قراءة أولى في مجموعة المهندس الشاعر محمد بشير دحدوح (( عود رند يحترق )) .
إذ أُثمِّن المجموعة الشعرية للمهندس الشاعر محمد بشير دحدوح أتلاقى في مداراتها في حالة مشهدية رندية عالية تحمل هذا النقاء الوجداني وهذا الخاطف في أقنوم لغته ..
فالديوان من عنونته و مفتاح التقدمة..تتنفس فيه التناغمية والحسية البعيدة عن التكلف..باختصاره المعادل الموضوعي لكل مايريد بكلمة (رند)
باسم رند
أرفع الرند
سائلا الرند
القبول
حين استنبط تراتيله الداخلية من أنساق اللغة ومجاورتها أنثى الكلام ويبدأ بالمسير وفق حتمية معينة إلى أن يحقق غرضه مرتبطاً بالحياة والحقيقة حتى توقه الصوفي .. من خلاله سعى لتحقيق الانعتاق من العالم الحسي ..فاستدعى لغة قادرة على تنفيذ هذا الانعتاق و تأسيس ذلك التماهي ..
حبيبا ً
قضيت العمر أرجو هلاله
و أجلوه
في سري وفي خلواتي
(نطفة شاعر )
نصه الشعري لفتني جداً.. فالشاعر يمتلك حمولة معرفية , كما يختزن الزمرية التي مكنته من الإبداع في ملكوت الأفكار والتوهج الجمالي
ليس في قتلك جرم
إن بقيت الأقيدا
يقتلُ الظبية
سهم
إن طالت موردا
(تداعيات الحب والهوى)
لديه تشكل مستمر, فهو دوماً يهيئ لغة بعيدة عن الفوضى .. بل يستدعي لغة قادرة على التلون والتماهي في معنى النص .
بمعنى أنه يقوم أحياناً بإدماج ألفاظ دينية إلى جانب رنده إدماجاً بنيويا ً يجعلها طرف متفاعلاً أو جزء حيوي مؤثر في النص
هبت أنداء هواء أعرفها
من أيام النفخ الرندي
كانت تنعشني وقت الردة
نفخة كن فيكون
( النفخ الرندي)
_ إن حضور الشاعر في الواقع و سلوكيته تجعلني لا استغرب إحالته لنا إلى طقوس المعرفة والحكمة ,لأن سلوكيته تتواكب من خلال إبداعه ..
وما نفع الفصول
إذا توالت
على مفنى
وقد عزَّ اللقاء
(شعاع نور)
أدواته صادقة , تحمل فجوات توتر عالية ..واختلافانية فيها مبعثرة تجعلك تشعر أنك أمام لوحة فنان يعرف مايريد من خلال المقاطع وموسيقاها المتنوعة ..
وأيضا ً حامل ضوئي من العشقية و الصوفية و الحس والحرية والسرمدية تطرق إلى كل تلك الأشياء بطريقة لا تكرر نفسها بصور متدفقة وحكمة واضحة تبرز عن طريق خطوطها و ألوانها و تحولاتها .. افتراع اشتباكات لغوية جديدة بمعاني ومفردات تخدم متن النص المُعنَّى .. وتشكيلات أخرى لرؤيا الشاعر عندما ينتقل بين الواقع و ذاكرته ومخيلته ,ولكنه دوماً يعود إلى هذا الطيب الذي تنفح به شاعريته و يكرره بلغة رشيقة غنية بالتنفير والصور الموحية والتساؤلات الدائمة .. يجترح فيها فعل الإدهاش بتوصيف الشاعر الحسي والروحي الذي يعبق به نصه
أيقظت يأساً تراخى
وغافيات الأماني
فشحَّ بالحب صمتي
وفاض منه جناني
(بيني وبينك عهد)
إنه يعيش الحدث ولا يعتاش عليه..فالمعايشة الوجدانية تبدأ في خياله في رحابة الشاعر الحالم ..
