في نبوءاته الغنية بالشهرة عن التعريف، لم تخل عبارات الرجل الذي أثار جدلاً واسعاً في حياته وبعد مماته من الإشارة إلى ما تم تفسيره لاحقاً باحتمال وقوع حرب عالمية ثالثة مدمرة، تماماً كما أشارت كلماته في مواقع أخرى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وعلى رغم أن هذه الأحداث التي تكهن بوقوعها العرَّاف الفرنسي، مايكل دي نوستراداموس، في كتابه الذي طبع للمرة الأولى بعد وفاته بعامين سنة 1568 لم تكن الوحيدة التي صادفت الواقع، إلا أن الحديث عن نبوءته حول الحرب العالمية الثالثة، أخذت بعداً سياسياً مهماً في الآونة الأخيرة من جهات رسمية عدة في الولايات المتحدة، لعل آخرها ما جاء في محاضرة قائد القيادة الأميركية المركزية الجنرال جون أبي زيد قبل ثلاثة أيام، حين حذر في كلمةٍ له أمام حشد من أساتذة وطلاب جامعة هارفرد الأميركية من أن «العالم سيواجه حرباً عالميةً ثالثةً إذا لم يتم وقف تيار التشدد الإسلامي» بحسب وصفه.
الحديث الذي أعرب عنه الخبير العسكري الذي هاجر أجداده المسيحيون إلى الولايات المتحدة من الجنوب اللبناني قبل قرابة قرن من الزمان، بدا أقرب إلى كلام واعظ كنسي منه إلى خبير زادت خدمته العسكرية على ثلاثة عقود في الجيش الأميركي.
ويبدو أن الجنرال الأميركي استبدل قبعته العسكرية بأخرى دينية، حين قدم تحليلاً عسكرياً استراتيجياً مبنياً على رؤية دينية كنسية في محاولة تتوافق مع إشارات مماثلة عدة صدرت عن شخصيات سياسية ودينية غربية، منهم الرئيس الأميركي ذاته وآخرون.
وعلى رغم أن الخبير الذي بلغ الثانية والخمسين من عمره، تفادى الخطأ الذي وقع فيه قائده الأعلى للقوات المسلحة في التصريحات التي أثارت زوبعة من غضب المسلمين قبل ثلاثة أشهر، إلا انه ترك إشارات لا تحتمل التأويل في أن ما لَمَّح إليه، هو ذاته ما صرح به سيده.
وفي الوقت الذي خلت محاضرة الخبير العسكري من أي تحليل عسكري عن الأوضاع المضطربة في المنطقة التي تشرف عليها قيادته، شملت كلمة أبي زيد التي وضع لها عنوان «الحرب الطويلة» مقارنة بين ظهور الفاشية في أوروبا في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي التي مهدت لقيام الحرب العالمية الثانية، وظهور الأيديولوجيات الإسلامية المتشددة كـ «القاعدة» التي – إن لم تُقتل في مهدها - فستكون سبباً في قيام الحرب العالمية الثالثة بحسب زعمه.
وفي الوقت الذي لم يذكر فيه الرجل الذي يخضع لإمرته أكثر من ربع مليون جندي السبب الذي من أجله يريد «المتشددون» من المسلمين شن حرب على الولايات المتحدة والغرب، اكتفى باتهام أولئك المتشددين بأنهم يريدون قتال «الكفار»، وأن المعركة مع هؤلاء «الأصوليين» هي «أيديولوجية» في الأصل.
بيد أن الخبير العسكري الذي وُصِفَ يوم توليه زمام القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط بأنه الرجل الذي سيكسب القلوب والعقول في العالم العربي، لم يشرح بطريقة علمية عسكرية كيف يمكن لـ «المتطرفين» المسلمين مواجهة أعتى قوة عسكرية على وجه الأرض، في الوقت الذي لا يزال قادتهم يختفون في كهوف تبعد آلاف الأميال عن أتباعهم، وحيث الوسيلة الوحيدة للاتصال بالملايين من أتباعهم هي عبر أشرطة تذيعها فضائيات تخضع لرقابة الاستخبارات الأميركية في كل ما تذيعه.
