أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 11

الموضوع: حقيقة العبادة عند الصوفية، الحج أنموذجا.

  1. #1
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي حقيقة العبادة عند الصوفية، الحج أنموذجا.

    ________________________________________
    حقيقة العبادة عند الصوفية، الحج أنموذجا.
    تعريف العبادة،
    إن كلمة العبادة في اللغة من تعبد، إذا تذلل، أو عبَّد الطريق وجعله معبدا، أي سالكا بكثرة الوطء عليه،.وطريق مُعبَّد إذا كان مذلّلا للسالكين، قاله الهَرَوِيّ، قال طرفة بن العبد في معلقته:
    تباري عتاقا ناجيات وأتبعت****وظيفا وظيفا فوق موْر معبد،(1)
    والمور الطريق، وبالمعبد الـمذلّل الـموطوء، والبعير المعبد: المهنوء بالقطران المذلل، ويقال للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: مُعَبَّد، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لمولاه. وتعدي الفعل بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف، نحو: عبدت الرجل ذللته، وعبدت الله ذللت له.
    قال الراغب في المفردات: العبوديّة: التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلّل. وفي القاموس المحيط: العبادة: الطاعة، وخطَّأ بعض المفسرين هذا، فقال: العبادة غاية التذلّل دون الطاعة، أما الطاعة فإنّها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أنّ العبدَ يطيعُ مولاه ولا يكون عابداً له؟ والكفّار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر. وتطلق العبادة أيضا على التقرب بالطاعة، (2) وعلى الدعاء، كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} (3) والتجريد، قاله ابن السكيت.
    فاللغويون وإن حاولوا النبش عن جذر الفعل ليستخرجوا معانيه، ويستقصوا حقائقه، فإنهم لم يعطوا الصورة الحقيقية لمدلول المصطلح، على عكس الصوفية في تحديدهم لدقائقه، وتبيينهم لمراتب اللفظ في تجسداته، فقد فرقوا بين العبادة والعبودية والعبدية، فجعلوا العبادة غاية التذلل للعوام، لأنها قيام بالفعل المطلوب شرعا، والعبودية أتم من العبادة، لأنها تذلل وتبرئ من الحول والقوة، وهي عبادة الخواص، والعبودة لخواص الخواص، لكمال معرفتهم بربهم حيث أتوا بما طلبه منهم، ورأوا أنفسهم قائمة به في عبودته، فهم يعبدونه به في مقام أحدية الفرق والجمع. قال أبو علي الدقاق _(4) العبادة لأصحاب المجاهدات، والعبودية لأرباب المكابدات، والعبودة صفة أهل المشاهدات، فمن لم يدخر عنه نفسه فهو صاحب عبادة، ومن لم يضن عليه بقلبه فهو صاحب عبودية، ومن لم يبخل عليه بروحه فهو صاحب عبودة.
    ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
    1- الطبري في تفسيره، عند قوله تعالى إياك نعبد.
    2- الماوردي في تفسيره، النكت والعيون، عند قوله تعالى إياك نعبد
    3- سورة غافر: آية 60.
    4- الرسالة القشيرية ص 197
    معنى العبادة
    إن العبادة في المصطلح الديني: هي ذلك الارتباط الحاصل بين الخالق والمخلوق، ويعبر عنه بالطاعة والخضوع والتذلل لله عز وجل، كما قال الجوهري وغيره، وهي أقصى غاية الخشوع والخضوع، كما قال الحافظ السبكي عليُّ بن عبد الكافي، وذكر ذلك الإِمام اللغوي مرتضى الزبيدي في شرح القاموس، والعبادة في بعدها المعنوي، نزهة القاصدين، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قُرَّةُ أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: " أرِحنا بها يا بلال " ولقد قال مخلوق في مخلوق:
    يا قوم ثاري عند أسمائي يعرفـه السامع والرائـي
    لا تدعنـي إلا بياعبدها فـإنـه أصدق أسمائـي (5)
    ويشترط في العبادة أن يكون عن اعتقاد بألوهية المعبود، حتى تكون عبادة حقيقية لله، ولا تتحقق في جوهرها إلا بالعمل الصالح المتمحض لله عز وجل، والتبري من الحول والطول والقوة، ولا يتم ذلك إلا بقطع العلائق عن الغير والأعواض، وترك كل ما سوى الله من الأغيار والأغراض، وتسليم التدبير لما جرى به التقدير، والإخلاص لله ظاهرا وباطنا على كل حال، مع توافر العلم الملازم للأمر إيجادا وتركا، يقول عز وجل {فاعلم أنه لا إله إلا الله}(6) فقدم العلم على العمل، وجعله مؤسسا عليه، قال الإمام الغزالي’: "لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود"… (7) ‏ولا بد من المحبة لله عز وجل، ودوام الشوق إليه، وتتحقق بحب ما يحب، وبغض ما يبغض، من غير زيادة ولا نقصان، قال ابن القيم الجوزية’: أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه،(8) وقال ابن كثير’: في تعريف العبادة: "هي عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف"،(9) فمحبة المعبود هي الباعث على العبادة، والدافع لممارسة التكليف، والطاعة والإتباع من مستلزماتها، وإذا أضاف العابد إلى هذا رؤية جمال الذات في تجلياتها، علم يقينا أنه هو المستوجب للعبادة حقيقة، والمستحق للطاعة غاية، لعموم سلطانه على الكون، ووسيع فضله على العالمين، وعظيم كرمه على الخلق أجمعين.
    والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع، والخنوع بأعلى مراتب الخنوع، مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، ولا يستوجبها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه وتعالى بأن يعبد، و لا يستحق بعضنا على بعض العبادة، كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، و تحسن الطاعة لغير الله تعالى، و لا تحسن العبادة لغيره. (10) يقول تعالى: {لا إله إلا أنا فاعبدون}(11) ومعنى ذلك، أن الذي يستحق العبادة من كان إلها، وليس هو إلا الله عز وجل، فالصوفية يستظهرون هذه المعاني في عبادتهم، ويقيمون جوهر العبادة امتثالا لأمره الأزلي، وتحقيقا للغاية التي من أجلها خلق الثقلين، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (12) صوفية لما عرفت هذه المقامات، ولا أدركتها الأذواق، يقول ابن عربي: قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، إعلم أن العبادة هي الذلة في اللغة، وهي ذاتية للعبد، لا يحتاج فيها إلى تكليف، وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقضاء الله لا يرد، ولا بد من أن يكون الخالق تعالى عين كل صورة يعبدها المخلوق، وكما أنه تعالى عين كل صورة معبودة، فكذا هو عين كل صورة عابدة، لأنه تعالى عين مفتقر إليه. (13) وهذه صورة أعلى للعبادة في أقدس معانيها، وأبعد مضامينها، فشرف العابد بمعبوده، ومرتبة العارف بمعروفه، وقل من يعبد الله بهذا الفهم البعيد، ويشعر بهذا المعنى العميق، ويحس بهذا المقام المحوز للصوفية، فالعبادة رغبة للخلق، وغاية الآدمين، والسرّ في ذلك كما قال ابن سينا (الفصل الخامس في المقالة السادسة من إلهيات الشفاء) هو أن كل فاعل يفعل فعلاً لغرض يناله وغاية يطلبها فهو ناقص، وكل ما ليس بناقص فهو لا يفعل فعلاً لغرض وغاية. فالحق سبحانه غني عن ما عداه، منزه عن شوب الافتقار إلى ما سواه، فغناه مطلق، وفضله مستحق، وهو قائم بذاته، لا يحتاج إلى غيره، بل الوجود موصوف بالاحتياج إليه، والعبد منعوت بالافتقار إلى تدبيره، قال الله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}(14) وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(15)
    وثمرات العبادة إنما ترجع إلى الشخص العابد، لا إلى المعبود، والتكليف إنما وضع لدرأ المفاسد ونيل الرغائب، قال تعالى:{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} (16)
    وقيمة العبادة بمقدار ما يلاحظ فيها، وآثارها تظهر بالتبع لما يدفع إليها، فإن كانت النية صادقة أسبلت على العبد أنوارها، وإن كانت مشوبة بفكر شيطاني عادت كبرا وفخرا على العابد.
    ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
    5- لطائف الإشارات القشيري، عند قوله تعالى إياك نعبد.
    6- محمد19
    7- تفسير الأسماء والصفات للبغدادي، مخطوط.
    8- مدارج السالكين، لابن القيم، 1/91.
    9- تفسير ابن كثير ج1 ص 27.
    10- مجمع البيان الطبرسي، عند قوله إياك نعبد بتصرف.11
    11- سورة الأنبياء /25
    12- الذاريات:56
    13- المسائل إلى علم المسائل تحقيق قاسم محمد عباس ص 32.
