في كل البلدان ومنذ قديم الأزمان ، وتحديداً بعيد غزوة بدر الكبرى ، كان أسرى الكفار يفدون أنفسهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة ، وبهذا العمل الحكيم بدأت حركة التعليم في مجتمعنا الصافي .
وموضعونا اليوم نسخة مقدمة لواقع خفيف يدور في خلف أسوار مبنى نسميه المدرسة .
جلس الفتى حسان في مقعده الدراسي وبدأ بالتثاؤب ، وحوله زملاؤه الطيبون والأشرار ، والذين على الهامش أيضاً .
دخل معلم مادة اللغة الأستعمارية وألقى التحية وردّ عليه التلاميذ وقال : قبل الدرس من الذي لم يحضر معه كتابه هذا اليوم ؟
وقف حسان ببرود ، فقال المعلم قوقعلي : آها ، هذا أنت إذن لم تحضر الكتاب ،You is a big donkey,And stupid boy ....
قاطعه حسان بغلضة : لحظة يا قوقعلي ، احترم نفسك ولا تتكلم في أشياء مالك فيها حظ ولا نصيب ، لسانك حصانك، بل حمارك ، والتدريس من أمامك والرد من خلفك، لا تحسبنا لا نعرف أن نتكلم هذه اللغة التي أنت لا تعرف أن تدرسها لنا ، من الذي جعلك معلماً .
قال قوقعلي : إنك أيها البليد قد تجاوزت حدودك وخرجت عن احترام المعلم ، هيا انقلع إلى المشرف الكبير ليؤدبك ويعلمك الاحترام ، سألحق بك بعد قليل .
خرج حسان وقال بسرعة وبسخرية : حسناً سأذهب إلى المشرف الكبير لأشرح له حالتك ربما يستطيع تأديبك . وأغلق الباب وهرب ...
سؤال يُطرح عليكم ، من هو المشرف الكبير ؟ هل المشرف الاجتماعي ، أو وكيل المدرسة أم مديرها أو بوابها ؟ فالحقيقة لا هذا ولا ذاك إنه مشرف كبير مكتبه أشبه بقاعة التحقيق وله مستشاران وأفراد من طلاب الأمن .
تجول حسان في رحاب المدرسة التي كانت سجناً ومكاناً لتعذيب سجناء المقاومة أيام الاستعمار الشرير ، ثم مضى بعض الوقت ليجد نفسه بالقرب من مستشار المشرف الكبير ومعه الأستاذ قوقعلي .
قال المعلم : أين كنت يا بليد ، ألم أقل لك اسبقني إلى هنا ؟
رد الطالب : نعم نعم ، ولكنك يا معلمي سريع جداً وعيب علي أن أسبقك ..
قوقعلي : الآن وقد عصيت من قبل ! لن يفيدك هذا الكلام وها هو مستشار المشرف الكبير أمامك .
المستشار مدحت : ما خطبك أيها الولد ؟
حسان : لا تسألي واسأل قوقعلي فهو صاحب الدعوة .
المستشار : حدثني الأستاذ بالخبر ويجب أن نسمع من الجميع .
حسان : لن أتكلم إلا في جلسة المشرف الكبير .
وما هي إلا نصف ساعة حتى حضر الذين لهم علاقة بالذي حصل سواء علاقة مباشرة أو سواها ، وقد حضر كل من / مدير المدرسة ووكلاؤها ومشروفها الاجتماعيون وأعضاء هيئة التدريس وطلاب الأمن مع عدد من طلاب الفصول التي يدرسها قوقعلي
وجاء المشرف الكبير
نطق المستشار مدحت : سعادة مدير المدرسة ، السادة الكرام من أعضاء هيئة التدريس ، نفتتح جلستنا اليوم بقضية خطيرة ألا وهي شتم طالب لمعلمه وعدم الانصياع لقوانين وزارة التربية والتعليم باحضار الكتاب المقرر ولنسمع من صاحب الدعوة الأستاذ قوقعلي.
قوقعلي : سيدي المشرف الكبير ، سادتي الكرام ، لا شك في أن الحكومة قد صرفت أموالاً طائلة في هذا البلد لاخراج جيل واعد يتم على يديه رقي البلد ، ومما لا شك فيه أيضاً أن أعداء الوطن يحرضون شبابنا على الكفر بهذه النعمة والتمرد عليها كلما سمحت لهم الفرصة ، وإن هذا التلميذ المدعو حسان أحد الذين استغلهم الأعداء للزحام على مقاعد الدراسة فقط لاشغالنا عن أعمالنا ولتبذير مصاريف الدولة .
وأنه يا سيدي الكريم تلميذ بليد ومهمل ، وهذا واضح من هذه التهم
أولاً / التأخر دائماً عن الدرس .
ثانياً / اهمال ما يطلب منه من قبل المعلم .
ثالثاً / النوم في الدرس .
رابعاً / تناسي الكتب والدفاتر .
خامساً / تعديه دائماً على زملائه بالضرب أو بالشتم .
