الانتــقــام الرهــــيـــب
(محمد نديم على - القاهرة )
عندما كنا صغارا , كان أبوه لا يتركه يهنأ باللعب معنا, فحين يحتدم اللعب وتحلو الصحبة, كان أبوه يتسلل بيننا في هدوء ساحبا إياه إلى المنزل وحين كنا نركض خلف الحنطور , كان أسرعنا إليه فيحجل كابي فصادة ويقفز ملتصقا بخلفية العربة كقرادة في رأس عجوز , ولأنه ضعيف البنية ولا يقوى على الصراع , سرعان ما كنا ندفعه بعيدا ليسقط فوق إسفلت الشارع ونأخذ مكانه _ تلك اللحظات التي لا أنساها ... يجلس القرفصاء مغيظا مقهورا منتفخ الوجه احمر العينين , تدمدم داخله رغبة حارقة في الانتقام , فلا يجد بدا من الهتاف على الحوذي
: كرباج ورا يا أسطى....... كرباج ورا يا أسطى
فيلسعنا الكرباج على وجوهنا ومؤخراتنا فيشعر بالسرور ويركض خائفا منا إلى بيته فنركض خلفه نشكوه لأبيه الذي كان يوسعه ضربا .
- يا آسطى عيب .. هكذا عقل العيال
- ده ولد نكدي و زربون وبوز فقر .
- حرام عليك ...... لعب عيال .....هو حصل إيه يعني.؟
*******
هذه الفوضى ألا نهاية لها؟
مصلحة العمل فوق كل اعتبار من لا يعرف عمله جيدا فليجلس في بيت أمه وأبيه.
كاد غضب المسئول أن يفتك بصاحبنا .
لم يدافع عن نفسه مكتفيا بابتسامته المقهورة , أومأ برأسه موافقا على توجيهات مسئوله في العمل رغم قسوتها.
لم يكن قادرا على مجرد الدخول في مناقشة أو جدل للحصول على حق له.
لماذا يفعل به هذا المتسلط ما فعل؟ كل الموظفين يقرأون الصحف بمكاتبهم؟ لا أحد يدري.
كان كثير الانطواء ينزوي عند اشتعال الموقف مكتفيا بإيماءة من رأسه ثم يلوذ بالصمت.
غير أني كنت ألحظ نفس الحالة التي كانت تعتريه وهو صغير عندما كان يشعر بالحنق والعجز عن الانتقام.
هذا هو حظي .
لا تكمل. إنها إرادة الله. أنت أبنه الوحيد كيف يعاملك هكذا؟
أنا الوليد المنكود الذي كان سببا في موت أمه لحظة ولادته.
_ أبي يقول كذلك لذا فهو يعاملني معاملة سيئة خاصة بعد أن تزوج بامرأة سليطة اللسان تسرق ماله رغم قلته ولا تتركه يهنأ بهدوء العيش في شقته الصغيرة.
كان أبوه يضربه ضربا مبرحا لأقل هفوة تصدر منه.يجبره على العمل معه في ورشته لإصلاح السيارات . وذاك عمل لا يحبه صاحبنا مما يضطر أبيه إلى عقابه بربطه إلي عمود حديدي وينهال عليه ضربا بسلك معدني.
ضربه وهو طفل .. ضربه وهو صبي .. ضربه وهو شاب أمام أقرانه فتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه .. لكنه دائما لا يرد ولا يعترض .. كان وجهه ينتفخ بحنق يعبر عما يجيش في صدره من ألم وقهر .. ثم يلوذ بالصمت وينزوي عاكفا على قراءة كتاب متهرئ أو جزء من صحيفة متسخة.
أوقعه حظه في زوجة لا تقل قسوة عن أبيه . إذ حصل على شهادة التجارة المتوسطة بالكاد
الولد متفوق حرام عليك يا حاج !!
ليس عندي مصاريف للجامعة... شهادة متوسطة يعني شهادة متوسطة. لآ هو ابني ولا أعرفه إن التحق بالجامعة.
.. ولخلافه المستمر مع أبيه طرده فاستأجر غرفة فوق سطح أحد المنازل في حي شعبي عتيق . وراودته ابنه صاحبة الدار عن نفسه فكان أن تزوجها في ظروف لم يخطط لها. وتحولت حياته إلى جحيم مقيم لفقره وعجزه عن تحسين ظروفه المادية.
كان رئيسه في العمل صورة أيضا من أبيه لا تقع الأخطاء إلا في الأوراق التي يدونها صاحبي .. ولا يكشفها إلا ذلك المسئول المتسلط فيهينه بلا هوادة ويلومه بعنف وبلا تسامح.
ضاقت عليه الأرض بما رحبت . فلا راحة في البيت أو العمل أو في علاقته بأبيه الذي يطالبه بزيادة ما يسهم به معه في مصروف البيت إذ أقعده المرض لعصبيته الزائدة فاغلق الورشة وترك زوجته تعمل في الدلالة..
صار يأتي إلي العمل على غير عادته متأخرا ... ناشرا أمامه صحيفة الصباح في تحد للسيد المدير ... يلتهمها من الغلاف إلى الغلاف منتفخ الأوداج لا يرد تحية أو يلقي سلاما. يدخن بشراهة ولم يكن من المدخنين!!
علمت منه إذ حدثني باقتضاب انه لم ينم طوال شهر سوى سويعات قليلة ينغص نومه فيها كوابيس مزعجة.
فجأة دخل علينا السيد المدير قاصدا أن يضبط صاحبنا متلبسا بالجرم المشهود. أختطف من يد الجريدة في حنق بالغ لاعنا أسلاف أبيه مهددا برفته من المصلحة
قائلا في هدوء كمن أحبط مؤامرة خطيرة : هذا عمل ياروح أمك وليس مقهى.
وسمع صاحبنا هذه الكلمات فانتفخت أوداجه واحمر وجهه وجحظت عيناه. ...... يسب أمه.... التي ما رآها .... ولكن عشفها.
( هو هو صاحبي الذي يجلس القرفصاء على أرض الشارع مغيظا مقهورا )
واقترب في بطء وخشيت أن يفتك بالسيد المدير أو يقتله . إلا أنه دفعه بهدوء بعيدا عن طريقه .......
ولدهشتنا جميعا انطلق راكضا في بهو المؤسسة الحكومية العتيقة ودموعه على وجنتيه وهو يصيح بصوت متهدج :
كرباج ورا يا أسطى كرباج ورا يا ا اسطي
هوامش :
كرباج ورا يا أسطى كرباج ورا يا ا اسطي
عبارة يطلقها الأطفال كي يحثوا الحوذي على ضرب أطفال آخرين تعلقوا في طهر عربة الحنطور.
وتقال للانتقام ( عفاريت هم الأطفال في شوارع الأحياء الشعبية العتيقة بالقاهرة)