    14- يونس108
    15- (إبراهيم/8)
    16- فاطر15
    التصوف والعبادة
    إن العبادة ليست شعائر فارغة من المعنى، ولا حركات جوفاء لا تدل على قصد، بل العبادة عبارة عن حب مطلق، وشوق مفعم لرؤية الجمال، وقربة ينظر الصوفي فيها "إلى المعبود أولا وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فالعارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته"، (17)
    والحب عبادة مطلقة تستلزم شدة التوله والتعلق، وتتطلب فناء في المحبوب دون ما عداه، يقول أبو يزيد البسطامي: الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم،" ومستورون برغبتهم، يعنى بذلك رضي الله عنه، أن الجنة مخلوقة، بينما الحب صفة قائمة بذات الله تعالى، وكل من حجب بشيء مخلوق عن القديم فإنه خلو من كل فائدة، والعشاق محجوبون بعشقهم، لأن وجود العشق يقتضى المثنوية التي تتنافى مع التوحيد، وطريق أهل المحبة هو زمن الواحد للواحد. (18) وهذا تمام المعرفة.
    فالصوفي يعبد الله لذاته، ويطيعه في كل أحواله، "انتجازا لوعد ربه، وفرارا من دعوى رؤية حظه، واتباعا لما أحبه منه، وأذن له فيه، من طلبه لفضله وإحسانه وكرمه وامتنانه، (19) وقلبه لا يقبل أن يكون مسترقا لغيره، ولا مشتركا لما سواه، يقول الجنيد: إنك لن تكون على الحقيقة له عبدا وشيء مما دونه لك مسترق، وإنك لن تصل إلى صريح الحرية، وعليك من حقوق عبوديته(في شرح ابن عباد عبوديتك) بقية، (20) وقال ابن عطاء الله: ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا، وهولا يحب أن تكون لغيره عبدا. (21) فالحب الصراح غير معلول بما يرجوه العبد من فضله، وما يستمنحه من إنعامه، بل الحب الحقيقي هو الذي يبذل فيه الإنسان كليته من أجْل حِبِه من غير أن يستشعر حظا في حُبه، ولا رغبة في محبوبه، سواء كانت خوفا من نار، إن أمنها ترك العبادة، أو رجاء لجنة، إن نالها تخلى عن الطاعة، أو طلبا للسعادة والرفاهة، أو سعيا لتحقيق مكاسب الحياة، قال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة، أن تهب كلك لمن أحببته، حتى لا يبقى لك منك شيء، وقال ابن الفارض:
    مالي سوى روحي، وباذل روحه **في حب من يهواه ليس بمسرف
    فلئن رضيت بها فقد أسعـفتني **يا خيبة المســعى إذا لم تسعف. (22)
    وقال بعضهم:
    و ما أنا بالباغي عن الحب رشوة** ضعيف هوى يرجو عليه ثوابا.
    يقول الشيخ أبو طالب المكي,’ حاكيا عن أبي حازم المدني ’، أنه كان يقول: إني لأستحيي من ربي أن أعبده خوفا من العذاب، فأكون مثل عبد السوء، إن لم يخف لم يعمل، وأستحيي من ربي أن أعبده خوفا من العذاب، فأكون مثل عبد السوء إن لم يعط أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له"،(23) قال ابن عطاء الله: من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما قام بحق أوصافه".(24) وهذا الرجاء يعتبره الصوفية شهوة خفية إن قامت بالعمل أثرت فيه قوة وضعفا، فيزيد للفضل الممنوح، وينقص للخير الممنوع، قالت رابعة العدوية وهي إحدى المحبين كما قال أبو طالب المكي في إخلاص خاصة الخاصة:
    كلهم يعبدوك من خوف نار *** ويـرون النجاة حظا جزيلا
    أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا*** بقــصور ويشربوا سلسبيلا
    ليس لي في الجنان والنار حظ *** أنا لا أبــتغي بحبي بديلا(25)
    والمحبة مقامها شريف، (26) ومنارها منيف، وهي أصل الوجود،وغاية الحظ والنصيب، وأمل الراغب والطالب، ومنية الفقير والمريد، ولها أثر على المحب، وأوضاع خاصة على الراغب، يقول أحدهم:
    سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع
    كان أبو الحسن السري السقطي ينشد قائلا:
    ولما ادّعيت الحب قالت كذبتني فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
    فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
    وتنحلّ حتى لا يبقّي لك الهوى سوى مقلة تبكي بها أو تناجيا
