هو تحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة
2-وإزالة كل معالم الإسلام فيها
د-سقوط مدن أخرى :
وكان سقوط المدينة التليدة نذيرا بسقوط مدن أخرى كبيرة وزوال حصون إسلامية حصينة ,( شريش -وشذونة -وقادس -وشلوقة -وروضة -وأركش –وشنتمريه) . وإن هذا الاكتساح الرهيب والهدم والحرق والتخريب , والقتل والسبي والانتقام جعل الشعراء يبعثون بالعديد من قصائد الاسترحام وطلب النجدة من مسلمي إفريقية حتى -إن أبا الحكم بن المرحل كتب قصيدة ميمية بعث بها إلى المغرب فقرئت على منبر جامع القرويين في فاس في يوم جمعة من سنة 662 هـ فلما سمعها الناس انهمرت دموعهم وعلا نشيجهم وانفجر بكاؤهم , يقول في بعض أبياتها :
استنصر الدين بكم فاستقدموا فإنكم إن تسلموه يسلم
لاذت بكم أندلس ناشرة برحم الدين ونعم الرحم
فاسترحمتكم فارحموها إنه لا يرحم الرحمن من لا يرحم
ما هي إلا قطعة من أرضكم وأهلها منكم وأنتم منهم
4-ويرثي الشعر الأمارات الغاربة:
إذا كان الشعر قد رثى المدن وبكاها وهي تسقط في ربوع الأندلس العريضة الواحدة بعد الأخرى فإن هذه المدن كانت تنتمي إلى ممالك وإمارات غير أن أكثر هذه الإمارات لم تسقط تحت وطأة جيوش الفرنجة وإنما سقطت تحت وطأة جيوش مسلمة وافدة من إفريقية حينا ومنطلقة من بقاع الأندلس نفسها حينا آخر
أولاً-رثاء دولة بني عباد :
قامت دولة بني عباد كما هو معروف في إشبيلية سنة 426هـ ورسخت أركانها واشتد بنيانها وامتد سلطانها في عهد عباد بن محمد بن عباد المعروف بالمعتضد واستولى على غرب الأندلس وكان سياسيا محنكا ومحاربا جبارا ثم خلفه ابنه الملك الشاعر الفارس بل ملك شعراء الأندلس وشاعر ملوكها محمد المكني بأبي القاسم الملقب بالمعتمد على الله وقد امتد ملكه حتى شمل قرطبة وجزءا كبيرا من الأندلس وهو بطل موقعة الزلاقة المشهورة وكان حوله من الشعراء نوابغ شعراء الأندلس مثل ابن زيدون وابن حمديس وابن عبد الصمد وابن اللبانة وابن عمار الذي اتخذه أخا ووزيرا ثم قتله ، وغيرهم حتى إنه لم يجتمع بباب ملك من ملوك الأندلس من الشعراء ما اجتمع بباب المعتمد وانتهت دولة بني عباد على يد ابن تاشفين حسبما ذكرنا قبل قليل وحمل أسيرا إلى أغمات في المغرب سنة 484ثم مات في سجنه 488هـ وبموته انقضت دولة جديرة بالبكاء عليها حرية بالرثاء
ب-تعبير الشعراء عن سقوط المدينة :
1-لقد كان المعتمد أول من رثى نفسه ، وهو لم يصنع هذا الرثاء على طريقة من يئسوا من حياتهم لمرض عضال أو أمل ضائع مثلما صنع ابن شهيد وغيره ،وإنما كان يرثي ملكه ويبكي دولته حين أمر أن يكتب على قبره وقد أحس باقتراب منيته في الأسر هذه الأبيات :
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد ؟ !
