تحول..!
رحلته الطويلة التي استمرت اكثر من خمس ساعات ونصف جلعته يشعر وهو يخرج من الحافلة التي اقلها..براحة كبيرة اذ قد شعر برحابة المكان..ونهاية الضوضاء التي كانت الناقلة تبعثها اثناء سيرها.. ناهيك عن الافواه التي لم تصمت منذ انطلاقة الحافلة الى ان خرج المسافرون منها..بل حتى وهم يهمون بالعودة كل الى مبتغاه كانوا يتكلمون بصوت مرتفع..فالحافلات هذه متعبة جدا لانها قديمة اولاً، ولانها مهملة نوعا ما..لعدم وجود صيانة مستمرة لها..ولا حتى متابعة مستمرة.. بالطبع ليس السبب مالكيها.. انما لان البلد منذ عقدين من الزمن يعاني حصارا وحروبا فأثر ذلك حتى على الحديد..اقصد هذه الحافلات.. وكل شيء ..بل تعدى الامر الى اللاشيء ايضا..لذا تجد الحافلة الواحدة تصدر دخانا اسوداً.. وصوت اشبه بصوت المولدات الكهربائية التي اصبحت ظاهرة جديدة من دواعي التطور الحاصل في البلد.. وهي اثناء سيرها لمسافة طويلة تحتاج الى اكثر من محطة للتوقف..اما لان حرارتها ارتفعت..او لعطب اصابها....او.
ومع كل ذلك فهي تشهد في محطاتها ازدحاما..حيث يتوافد عليها الركاب بكثرة..والسبب قد لايجهله احد..لانها ارخص من اية وسيلة اخرى.
عبر وسام الرصيف الى الجهة الاخرى من الشارع..ودأبت رجلاه في السير عبر تلك الازقة القديمة التي تعود زيارتها كلما حطت بها رحاله في تلك المدينة..كان في نفسه يتمتم..كم اشتقت اليك ايتها الازقة..كم اشتقت لرائحتك..لانينك..وظل يسير فيها لاكثر من نصف ساعة..حتى شعر بالتعب جراء السير المستمر خاصة وان حقيبته لم تفارق ظهره لحظة..قرر الذهاب مباشرة الى محل الدكتور ياسر حيث مضى اكثر من ثلاثة اسابيع على موعده..لكن لظروف خاصة وللاوضاع المتردية..لم يستطع الحضور..وبعد ربع ساعة من السير لكن هذه المرة بالسيارة التي قام بتاجيرها..وصل الى الشارع الذي فيه محل الدكتور..وامام باب عمارة من ثلاث طوابق هي اشبه بمجمع طبي..توقفت السيارة..فخرج وحمل حقيبته..لكنه فوجئ بعملية ترميم واسعة..حيث سمع اصوات العمال ووجد الكثير من الاسمنت والرمل والطابوق..وكان مدخل العمارة ممتلئ تماما بالغبار..التفت.
-عذرا...
-رد احد العمال تفضل..
-الدكتور ياسر..كان في هذه العمارة محله..؟
-من هو الدكتور ياسر..
-دكتور ياسر معروف فهو من اهم اخصائي البلد..
-من هو لااعرفه ..لم اسمع به..
-لكنه من القلائل الذين يفهمون..معاناة..
-قاطعه..اسف لااعرفه..
-يقطع حديثهما..رجل اخر..عد الى عملك ما بك واقف هنا..
-يرد انه يسأل عن محل الدكتور ياسر ويقول بانه مشهور..
-ياتي الرجل ..نعم..تفضل..ما تريد..
-اسأل عن محل الدكتور ياسر..
-اي محل...
-هنا..كان في العمارة هذه..
-هذه..
-نعم...
-أ لست مخطئا..في العنوان...
-لا..ابدا..فانا من مرضاه..
-هل انت مريض..
-نعم...
-ادعوا لك الله بالشفاء..
-شكرا..لكن الا ..تعرف محل الدكتور ياسر..
-اسف..لااعرف..لكن دعني اسأل شريكي لانه من اشترى العمارة هذه لنا..
-ابو جاسم..ابو جاسم...يلتفت رجل طويل القامة..ويأتي ..
-نعم..
-الاخ يسأل عن محل دكتور اسمه ياسر
-نعم..
-اين محله..
-نعم..
-كان هنا في هذه العمارة..
-نعم..
-الاسم الكريم..
-وسام..
-وسام الدكتور ياسر..والاخرون جميعا..غادروا العمارة لان صاحب العمارة باعها لنا..