    فالصوفي لا ينظر إلى غير الله، ولا يشتغل عنه بسواه، ولا يشتاق إلا إليه،ولا يتلذذ إلا بذكره، ولا يحصل له فرح إلا بإقباله عليه، ولا يصيبه حزن إلا بإعراضه عنه، ولا يتطلع إلى الخلق رغبة وإرادة، ولا يتصنع لهم تزينا وادهانا، ولا يكثرت بهم حضورا وفقدا، يقول ابن عطاء الله في الحكم: غيب نظر الخلق إليك بنظر الله إليك، وغب عن إقبالهم بشهود إقباله عليك. وإذا أقبل عليه، فلا يؤلمه هجر الناس له، ولا يقلقه إدبارهم عنه، ولا يسليه ما صادفه من مدح وثناء ومده، وما لاقاه من مداجاة ومداهنة، فالخلق عنده عوارض تفق في طريق مراده، وقواصم تهيض حناح سيره، قال ابن عطاء الله متى آلمك إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فان كان لا يقنعك علمه، فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم، قال إبراهيم التيمي: ما يقول الناس في، قال يقولون: مراء قال الآن طاب العمل. وكان سيدي عبد السلام بن مشيش يقول في دعائه: اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق علي، حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك، (27) وقال أحدهم: لا يكون الصوفي صوفيا حتى لا تقله أرض، ولا تظله سماء، ولا يكون له قبول عند الخلق، ويكون مرجعه في جميع أموره الحق. (28) فوجود الأذى من الخلق، ومصادفة التسلط منهم، مزية يحصل بها التطهير، وتكتمل بها دورة النضج عند الصوفي، لأن ذلك يفقده الأنس بهم، وترك الاعتماد عليهم، وعدم السكون إليهم، فتتحقق بذلك عبوديته لربه، فمن له بحصول ما أراده منهم، ونيل مارغبه فيهم، فأغراضهم مختلفة، وطباعهم متباينة، فربما استحسن من نفسه شيئا لم يستحسنه غيره، وربما أرضى شخصا بما لا يرضي الآخر، فهو يعمل بزعمه فيما ينفعه عند الناس، وساع فيما يضره عندهم وعند الله مع مقاساة التعب والنصب في نفسه. رأى سهل بن عبد الله رجلا من الفقهاء بمكة، فقال له شيئا، فقال له: يا أستاذ؟؟ لا أقدر على هذا من الناس، فالتفت سهل إلى أصحابه فقال لهم لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين، حتى يسقط من عينه فلا يرى في الدنيا إلا هو وخالقه، فإن أحدا لا يقدر أن يضره ولا ينفعه، أو تسقط نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه. (29)
    والمحبة صفة يترتب عنها الانقياد والطاعة، تقول رابعة العدوية:
    تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمـري في الفعال بديع
    لو كان حبك صادقا لأطعته إن المــحب لمن يحب يطيع
    قال أبو عمرو الزجاجي : سألت الجنيد عن المحبة, فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا, قال: تريد الدعوى؟ قلت: لا قال: فأي شئ تريد؟ قلت: عين المحبة. فقال: أن تحب ما يحب الله تعالى في عباده, وتكره ما يكره الله تعالى في عباده.(30)
    وهذه المعاني لن تحقق إلا إذا أحبنا الله عز وجل، وارتضانا في رحابه، وقربنا من حضرته، وجعلنا أهلا لمحبوبيته. يقول ابن القيم –رحمه الله- : "قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحلة بمكة أعزها الله تعالى -أيام الموسم – فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا :هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، نظر إليه بقلبه، أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد"(31)
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
    -17 البحر المديد لابن عجيبة عند قوله تعالى إياك نعبد.
    -18 كشف المحجوب للهجويري.
    -19 شرح ابن عباد على الحكم العطائية ص 71/ 1
    -20 شرح الشيخ عبد الله الشرقاوي على الحكم، هامش شرح ابن عباد للحكم، ص 38 ج 2
    -21الحكم العطائية
    -22 ديوان ابن الفارض63/2
    -23 ابن عباد 70/1
    -24 الحكم العطائية
    -25 إعانة الطالبين ج4/ص 338
    -26 محي الدين بن عربي: الحب والمحبة الإلهية، جمع وتأليف محمود محمود الغراب، الطبعة الثانية 1992، ص 13
    -27 ابن عباد ص 58 ج2
    -28ابن عباد ص 59 ج 2
    -29 ابن عباد ص 8/2.
    -30) د0 محمد احمد عبد القادر الحب الإلهي : الفكرة جذورها وامتدادها، المصدر : الفكر الإسلامي بين الابتداع والإبداع.