سادساً / تخريب ممتلكات المدرسة .
سابعاً وأخطرها / تعديه على المعلمين بألفاظ بذيئة .
ومن هذه السبع نقاط يتضح لنا أنه لا مكان لهذا الطالب هنا ، بل تحويله إلى الجهات المختصة لينزل فيه حكم البلاد العادل .
المستشار مدحت : حسناً وبعد سماع كلام المدعي ، نسمع من الشهود . الشاهد الأول فليتكلم ، عرّف بنفسك وما هي علاقتك بالأستاذ والطالب ، ثم ادلي بالحقيقة وإياك أن تكذب .
الشاهد الأول : سيدي القاضي ، سيدي المستشار ، اسمي أمجد راش ، طالب في الصف الحادي عشر من الشعبة الثانية ، يدرسني الأستاذ قوقعلي مادة اللغة الاستعمارية وعلاقتي معه طبيعية ، أي علاقة تلميذ بمعلمه ، وأما زميلي التلميذ حسان فإني أعرفه في المدرسة فقط منذ سنة .
المستشار : ماذا تعلق على ما قاله الأستاذ قوقعلي بشأن هذا الطالب ؟
أمجد : أرفض التعليق على ما قاله ، لأن فيه مبالغة قليلاً فقد ينشغل المرء عن أشياء خارجة عن إرادته .
المستشار : وماذا عن تعديه على زملائه ؟
أمجد: حاشا لله ما رأينا منه سوء .
المستشار : وماذا عن ممتلكات المدرسة ؟
أمجد : لا علم لي بها .
المستشار : ما قضية شتم حسان للأستاذ؟
أمجد : هي حكاية طويلة ، فإنه لما كره حسان اللغة الاستعمارية لم يعد يهتم بها إطلاقاً ، - أتكلم عن اللغة خارج وداخل المدرسة وقبل أن يدرسنا الأستاذ قوقعلي - ، فلما بدأ هذا العام الدراسي ، ودرسنا الأستاذ قوقعلي ، ازداد بغض حسان للغة وازداد إهماله لها ، فلم يرضى الأستاذ قوقعلي عن وضعه حتى قال بالحرف الواحد : You is a big donkey,And stupid boy ، ومن الطبيعي أن يثور حسان على ما قاله الأستاذ فرد عليه وصار الحال إلى هنا .
المستشار : أهذا كل شيء ؟
أمجد : أجل يا سيدي المستشار .
المستشار : حسناً ، بإمكانك الانصراف ، فليأتي الشاهد الثاني ، عرّف بنفسك وما علاقتك بكل من المعلم والتلميذ ، ثم أدل بشهادتك وإياك والكذب .
الشاهد الثاني : اسمي خالد فتحي ، طالب من الصف الحادي عشر الشعبة الثالثة ، علاقتي بالأستاذ خفيفة جداً وأما علاقتي بحسان فهو من نفس الحارة التي أسكن بها ، وهو دائم التسكع وقلة الاهتمام بالآخرين والإعتداء عليهم ، لذلك فهو متكبر مغرور ، وقد رأيته بعيناي يكتب عبارات سيئة بحق المدرسة على جدارها الخارجي ، وأما بخصوص الحادثة التي وقعت مع المعلم لا أستبعدها منه ، فالمعلم لم يخطئ بوصفه فلماذا هو يرد إلا أن يكون شيئاً آخر .
المستشار : ما هو هذا الشيء الآخر ؟
خالد : كلام لايليق ذكره هنا أمام سعادتكم وسعادة المدير الكريم.
المستشار : الطالب خالد فتحي ، بإمكانك الانصراف ، إلى الطالب حسان أنت سمعت ماقاله الأستاذ قوقعلي والطالبان أمجد راش وخالد فتحي ، والآن الحق معك في الدفاع عن نفسك .
حسان : بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ... لقد سمعت ما قاله الأستاذ قوقعلي والزميلان الأخ أمجد والجار خالد ، فأما ازدراءات قوقعلي فإنه قد كذب بحقي وبحق الدولة ، لإإني مواطن شريف تهمه مصلحة هذا البلد المعطاء ، ولا علاقتي لي بمن يريدون الشر لنا إلا علاقة السيف ، وإني يا حضرة المستشار بريء كبراءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام ، فلست أتأخر عن الدرس أبداً إلا مرة كان الأستاذ عطية قد طلبني ، وأخرى كنت عند مكتب المشرف الإجتماعي ، فلو كان كل طالب يحاسب على تأخره بدون قبول أي عذر لما صار هناك ألفة بين المعلم والتلميذ ولرأينا في بلدنا هذا جيلا مجرماً يتمرد على القوانين ، وأما إني لا أفعل ما يطلبه مني المعلم فهذا راجع إلى اللغة التي أدرسها فهي تجلب لي النوم ، جرّب مثلا أن تستمع إلى لغة لا تفهما ، طبعا ستصاب بالملل وتنام ، وأما قضية الكتاب الذي نسيته ، فلم أنسه أبداً إنه في جعبة الملعم أخذه مني ليطّلع عليه ونساه هو فلم يرجعه إلي ، أما وإني أتعدى على غيري وأستكع في الشوارع فهذا شيء مردود على من قاله ، وأما قضية تخريب ممتلكات المدرسة ، فالدليل واضح تماماً ، المدرسة نظيفة ولا يوجد عليها كتابات ولا إصابات ، وأما قضية شتمي لقوقلعي ، فهذا لكم الحكم فيه .
