المُتَصَابِى(نصوص قصيرة)
موسيقى صاخبة تنبعث من القاعةِ المجاورة. اغلق النوافذ بإحكام واسدل الستائر. وجلس على الكرسى يجتر ذكرياته فى زمن الصبا، وينهمر من عينيه الدمع الهتون، لم يشاهده أحد يبكى منذ أن فارق دموع الطفولة، عندماكان يرى الحياة بمنظاره المتفائل الوردى، ويعشق الحرية والإنطلاق المُتزن، يرتدى مايروق له ويمرح ويرقص كلما هزّه نغم، عبرت السنون ووضعت خطوطها على جبينه ولكن دواخله لم تتغير قط، شعاره عِش ودع الآخرين يعيشوا.. صار كلما ارتدى ملابس تعجبه تنتقده زوجته هذا لايناسب عمرك. عندما يستمع إلى أغنيات الحاضر يقال له: أنت زمانك فات ومغنيك مات. لم يشعر بمرور السنين، الا عندما يذكره الآخرون أن يغير نمط حياته لتناسب عمره. اصبح ابناؤه لايطيقون جلوسه معهم، وانشغلت زوجته بمجريات المسئولية، أصدقاؤه أدخلوا عنوةً فى قالب العمر وصاروا لايخرجون. ولكنه هو متألم من كل شئ مفروض عليه، أوقفوا له حياته التى يعشقها. عندما شارك فى احتفال القاعة المجاورة، التى لايعرف حتى مناسبتها أرادوه أن يجلس مستمعًا، ولكنه قفز دون أن يفكر صار يهتز ويتمايل، ويرقص بإيقاعٍ منضبط، ضج الشباب بالضحك، وصاح أحدهم ساخرا: كف عن هذا أيها المُتصابى..قبل أن تسقط وتصعد روحك. جرحته هذه الكلمة جرحا عميقًا فى دواخله، فخرج مهزومًا مأزومًا. كلمة المتُصابى هزته فتتداعت احاسيسه نحو هوة عميقة. تسلل إلى حجرته حزينا يحدث نفسه مواسيًا لها: هم الذين يحبسوننا فى قالب العمر.. ماذا أفعل؟ فدواخلى لم تشيخ كيف أوقف صوت الموسيقى؟!وانحدرت دمعة سخينة إلى الأسفل...
إزعان
تسللت خيوط الفجر اعلنت الديوك بصياحها بداية يوم جديد. تسللت هى الأخرى مسرعة نحو الشاطئ تتحسس طريقها فى ظلمة خجولة، تودع ليلًا طويلًا قضته سَهِرة تفكر والدموع قد جفت من مآ قيها. جلست القرفصاء قرب الشاطى أدخلت قدمها فلذعتها برودة المياه فتراجعت، بكفيها غرفت مياه دلقتها على وجهها فنشطت ذاكرتها، سرحت ببصرها على صفحة المياه، فبرزت صورته تترآى تم تختفى. عاودت البكاء مرة أخرى .فاندلع حنين هائل فى دواخلها فاندفع الحليب من ثدييها المتورمين متجاوزا نسيج الملابس حتى تدفق ممتزجا بمياه النهر وسرى. كلما فجرها الحنين لطفلها زادات دموعها هطولًا وحليبها نزولًا.
سمعت صوت أبيها الجهورى مخاطبًا زوجها: اسمع ياهذا تلتزم بما أقول او تأخذ ابنك وتترك ابنتى..
ركل الأب باب حجرتها، والشرر يتطاير من عينيه، وإنتزع الصغير من حضنها، وقذفه لصهره وأمره بالإنصراف. كان صراخ طفل يمزق جنبات الطريق، واختفى الصغير الذى مكث فى حضن أمه أسبوعًا واحداً ،إنتزعه أبيها القاسى دون أن يترك لها خيار. منذ ذلك اليوم وهى محط شفقة الأمهات، انتبذت الحياة وصارت ذكريات مولودها الأول وأحلامها التى تبخرت هى عالمها.
مازلت تغرق قدمها داخل مياه النهر وتخرجها. صراع عنيف محتدم فى دواخلهاـ تُنهى عذابها أم هناك أمل أن ترى صغيرهاـ مر شهران لم يتنازل أبيها عن قراره ـ ابنك معك وابنتى معى ـ كان خلافه مع صهره عقود أعمال يريده أن يوقعها فأدخل حفيده فى مساومته ليزعن صهره وينفذ. ولكن زوجها رفض قهر أبيها المتسلط. ادخلت قدمها فسمعت طلقا ناريا فرت على إثره الطيور من وكناتها واهتزت الأرض فنظرت خلفها مذعورة فرأته يحمل بندقيته ويتتطاير الشرر من عينيه. مسرعا نحوها مزمجرًا بأعلى صوت: تسللتى لتهربى معه.. وتكسرى كلمتى وتجعلينى مسخرة فى البلد أيتها الفاجرة. لم تسمع ماتبقى من تهديده ووعيده. ماذا لديها بعد صغيرها.. نظرت إليه لأول مرة برأسها المرفوع وأنزلت قدمها للمرة الأخيرة داخل النهر.
الهمس الصاخب
كانت تحرك قدميها بقلق بالغ ودمعة عالقة تتحدى السقوط، وهى فى أبهى زينتها يفصلها عن فرحها الموعود هنيهات قالت ضجرة:
ـ ماهذا الضجيج أنا اسمع صوت أبى عاليا منفعلا
ــ لاشئ يتجادلون حول أمور تجارية
ــ لا تكذبى ..سمعت اسمى يلفظ
ـــ آه منك ثم آه ماذا بك..اليوم فرحك لماذا أنت قلقة هكذا يا ابنتى؟
ــ أريد معرفة الحقيقة لماذا لم يأتى واليوم زفافنا؟
وهانذى انتظر منذ ساعة ليأتى ويقلنى لقاعة الاحتفال
إرتفع الضجيج وسمعت أبيها يصرخ بأعلى صوته فى وجه أخيه
ــ أنت تعرف أبنك لايريدها زوجة لماذا كذبت أتريد أن تسّير الحياة بأمرك ومصالحك..؟
ـ لاتنفعل يأخى سيأتى ابنى لقد بعثنا فى أثره لم يقل أنه لايريدها فقط طلب تأجيل الزواج وأنت رفضت.. أتريد أن تسيرالحياة بأمرك وفقا لمصالحك..؟
طال انتظار العروس، انفض المحفل، وتواصل الجدال ساعة أخرى، مرة صاخب وأخرى هامس بين الأخوين.
صرخت بأعلى صوتها: هل أنا سلعة؟
قذفت زجاج النافذة بحذائها،ا فتحطم محدثا صوت احتجاجا عاليًا، حسم الجدال المحتدم بين التاجرين. وظل العريس مختفيًا. والشمس تغيب وتشرق ولاشئ غير طعنة نافذة فى قلب أنثى..