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي ؟
نعم !هو الحق وافاني به قدر من السماء ووافاني لميعادي
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه أن الجبال تهادى فوق أطواد
فلا تزل صلوات الله دائمة على دفينك لا تحصى بتعداد
2-لقد نشط الشعر أسيفا في رثاء المعتمد ، ورثاء مملكة بني عباد ، بل إن كتبا ألفت في رثائهم ، فمن القصائد الجيدة في رثاء المعتمد قول ابن اللبانة جامعا بين المعنى الرصين الحزين والصنعة اللفظية البديعية:
لكل شيء من الأشياء ميقات وللمنى من مناياهن غايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمس ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده وربما قمرت بالبيدق الشاة
فانفض يديك من الدنيا وساكنها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها، لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز رايات
3-ومن مراثي ابن اللبانة أبي بكر الداني هذا في دولة بني عباد والمعتمد قصيدة دالية جيدة يستهلها بهذه الأبيات:
تبكي السماء بدمع رائح غادي على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
والرابيات عليها اليانعات ذوت أنوارها فغدت في خفض أوهاد
عريسة دخلتها النائبات على أساور لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
وفيها يقول وقد لون معانيه بصبغة داكنة من الحزن والأسى مصورا حزن الناس حين رأوا بني عباد مأسورين في الطريق إلى المنفى:
نسيت إلا غداة النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
تفرقوا جيرة من بعد ما نشؤوا أهلا بأهل وأولادا بأولاد
حان الوداع فضجت كل صارخة وصارخ من مفداة ومن فادي
سارت سفائنهم والنوح يتبعها كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قطعات أكباد
من لي بكم يا بني ماء السماء إذا ماء السماء أبى سقيا حشا الصادي
4-ومن الشعراء الأوفياء لبني عباد الذين أجادوا رثاءهم ابن عبد الصمد شاعر المعتمد الذي سعى إلى قبره في أول عيد مر على وفاته وكان جمع من الناس سعوا لزيارة القبر وقف ابن عبد الصمد على القبر وأنشد قصيدة دالية من عيون الشعر استهلها قائلا :
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك في السماع عواد
لما خلت منك القصور فلم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وهنا خر الشاعر على الأرض يبكي ويعفر وجهه في تراب القبر فبكى الناس من حوله حتى اخضلت ملابسهم وارتفع نشيجهم وعويلهم
مضى ابن عبد الصمد بعد أن استعاد أنفاسه في إنشاد قصيدته الطويلة الجيدة الحزينة التي تزيد كثيرا على مائة بيت وكل بيت عين من عيون الشعر يتمول في بعضها مشيرا إلى سعة ملكة :
عهدي بملكك وهو طلق ضاحك متهلل الصفحات للقصاد
أيام تخفق حولك الرايات فو ق كتائب الرؤساء والأجناد
والأمر أمرك والزمان مبشر بممالك قد أذعنت وبلاد
والخيل تمرح والفوارس تنحني بين الصوارم والقنا المياد
ومنها قوله في شجاعة المعتمد وسماحته وثقافته :
من يفتح الأمصار بعد محمد من يعقد الرايات للقواد
من يفهم المعنى الخفي ومن له صدق الحديث وصحة الإيراد
من يبذل الآلاف للزوار والـــ مداح والقصاد والرواد
وكانت زوجة المعتمد قد ماتت قبله ،فلما مات دفن معها في قبر واحد،الأمر الذي يوحي إلى الشاعر أن يوجه إليها في قبرها هذا القول الأسيف الحزين:
أم الملوك أما علمت بزائر لك ذي وفاء مخلص ووداد
أبكى العلا والمجد فقد كما الذي لبست له الدنيا ثياب حداد
لهفي على تلك السجايا إنها زهر الربا موشية الإيراد
ج-رثاء الدولة كان دون رثاء شخص المعتمد :
-هذا ما كان من أمر رثاء بني عباد ولعلنا لاحظنا أن رثاء الدولة كان دون رثاء شخص المعتمد، وليس ذلك بغريب فلقد كان المعتمد ملكا شاعرا، وكان هو نفسه عصب الدولة وعنوان مجدها ،وكان سخيا كريما مع الشعراء وغير الشعراء، وكان صاحب شمائل وأمجاد، فلا غرو أن يكون حجر الزاوية في رثاء الشعر لدولته ولبني قومه. وربما كانت هناك حقيقة أخرى ضاعفت من حزن الناس بعامة والشعراء بخاصة على بني عباد فقد رأى الناس أبناء الملك العظيم وقد تحولوا إلى حرفيين يكتسبون قوت يومهم بعرق جبينهم بل إن بعض بناته قد رآهن الناس يلبسن الأسمال البالية ويمشين حافيات الأقدام لأنهن لا يملكن ثمن ما تحتذي أقدامهن.