    -31 مدارج السالكين 18/3
    الرمز عند الصوفية
    إن فهم اللغة الصوفية التي وضعوها مفهوما لدلالات الخطاب الإلهي، واصطلاحا على معارفهم ، وتعبيرا عن مقاماتهم، يحتاج منا إلى أن نتجاوز حدود اللغة العادية، وضوابط المنطق، إلى قراءة تأويلية للغة الصوفية على أنها رموز على المعاني الباطنية، وإشارات للحقائق التي أراد الصوفية أن يعبروا عنها باللغة المعهودة، وحاولوا أن يصرحوا بما درجت عليه الألسنة من الألفاظ والعبارات، فالصوفي في تجربته الروحية الذاتية يرى بحدسه الباطني حقائق دقيقة يكابدها في طريق الوصول إلى الله، ويعالجها في مواجهة قواه النفسية والشيطانية، فيحاول أن ينحتها بمباني اللغة المعهودة، فتتأبى عليه أن تطاوع نظام اللغة في معانيها، فتأتي كلماته إشارات لرموز مفتوحة لا يعرف حقيقتها، ولا يعلم أذواقها إلا من تشاكلت مقاماتهم، وتقاربت معانيهم، فالباحث في دلالات الحقائق الباطنية، والمعاني المعنوية خصوصا في المجال العبادي، لا يكاد يواجه معنى من المعاني الظاهرة، حتى يكتشف معاني أخرى أعمق في الدلالة على المراد، وأفيد في تحقيق القصد، وحين نقوم بنظرة إلى هذه الحقائق المتناثرة، ندرك أن التصوف تجربة ذاتية ذوقية لا تتقيد بقيود العقل، ولا تشترك مع تجارب المتكلمين في مقولاتهم، ولا الفقهاء في نظرهم إلى الأحكام، ولا الفلاسفة في رؤيتهم إلى الألوهية والإنسان والكون، فتبقى التجربة الصوفية في المحصلة، جميلة في مبناها، فريدة من نوعها، تعتمد أولا الإحساس المباشر بواسطة العين المجردة، لتنتقل ثانيا إلى تركيب المعاني عقلا، ثم تترك هذه الأصداف لتخلص في الأخير إلى الجوهر الساكن في دولة القلب يقينا وصفاء، وشهودا وتفريدا. فتفسير ما هو وجداني وباطني من كلامهم بلغتنا العادية، وتطلعاتنا الذاتية، سيجعل كلامهم مشتبها يحتمل وجوها لن نفهمها بعدة المنطق التقليدي، والمعرفة العقلية، لأن "العقل وقوانينه مشترك بين الناس جميعا، أما التجارب الصوفية- الوجدانية- فلا تخص غيرهم"،(32)ومعنى هذا أن التجربة الصوفية ينبغي أن تفسر وتقرأ بمنطق آخر عاطفي وجداني، لأننا لسنا في مجال فيزيائي يعتمد على المعطيات الحسية، وهذا المنطق المفسر للتجربة الصوفية بما فيها من وضعية روحية وما فيها من أذواق وتلويحات وظواهر نفسية ووجودية على إثبات التمزق والوحدة المتوترة التي تستقطب الأطراف المتقابلة.(33) قال أحدهم في الرمز المشير إلى المعاني الباطنية:
    إذا نطقوا أعجزك مرمى رموزهم ***وإن سكتوا هيهات منك اتصاله(34)
    إن المتأمل في معاني الصوفية يجدها إما تعبيرا عن فهم للنصوص المقدسة، أو تعريفا بالمواجد والأحوال التي تعتريهم، وسأضرب مثالين لهذه الدقائق المشتهرة بين الصوفية على" أنها: عبارات غريبة، ظاهرها مستشفع، وباطنها صحيحٌ مستقيم،" (35) فالمثال الأول: في فهم النصوص المقدسة، ما ذكره ابن عربي (36) في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (38) فكلمة سُكَارى تعني السكر من نوم الغفلة، أو من خمور الهوى ومحبة الدنيا. وقال في قوله تعالى: {حتى تغتسلوا} أي: تتطهروا عن تلك الهيئة الحاصلة من الانجذاب إلى الجهة السفلية بماء التوبة والاستغفار وعيون التنصل والاعتذار {وإن كنتم مرضى } القلوب، فاقدي سلامتها بأمراض العقائد الفاسدة والرذائل المهلكة { أو على سفر } في تَيْه الجهل والحيرة لطلب لذّة النفس ومادة الرجس بالحرص { أو جاء أحد منكم } من الاشتغال بلوث المال وكسب الحطام ملوّثاً بهيئة محبته وميله راسخة فيه تلك الهيئة { أو لامستم النساء } لازمتم النفوس وباشرتموها في لذاتها وشهواتها { فلم تجدوا ماء } علماً يهديكم إلى التفصي منها ويهذبكم بالتطهّر عنها { فتيمموا صعيداً طيباً } فتوجهوا صعيد استعدادكم الطيب، واقصدوه وارجعوا إلى أصل الاستعداد