مَا لا يُرْضِي النَّفْسَ يُرْضِي العَقلَ , ومَا لَا يُرْضِي العَقْلَ يُرْضِي النَّفْسَ , عَجِيبةٌ أَنْتِ يَا دُنْيَا . كَيْفُ تُبَاعِدين بَيْنِ أَصْلَيْنِ اتَّحَدَا فِي جَسَدٍ , لَا هُو متِّسِعٌ لتَنَائِيهِمَا , ولا هُمَا مَتَدَانِيَانِ فِيهِ . الزَمَنُ يَشَيخُ بالعَقْلِ وَيَصْبوُ بِالنَّفْسِ كُلَّمَا خَطَّ العُمْرُ تَجَاعِيدَهُ فِي الجَسَدِ , فَلا النَّفْسُ بَالِغَةٌ الطُّفُولَةَ فِي تَصَابِيهَا لِيَسْهُلَ قِيَادُهَا , وَلا العَقْلُ مِدْرُكُهُ الخَرَفُ فِي شَيْخُوخَتِهِ لتُعَطَّلَ مَشُورَتُهُ , فَمَا يَزَالُ الإِنْسَانُ يُكَابِدُ ذَاتَهُ رَاحِلَةَ ثَقِيلًا مَتَاعُهَا يَسِيرُ بِهَا الزَّمَنُ فِي مُنَاحِي الحَيَاةِ وَمَرَافِئِ العَيْشِ , لا تَأْوِي إِلَا فِي نُزُلِ السِّنَةِ وَلا تَقِفُ إِلا لِقَضَاءِ الحَاجَاتِ , لَيْسَ لَهَا وُجْهَةٌ اتَّفَقَ عَلِيهَا رِاكِبَاهَا , وَإِنَّكَ لَتِجدُ الأَوَّلَ يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ فَيَنْقَادُ الآخَرَ تَابَعًا لَهُ حَتَّى يَأْنَفَ مِنْهُ فِي مَشَقَّةِ مَذْهَبِهِ , فِإِذَا مَا بَلَغَتْ أَنَفَتُهُ الضَّجَرَ ارْتَدَّ إِلَى وُجْهَتِهِ فَانْعَطَفَ الأَوَّلُ فِي غَيْظٍ يَتْبَعُهُ , وَمَا يَزَالانِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَقْضِيَ الرَّاحِلَةُ رِحْلَتَهَا وَفِي مَتَاعِهَا بَقِيَّةٌ مِنْ مَدَدٍ .
مَا أَكْثَرَ الرَّوَاحِلَ دُونَ بُلْغَةٍ هُدِيَتْ إِلَيهَا فَلَمْ تَهْتَدِ , وَمَا أَظْهَرَ وَأَقَرَّ لِلْعَينِ مِنْ هَذِهِ البُلْغَةِ , لَكِنْهَا رَوَاحِلُ تَسِيرُ مُتَلَفِّتَةً عَنْ جَادَّةٍ الطَّرِيقِ إِلَى نَوَاحِيهِ التِي تَغْرِيهِا بِمَا فِيهَا مِنْ جِنَانٍ مُؤْتَلِفَةٍ , وَمَنَافِذَ مُخْتَلِفَةٍ , فَمَتَى مَا قَرَّتْ بِعَينِهَا جَنَّةٌ مَالَتْ إِلَيْهَا وَقَالَتْ نُقِيمُ هُنَا لَعَلَّها بُلْغَتُنَا , فَإِذَا رَتَعَتْ وَرَغِدَتْ زَمَنًا وَاعْتَادَتْ فَمَلَّتْ وَقَدْ نَفِدَتْ ثِمَارُ الجَنَّةٍ وَفَسُدَتْ , قَالَتْ بارَتْ وَمَا بِهَا مِنْ نَاضِجٍ يُشْتَهَى وَلا جَدِيدٍ بِهِ يُلْتَهَى , عَادَتْ إِلَى الجَادَةِ تُكْمِلُ مَسِيرَهَا فَمَا تَرَى جَنَّةً أُخْرَى إِلَّا َنَزَلَتْ فِيهَا فَأَفْسَدَتْهَا , وَهِيَ عَلَى دَأْبِهَا إِمَّا فِي الجَادِةِ جَادَّةً وَإِمَّاَ فِي جَنَّةٍ لاهيةً سَاهِيةً , حَتَّى يَحِينَ قَضَاءُ رِحْلَتِهَا .
مَا أَكْثَرَ هَذِهِ الرَّوَاحِلَ وَمَا وَأَبْهَى الجِنَانَ التِي تَمُرُّ خِلَالَهَا , والحِكْمَةُ فِي مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ سُلُوكِ جَادَّةِ الطَرِيقِ السَّوِيِّ وَالتَّرَفٌّهِ بنَعِيمِ نَوَاحِيهَا , بَأَنْ يُقَوِّدَ رَاحِلَتَهُ بِقَلْبِهِ فَيُحْكِمَ المُنَاوَبَةَ فِي القِيادَةِ بِين العَقْلِ والنَّفْسِ ..