هنا بالداخل توجد غرفتان ، غرفة للطعام ، والأخرى للنوم ، ويتوسطهما ردهة ضيقة تؤدى إلى الحمام .
وعلى جانبى الغرفتين توجد العديد من الكتب تملئ أرففاً معشقةً فى الجدران ، ويوجد قط بالحجم المتوسط ، بجواره طبق من اللبن أوشك على انتهائه .
- ربما وضعته " فاتن " فى صباح هذا اليوم للقط .
لم أتذكر على وجه الدقة آخر لقاء تم بينى وبين أم على ، ولكن كل ما أنوى عليه هو البقاء مع ابنى وزوجتى ، دفعت باب غرفة الطعام ، ودخلت ، فوجدت فاتن ملقية على الأرض ، ملفوفة فى جلبابٍ فضفاضٍ أبيض ، ممددة على قطعة من السجاد ذات اللون الأحمر الداكن ، وبين ثنايا الجلباب يشع بريق لسكينٍ ممسكةً به بقوة ، جزعت ، مددت يدى تحت الجلباب الأبيض لأنتزع السكين ، فلم أجده ، تقربت أحتضن رأس فاتن وأقبله ...
- فاتن ...فاتن .... استيقظى .
*****
نهضت ، وثبت ، درت حولها ، نهضت ، وثبت ، دارت حولى ، أتنفس بعمقٍ مصحوباً بخوفٍ وفزع ، تتنفس بعمقٍ مصحوباً براحةٍ وأمن .
أمسكت بسكينٍ كان موضوعاً على طاولة الطعام ، يشبه ما كان مع فاتن ، ربما يكون هو ، أو لا يكون هو .
استدارت حولى ، خفت ، ارتعشت اليدين ، سقط السكين على الأرض ، هرولت مسرعاً غالقاً باب الغرفة ، تاركاً فاتن وحدها ، واتجهت صوب غرفة النوم ، وأوصدت بابه .
*****
ودخلت ، طالعتنى صورة فاتن جالسة فى استكانة واطمئنان على كرسى التسريحة ، تمشط شعر رأسها ...
- أبو على ... حمد الله على سلامتك .
جثم الخوف على صدرى ، جاس فى دمى ، تملكتنى فكرة الهرب والفرار ، لم أستطع ، نظرت لى ، نظرت إليها ، أوشكت على السقوط الاضطرارى ، تملك الوهن أضلعى ، غمر العرق ثيابى ، ازدادت ضربات القلب ، غبت عن فاتن .
إلى أين أنا راحل ، لا ، لن أرحل عنكِ يا فاتن ، تشبثت بها ، أرغمتنى رائحة العطر المنبعثة منها على الاستفاقة .
*****
وجدتنى مطروحاً على فراش المرض ، وأحد أقاربى يناولنى مسكناً ليخفف عنى بعض آلام الرأس التى أصابتنى بشدة ، وآخر يحضر الكمادات اللازمة لتنزيل درجة حرارة الوجه ، وآخر يستعد لأى عملٍ تطوعى قد يقوم به .
وأم على لم تكن من ضمن هذا الحشد الكبير .
- أين أنتِ يا فاتن .
الوجوه أمامى تنبأ بأنى مصاب بمرضٍ خطير ، اعتدلت لأسمع ما يوصف لى عن مرضى ، اتكأت على مسندٍ وضعه شخص غريب لم أتعرف عليه ، هيئت نفسى لسماع ما يمكن أن يقال ، وتحليت بالصبر ، ولكن خابت ظنونى ، فقد مرت الدقائق ولم يتفوه أحد ببنت شفه ، وسألت أحدهم ....
- ماذا جرى ؟ وما الذى أصابنى ؟ ولم كل هذا التجمع ؟
*****
أتانى من الخارج نحيب ونشيج لامرأةٍ ، عرفت من خلال نبرة صوتها أنها امرأة فى العشرينات ، امتزج صوت لامرأة عجوز مع النحيب ، كون ما يشبه العزاء لفقد عزيز أو قريب ، تنبأت بما حدث .
- يا للمصيبة ... ماتت فاتن ... لا إنها لم تمت ... لا ... إنها الآن فى أحضان قبرها ... وربما لم تدفن بعد .
الاضطراب عنيف ولا أقوى على احتماله ، ارتمت الشجون الثقيلة على القلب الواهن ، تجذبنى عشرات الخيوط من الحنين إلى فاتن ، يتبدى خيالها فى الأحداق ، يرتخى كبريائى أمامها ، أشعر بأنفاسها تلامس أنفاسى ، الآن سترتد الروح إلى الجسد ، وسأعبق صدرى بأريجها ، وأحيا بتوحدها معى ، ونسكر غربة الزمان والمكان ، ونقيع هنا أبد الدهر ، ونلملم ما بقى من العمر ، ونرسم البسمة فوق ثغر على .
- مازلت أناديكِ ... فاتن ... أم على .
*****
لم أتمالك نفسى حين وخزنى أحدهم بإبرةٍ مزقت العضل ، انتفض الجسد الموجوع نفضة أودت به إلى الرقود والسكون والاستكانة والتأنى فى رؤية المستحيل .
- فاتن .
يدور فى الرأس صداع يحرك ما كان ساكن .
- اننى الآن فى شوق لرؤية فاتن للمرة الأخيرة .
دفعن ذلك الإحساس للوثوب والاستعداد لرؤيتها ، فتهيأت لرؤياها ، وانتعش القلب وانشرح ، ومال أحدهم على الآخر مدمدماً بصوتٍ رفيعٍ ....
- إنها الحمى التى اجتاحت كيانه ... يا له من مسكينٍ يستحق الشفقة .
*****
اندفعت بقوةٍ صوب الباب ، فانتابتنى حسرة أليمة حين اكتشفت فجأة أنى وحيد فى الغرفة .
أخذت أتأمل المكان ، الكرسى ، التسريحة ، الدولاب ، السرير ، نافذة الشرفة ، وزجاجاة العطر ، و " بورتريه " لفتى يرسم امرأة ذات وجه يقطر من أهدابها دما ، وألبوم لصورٍ " فوتوغرافية " طوته الأيام مركوناً فى ركنٍ منسى ، مهمل ، غبار الأيام والليالى جعلت صوره فى طى النسيان .
زرفت من العين دمعة على الخد ، أمسكت به ، التصقت اليد بوجوه قد حنت إليها ، أشعة من الأنوار النورانية تصدر من وجه امرأة ... " ربنا يسعدك دنيا وآخره " ، وصدر رحب لرجل ... " أنت حر " ، ودمعة ملتصقة فى بؤرة العين ... " ربنا يخليك لى يا أخويا " ، وقلب معتصر بالأحزان ... " البقاء لله " ، ويد وضاء تربت على الكتف ... " لا تحزن إن الله معنا " .
ترتعش الأنامل من بهاء الوجوه ، فلم تقو الأعصاب على التحمل ، وأخذت تتفكك عصباً عصبا ، وانهارت ، وما بقى منها إلا الذكرى .