-ولكن كيف..والمرضى..والمواعيد..
-اسف اخوية..لست كفيلا بهم..
-الا تعلم اين ذهب..
-لا..لكن حسب علمي بان بعضهم..فر الى خارج البلد..
-ماذا..خارج البلد..لماذا..؟
-أ لست تعيش هنا..أ لاتسمع الاخبار...انهم مستهدفون...
-ممن..
-من الارهابيين.
-لكن ماذا فعلوا...
-لم يفعلوا شيئا..لكنهم يملكون فلوس كثيرة..
-وما ذنب الاخرين..
-عذرا اخوية...دفعنا ارباح سنة كاملة لهم حتى سمحوا لنا بالقيام بالعمل هذا..
-لمن دفعتم..ل..
-لهم....
-من هم...
-هم...الا..تعرفهم...ثم عذرا..فلدي عمل..اقوم..به..اذا كنت تحتاج لاية مساعدة فانا مستعد.
-لا..شكرا...لكن اسمح لي ماذا تنوي ان تفعل بعمارة الاطباء هذه..
-احوله الى فندق..وهنا..ابني مطعما...اذا اتيت بعد ثلاثة اشهر..تعال..عندي..ستجد فندقا رائعا..واسأل عني حتى اخصم لك نسبة من اجور المبيت..والطعام ايضا..
-شكرا..لكن الا تعرف كيف اجد الدكتور ياسر..
-لا..ابدا..
-شكرا..لك..
-اهلا بك..لاتنسي اذا اتيت زرنا في الفندق والمطعم..
-نعم...
-مهلا..مهلا...اظن بان صاحب الفلافل ذاك يعرف شيئا..لانهم يقولون بانه اقدم واحد في الشارع هذا..
-شكرا..شكرا لك..
-وداعا..
-بل قل اللقاء..
يتجه نحو محل صاحب الفلافل..
-عذرا..هل تعرف اين محل الدكتور ياسر
-الجديد..
-نعم..
-لست متاكدا..لكن اظن بانه اجر..محلا..في شارع ياسر عرفات..
-اين هو هذا الشارع لم اسمع به من قبل..
-الكرادة..الكرادة نفسها..لقد غيروا اسمه الى ياسر عرفات..
-والمدينة..ألم يغيروا اسمها..
-لا..بقي اسمها كما كان..
-شكرا..
-اهلا بك..
وصل وسام الى الكرادة سابقا..وعرفات حاليا..وبدأ يسير بخطا مثقلة وهو ينظر الى مدخل المحلات عله يجد اسم الدكتور ياسر مكتوبا على احدها..لكن دون جدوى...
وعندما هم بالعودة..سأل رجل عجوز يبيع بعض الاشيئاء القديمة على الرصيف..
-عذرا..هناك دكتور اسمه ياسر وهو اخصائي الامراض القلبية..قيل لي بان محله هنا في هذا الشارع ..الا..تعرف اين اجده..
-ماذا...
-محل الدكتور ياسر..
-دكتور...اظن بانه في تلك العمارة..هناك..
-اين..
-تلك البيضاء..لانني ارى في اغلب الاوقات ازدحاما امام بابه..
-نعم..شكرا لك...
-اهلا وسهلا..
وسام يدخل العمارة...وبعد جهد..وجد محل الدكتور ياسر..كان شبه فارغ لان الناس هنا لاتعرف بمكانه بعد.. وتلك الازدحامات انما تحصل لان محلا لبيع البيض يقع امام مدخل العمارة..دخل اليه..
-اهلا وسام..ماهذه الغيبة الطويلة..
-كيف حالك دكتور..
-بخير..وكيف انت..
-كنت افضل ..
-ماذا بك..
-تعبت اليوم كثيرا..متى تحولت الى هذا الشارع..
-شارع ياسر.....مبتسما..
-نعم..يبتسم ايضا..
-قبل ثلاثة ايام فقط..
-والسبب..باع صاحب العمارة ذاك المجمع..
-وهذا الجديد..
-كان فندقا..قديما..وتحته كان مطعما..
-يا لسخرية الاقدار..
-ماذا هناك وسام..
-القديم..كان مجمعا طبيا..تحول الى فندق ومطعم..وهذا كان فندقا ومطعما...تحول الى مجمع طبي..
-انها الحياة..يا وسام..
-بل ..انها..لاشيء..لاشيء..
-لنعد الى صحتك وسام..
-نعم..نعم..
انتهى....
14-1-2003
بغداد