قوقعلي : كلامك يا حسان مردود عليك ...
يقاطع المستشار : اقطعوا الكلام ؛ يرى المشرف الكبير أن تؤجل الجلسة ليوم غدٍ حتى يحضر عدد آخر من الشهود وللاستماع إلى رأي أعضاء هيئة التدريس . رفعت الجلسة
الجلسة الثانية في اليوم التالي
المستشار : بعد أن استمعنا للطرفين البارحة ، واستمعنا إلى الشاهدين بقي لنا أن نستمع إلى البقية ، نترك التعليق الآن إلى سعادة مدير المدرسة .
المدير : سعادة المشرف الكبير ، ومستشاراه الكريمان ، أعضاء هيئة التدريس ، أعزائي التلاميذ ، في هذه المدرسة التي خرجت أجيالاً عظيمة ، وقع أمر غريب بالأمس وسلوك شاذ عن مهنة التربية والتعليم نأمل ألا يتكرر وإني أرى حسم الموضوع وعدم تبذير المزيد من الوقت ، فالطقس بارد هذا الصباح وقد رفعت حرارة القضية منه ، لننسى الماضي ولنبدأ من جديد .
المستشار مدحت : نشكر سعادة مديرة المدرسة على ما قدم من توجيهات ولننتقل إلى المدعي الأستاذ قوقعلي
قوقعلي : أحيي سيادة المدير على هذه التوجيهات ، ولكن من الصعب أن نهمل قضية خطيرة مثل هذه ، سيدي القاضي المشرف الكبير ، أظنه من غير العدل إهانة المعلم بمقارنته بطالب مثل حسان ، إني أطالب الآن حسم الأمر وعدم تأجيله
المستشار : كلمة لك أخيرة يا حسان .
حسان : لا أقول إلا كما قال الشاعر الحكيم :
لله در الحسد ما أعدله *** بدأ بصاحبه فقتله .
المستشار : والآن قبل سماع الحكم نستمع الآن إلى الأستاذ عطية، معلم اللغة الأصيلة .
الأستاذ عطية : تحية طيبة وبعد ، أرى ألا مشكلة هنا أبداً ، فكل ما حصل هو سوء فهم ومبالغة مع نكهة إبليس الخاصة والتي تسمى الخلطة السرية في القضية .
مكانة المعلم في الإسلام محفوظة ، وكرامة الإنسان مرفوعة على الرأس ، فلماذا لا ننهي النقاش على التسماح ذلك المبدأ العظيم الذي جمع أمم متفرقة في أمة واحدة هي خير أمة أخرجت للناس ، سيدي المشرف الكبير لننسى ما مضى ولننظر إلى المستقبل وأن نستفيد من أخطاءنا فأعدائنا قد اجتمعوا من حولنا كما يجتمع الناس على الوليمة أرجو من أخي القدير الأستاذ قوقعلي أن يتاجوز عن الطالب حسان ويعفو عنه والله عفو غفور ، وكما أتمنى من الطالب حسان أن يقبل اعتذار المعلم قوقعلي ، وكان الله غفوراً رحيماً
المستشار : والآن وبعد كل شيء انتهى الموضوع إلا من الكلمة مع سعادة الأستاذ المشرف الكبير لنرى ونسمع ما يقوله عن القضية ، سنعود لكم بعد خمس دقائق .
وبعد فترة قصيرة ، قام الحضور من خلالها النقاش حول المسألة وعن الحكم النهائي وفجأة دخل أعضاء المحكمة المشرف الكبير معه المشتشارين مدحت ورأفت .
المستشار رأفت : بعد أن استمعنا إلى الجميع ، وعرفنا كل القضية وبعد الاطلاع على سجلاتنا وبعد جلسات ومشاورات قرر سعادة المشرف الكبير التالي /
أولاً/ تبرئة الطالب حسان أحمد من تهمة التأخر عن الدرس .
ثانياً / تبرئة نفس الطالب من تهمة تناسي الكتاب .
ثالثاً / أيضاً تبرئة نفس التلميذ من تهمتي التعرض لآخرين وتخريب ممتلكات المدرسة .
رابعا / وجب الاعتذار من قبل الأستاذ قوقعلي ، وثم الاعتذار من قبل الطالب حسان ، وبعد ذلك يفرّقان عن بعضهما وذلك بنقل التلميذ إلى الشعبة الرابعة والتي لا يدرسها المعلم .
خامساً / إدانة الطالب خالد فتحي بتهمة شهادة الزور ، وقد حكم عليه أن ينظف هذه القاعة فور انتهاء الجلسة .
رفعت الجلسة