إن العشقية في نصوصه تطبعت بالعمق والسماوية فرض فيها مناخاً يواكب واقعه و إحساسه .. فقد نعمت جواء الشاعر بلغة جزلة.. لديه أصالة السلفية لأن القصيدة هي التي تكتبه
و أزرى حبه ببنات نعش ٍ
و كان سهيل ُ
آخرهم هياما
(الجبة الخرساء)
فالرقابة الذاتية تحرك نتاجه من خلال انعطافات مميزة في صيرورة القصيدة. فهو يعلن عن نفسه من خلال قصائده وبذلك نجده يعبر عن قناعة.. فالشعر عنده ليس له طريقة عامة و نهائية
ملاذي ..
منعم مرهف
يقربني ويقصيني
(الغوث الغوث)
دائماً نراه يمسك بالمثير والملفت مستفيداً من مقدرته اللغوية كما في الطفراء
لم أتملَّ
عصارة نور
ترسم تهويمات الحيرة
كالطفراء
أظل أحبك
رغم صدود .. رغم سدود
رغم الخطر رغم النقي
شمولية الشاعر جعلته يختزل اللغة في صور متلونة بكل أشكالها
على أنات مزماري
إلى عينيك زفيني
(الغوث الغوث)
ستون ثانية
و أهدابي معلقة
على أبواب ذاكرتي
مفتحة مغلقة
(ستون ثانية)
الفينة العالية تجعله دوماً يستخدم مخلوقات جديدة غنية بالحلم مستفيد من العقل الباطن . لنلمس من خلاله الإشعاع اللغوي الجميل والقادر على خلق مناخات في نسيج لغته الجزلة و تحولات وإسقاطات الشاعر .. حالات لمست فيها الإيحاء الداخلي الذي يعكس موسيقى فنية تتحول إلى إبداع ملفت في عنوة القصائد , وطاقات جمالية واضحة ومتعددة ألبسها رائحة الرند و الحس الأنثوي في كل زوايا قصائده تقريباً .. ليشعر المتلقي بالنشوة في كثير من الصور و بنتاج متنوع متلون متفرد
ألقى على جمرة الأشواق رجوته
ففاح منها شذاً
بالرند يكتحل
(اعتذار على سندس الظن)
في شعر محمد بشير دحدوح أمام خلق وتفردية ونفس خاص به يوصلك إلى الإقناع بطريقة فنية متأنية ليس هناك عُجالة أو افتعال,لديه ذائقة فنية متقدمة بعيدة عن الشطط والاتكال على المغيّب .. التفت في أغلب قصائده على المعادلة بين الرند و المكون الأنثوي الذي يشكل القدر الأول للإنسان وكان ذلك بإدارة وليس انصياع .. اعتمد على عدة محاور في طرح نصوصه وأغلبها مضمن من العنوان ليخدم الغرض الشعري .. لغته تغاير لغة الحياة اليومية ,لغة حسية باصطفائيتها وتماهيها لاستنهاض النص الشعري ..
وبالنهاية ماأريده منه وأتمنى عليه بعد كل هذا الإبداع أقول : محمد بشير دحدوح لديه الموهبة ويمتلك من الاصطفاء والإلقاء ويمتلك قدرة على الإيقاع , وخاصة الإيقاع في تلبّس اللغة التراتبية .. وإلى حد كبير النمطية الحديثة يلزم هذا الشاعر تجديد اللون في داخله والإمساك بالرائحة الأخرى ليست التي تعوَّد عليها .. كما عليه إثارة إشكالات اللغة و اختلافانيتها عندما يحاول أن يعيش حالة الشرود أو مايسمى الخلق , لكي يقدر أن يكوِّن ماهيات جديدة و هيئات لغوية متنافرة بقدر ماهي متلاقية بمعنى الإثارة من موضعيات رؤيوية قادرة على حمل الحلم والانتقال به من طور إلى طور أكثر خصوبة وجدلية يقودك إلى احتمالات متعددة , ربما بعد ذلك سيكون الشاعر في طريق جديد ومسار يخلق إثارات أجمل و اعتقد بأن الشتعر يمتلك الأدوات والعناصر اللغوية التي تخوله للخروج بذلك وهو القادر على ديمومة الابتكار .
بقلم : مرشدة جاويش.