ثانياً-رثاء دولة بني المظفر :
أ-محمد بن المنصور بن الأفطس:
1- أنشأ محمد بن المنصور بن الأفطس التجيبي في بطليوس وماردة ويابرة وسنرين وإشبونة وما حولها دولة متميزة بالعلم والأدب وكان ملكا عليها –أي أنه كان ملكاً على البرتغال الحالية وجزء غير صغير من إسبانيا -وكان يلقب بالمظفر وكان فارسا أديبا عالما مؤرخا وهو معاصر للمعتمد وكانا على خلاف بعض الوقت وإذا كان المعتمد كبير الملوك الشعراء فقد كان المظفر كبير الملوك الأدباء فعلى الرغم من اهتمامه بشؤون الحرب والملك ألف كتابا على نمط عيون الأخبار لابن قتيبة واسماه (التذكير المظفري)وجعله في خمسين جزءا كما كتب تفسير للقران الكريم ولما مات المظفر سنة 460 هـــ
2-تولى الملك من بعده ابنه المنصور يحيى ولم يكن ذا شأن كبير مثل أبيه فلما توفي المنصور سنة 473 تولى الملك بعد أخوه عمر الذي تلقب بالمتوكل وكان أديبا شاعرا فارسا سياسيا محنكا وقد مارس الفروسية والشعر منذ فجر شبابه ومن شعره العذب ما قاله حين بلغه أنه ذكر في مجلس أخيه المنصور ـــ وكان ملكا بعد أبيه ـــ بسوء لقد كتب إلى أخيه آنذاك
فما بالهم لا ـنعم الله بالهم ينيطون بي ذما وقد علموا فضلي
يسيئون بي القول جهلا وضلة وأني لأرجو أن يسوءهم فعلي
لئن كان حقا ما إذاعوا فلا مشت إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ولم أمنح العافين في زمن المحل
3-إن الذي يدعو إلى الأسى أن المتوكل هذا وابنيه الفضل والعباس ـــوكانا فارسين عظيمين ــــ قد قتلوا تحت سنابك خيل ابن تاشفين سنة 489هـ أي بعد عزل المعتمد بخمس سنوات وبعد وفاته بسنة واحدة وقد حزن الناس عليهم لفضلهم، وفيهم وفي دولتهم
ب تعبير الشعراء عن سقوط الدولة :
1-أنشأ الوزير أبو محمد ابن عبدون قصيدته الرائية التي تعتبر من أشهر قصائد الشعر الأندلسي وبخاصة في رثاء الدول ومطلعها :
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
إن الشاعر الوزير المثقف الحكيم ابن عبدون يسلك نهجا جديدا في بناء قصيدته من حيث استيحاء تجارب الحياة واستقراء أحداث التاريخ والاستفادة من دروسه وأخذ الحكمة من غيره . ولكن ابن عبدون لا ينسى صيغ التفجع يتبع الواحدة منها الأخرى وأنات التوجع يوردها متتالية متوالية متهما الدهر بالختل والليالي بالخديعة ،والدنيا بالغرور والناس بالشرور :
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة والبيض والسمر مثل البيض والسمر
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة والبيض والسمر مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه يد الضراب وبين الصارم الذكر
فلا تغرنك من دنياك نومتها فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي ـــ أقال الله عثرتناـ من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة منا جراح وإن زاغت عن النظر
تسر بالشيء لكن كي تغر به كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها لم تبق منها ـ وسل ذكراك ـ من خبر
هوت بـ (دارا)وفلت غرب قاتله وكان غضبا على الأملاك ذا أثر
واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ولم تدع لبني يونان من أثر
وألحقت أختها طسما ، وعاد على عاد ، وجرهم منها ناقص المرر
ويمضي ابن عبدون في مرثيته النفسية الحكيمة آخذا العبر من التاريخ الذي يستعرض أحداثه الجسام التي أودت بدول كان نجمها ملتمعا في ذرى المجد ويضرب المثل بالشهداء والقتلى من الصحابة والخلفاء الراشدين والأئمة المطهرين: يذكر استشهاد جعفر وحمزة عمي الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومقتل الراشدين عمر وعثمان وعلي ، ومصرع الزبير واستشهاد الإمام الحسين.
إن الشاعر يسوق خمسة وثلاثين بيتا مصدرها أحداث التاريخ ومادتها الحكمة وهدفها العبرة لكي ينتهي من ذلك كله إلى غدر الدنيا ببني المظفر ، وهو إذ يصل إلى هذه المرحلة من مرثيته يعتمد إلى طرح القضية الأبدية التي تتمثل في أن الحياة الدنيا مراحل والإنسان فيها ومنها على سفر ، ثم لا يكاد يصمد الشاعر قليلا أمام هذا المعنى الجليل ، لأنه يسارع إلى إبداء اللوعة والارتماء في خضم الحسرة على بني المظفر دهاة الحكم والسياسة ،وقمة الفصاحة والسماحة ، وسادة الفرسان ورؤوس الحرب والفتح والطعان . ....