وفي حين أطلق المسؤول العسكري الذي يحسن اللغة العربية، العنان لخيال مستمعيه، في معرفة الطريقة التي يستطيع بها هؤلاء «المتزمتون» الحصول على أصعب وأعقد تقنية عسكرية عرفها الإنسان، حدد هذا المفكر الأميركي المشكلات التي يواجهها العالم في الشرق الأوسط اليوم في: الصراع العربي - الإسرائيلي وإيران والتطرف الإسلامي.
وفي حين تجنب المحاضر ذِكرَ البيانات الرقمية المتعلقة بعدد وعدة «المجاهدين» الذين يريدون أن يفتتحوا «روما» ويقتحموا الغرب كما جاء في محاضرته التي ألقاها في الجامعة التي منحته درجة الماجستير، لم يتردد الخبير الأميركي في وضع سيناريوات للمستقبل بطريقة سطحية تتناسب مع تفكير الرجل الذي قد يكون مصيره قريباً من مصير وزيره الذي «ذهب مع الريح».
والواقع أن ما ذهب إليه المسؤول العسكري الأميركي المخضرم لم يعد مفاجئاً اليوم للمتابع لما يجري في ساحة الحرب الأيديولوجية بين الشرق والغرب، خصوصاً من أنصار المحافظين الجدد الذين اتخذوا من بعض النبوءات الدينية التي يؤمنون بها بَوصَلَةً تحدد رسم مسار خططهم السياسية والعسكرية.
من ذلك، ما جاء في نبوءات نوستراداموس من أن قائداً مسلماً معمماً أسمر البشرة سيقود «المحمديين» إلى حرب ضد أوروبا و «العالم الجديد» (أي الولايات المتحدة بالطبع). وأحسب أن في تصديق مثل هذا من السذاجة ما يكفي لرفض عقلانية أي إنسان، فضلاً عن قبول تحميله الاضطلاع بالمسؤولية الكبرى في اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية الحازمة.
ولقد وقع كثير من المصدقين لهذه النبوءات في تخبط مخجل، إذ رفض كثير من المتأولين قبول هذه النبوءة قبل عام 1980. وأما بعد ذلك فقد تعجل الكثير منهم في الإشارة إلى الإمام الخميني بأنه هو المقصود، حتى إذا طُوِيَ عهد الخميني ولمع نجم ابن لادن تغيرت أنظار هؤلاء من إيران إلى أفغانستان، ولو مات ابن لادن اليوم فسينتظر هؤلاء البديل المسلم غداً بفارغ الصبر!
وبمثل هذه العقلية بنى الخبير العسكري الأميركي تكهناته للمستقبل في دراسة غريبة في نوعها. ولكن الأغرب منها، أن زعم الجنرال الأميركي أبي زيد قد قوبل بالترحاب في جامعة تعد من أرقى المؤسسات التعليمية في العالم، وفي حضور نخبة من طلابها وأساتذتها!
ولعل هذا الموقف يذكرني بشخص التقيته في الولايات المتحدة في عام 1989 كان يزعم أنه «رسول الله» وأنه أتى بمعجزة الرقم «19» في فهم أسرار القرآن الكريم. واستطاع هذا «الرسول» أن يجمع حوله عدداً من غير العرب ممن لا تنقصهم المؤهلات العلمية العالية ممن آمنوا بـ «رسالته». ولكنه لما رأى أن العرب لم يؤمنوا بـ «رسالته»، وكان يؤمل عليهم كثيراً، أخبر أتباعه أن الله سيعاقب العرب بسر المعجزة رقم «19». وما هي إلا أشهر وإذا بصاحبنا يلقى ربه، ثم تتوالى أحداث غزو العراق للكويت، حتى إذا أعلن صدام ضم الكويت وجعلها المقاطعة رقم «19» إذا بأتباعه يزدادون إيماناً به وهم يستبشرون!
محمود المبارك
نقلاً عن جريد الحياة اللندنية
20/11/06//