بني المظفر والأيام ما برحت مراحلا والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما ، ولا حملت بمثله ليلة في غابر العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو من للأسنة يهديها إلى الثغر
من لليراعة أو من للبراعة أو من للسماحة أو للنفع والضرر
أو دفع كارثة أو ردع آزفة أو قمع حادثة تعيا على القدر
ويبكي ابن عبدون الدولة المظفرية ممثلة في الملك بالمتوكل الأديب الفارس الشاعر وفي ولديه الفضل والعباس وكانوا قد استشهدوا دفاعا عن ملكهم أمام جحافل المرابطين ،ويشيد بالمعاني الجليلة التي كانت كامنة فيهم والقيم العليا التي كانوا يستمسكون بها من مهابة ووفاء ،وجلال وإباء، ويفتقد الشاعر مواقف الاستقرار في الحكم ،فقد كانوا موازين للاستقرار وصمامات للأمان ، فذهب الاستقرار وغاب الأمان. يقول الشاعر في هذا القسم من مرثيته :
ويح السماح وويح البأس لو سلما وحسرة الدين والدنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعباس هامية تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
أين الجلال الذي غضت مهابته قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسي أرض الله ، منذ مضوا عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
2-وكتب أبو البقاء الرندي أبو الطيب صالح بن شريف أشهر قصائد الرثاء في الأندلس: وهي قصيدة قيلت في رثاء الأندلس الضائعة - نونية - مطلعها .
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
كتبت القصيدة إبان محنة سقوط المدن والثغور بالجملة سنة 655 هـ حين نزل ابن الأحمر لنصارى الأندلس عن عدد كبير من القواعد الأندلسية هذا ولقد توفي ابن الرندي سنة 684هـ أي قبل سقوط الأندلس نهائيا وخروج المسلمين منها بحوالي قرنين من الزمان . وقصيدة ابن الرندي على جودتها لا تخرج عن كونها تقليدا ومزيجا من قصيدة ابن عبدون الرائية في رثاء بني المظفر سنة 489 هـ وقصيدة ابن الأبار السينية في البكاء على بلنسية سنة 635هـ أي قبل أن ينظم ابن الرندي قصيدته بعشرين عاما فقط ولا شك أنه قرأ القصيدتين بل حفظهما ، هذا وتمتاز قصيدة ابن الرندي بأنها مخططة ممنهجة ، فقد جعل قسما منها وهو:
أ-الأول :
في شكوى الدهر وغدره ، وضرب المثل بالدول التي سقطت والملوك الذين قتلوا قبل ذلك :
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان
و أين ما شاده شداد في أرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
و أين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
دار الزمان على ((دارا))وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب يوما ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان
ب-الثاني :
تحسر على المدن الجميلة العظيمة العزيزة التي سقطت ،وكانت تتلو الواحدة منها الأخرى وكأنها في سباق إلى الهاوية ، يذكر كل مدينة بأجل صفاتها وأشهر معالمها ، يبكيها جميعها ويرثيها رثاء :
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
ج-الثالث:
مرحلة العاطفة الدينية وإظهارها وتجسيمها حتى تبدو المصيبة صارخة تغبر الوجوه وتعكر النفوس وتصم الآذان ،فقد صارت المساجد كنائس واستبدلت النواقيس والصلبان بالقبلة ، وبكت المحاريب وشكت المنابر ،:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طويل الدهر نسيان
د-الرابع :
مرحلة استنفار المسلمين الذين يقيمون في شمال افريقية ، يسخر من تقاعسهم ، بل إنه يذهب إلى مدى أبعد وهو تقريعهم وتوبيخهم باسم الأخوة الإسلامية والرابطة الدينية فيقول :
ياراكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
ه-الخامس :
يخاطب إنسانية المسلم بعد أن أثار نخوته الدينية ، ويصف حال القوم وما قد انحدروا إليه من ذل بعد عز ، وعبودية بعد سيادة ،وضياع بعد منعة :
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
خاتمة سيئة :
وبعد ذلك كله فقد ضاعت الأندلس جنة العرب ومشعل ثقافة المسلمين ، الأندلس التي ألهمت فتنة جمالها معظم الشعراء إنها الأندلس الجنة التي وصفها ابن خفاجة البلنسي في هذه الكلمات :
إن للجنة بالأندلس مجتلى حسن وريا نفس
فسنا صبحتها من شنب ودجى ليلتها من لعس
وإذا ما هبت الريح صبا صحت : واشوقي إلى الأندلس




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)