الفطريّ { فامْسَحوا } من نوره { بِوجُوهكم وأيديكُم } أي: ذواتكم الموجودة وصفاتكم بالنزول ومحو هيئات العلق بها، والتصرّف فيها، فإن ذلك التراب يمحو آثارها ويذرها صافية كما كانت. ويقول ابن عجيبة في شرح قول ابن عطاء الله، "أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنبات غفلاته"، (37) الحضرة مقدسة منزهة مرفعة لا يدخلها إلا المطهرون، فحرام على القلب الجنب أن يدخل مسجد الحضرة، وجنابة القلب غفلته عن ربه، قال تعالى :{ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}،(38) أي لا تقربوا صلاة الحضرة-القدسية في البحر المديد-، وأنتم سكارى بحب الدنيا-الدنية في البحر المديد- وشهود السوى، حتى تتيقظوا وتتدبروا ما تقولون في حضرة الملك، ولا جنبا من جماع الغفلة وشهود السوى - وفي البحر المديد في تفسير الآية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.- حتى تتطهروا بماء الغيب، الذي أشار إليه الحاتمي رضي الله عنه كما في الطبقات الشعرانية في ترجمة أبي المواهب بقوله:
    توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر***وإلا تيمم بالصعيد أو الصخر
    وقدم إماما كنت أنت إمامه***وصل صلاة الظهر في أول العصر
    هذه صلاة العارفين بربهم***فإن كنت منهم فانضح البر بالبحر
    يعني تطهر من شهود نفسك بماء الغيبة عنها بشهود ربك، أو تطهر من شهود الحس بشهود المعنى، أو تطهر من شهود عالم الشهادة بماء شهود عالم الغيب، أو تطهر من شهود السوى بماء العلم بالله، فإنه يغيب عنك ما سواه، وإذا تطهرت من شهود السوى، تطهرت من العيوب كلها. وقال في البحر المديد عند تفسير الآية: إن لم تقدر على الطهارة الأصلية، وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك من قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله: { وإن كنتم مرضى } بحب الهوى، { أو على سفر } في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الأزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، { إن الله كان عفوًا غفورًا } ، وفي الحِكَم: " كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟ ". فنحن نرى في النصين المنقولين عن علمين صوفيين ممن ألفوا في التفسير الإشاري، أن العبارة القرآنية وإن أتت بغرض ظاهري أصلي هو المقصود أصالة للصوفي وغيره- كما قال الزرقاني في مناهل العرفان-، فقد انتقلت من الدلالة الوضعية اللفظية إلى معان باطنية تستوحيها من وجدان العارف الصمداني، وتستلهمها من روحانية الولي، قال أبو العباس المرسي، صليت الصبح ذات يوم مع أبي الحسن الشاذلي، فقرأ سورة الشورى، فلما بلغ قوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما} [الشورى 49/50] وقع في نفسي شيء من ذلك المعنى، فلما سلم الشيخ من الصلاة إلتفت إلي وقال: ياأبا العباس، { يهب لمن يشاء إناثا} العبادات والمعاملات، {ويهب لمن يشاء الذكور} الأحوال والعلوم والمقامات، {أويزوجهم ذكرانا وإناثا} يجمع ذلك فيمن يشاء، { ويجعل من يشاء عقيما} بلا علم ولا عمل، فتعجب من ذلك. جامع أصول الأولياء 179وهذا كلام لا ينكر الظاهر ولا يعارضه، ولكنه توجيه جائز، وقد حدد العلماء لهذا النوع من التفسير ضوابط نذكرها استحسانا، -أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية، -أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض، -أن لا يكون تأويلاً سخيفاً بعيداً عن معنى الآية، -أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم، -أن لا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر،(39) وقد أجملها ابن القيم فقال :وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول :تفسير على اللفظ: وهو الذي ينحو إليه المتأخرون .وتفسير على المعنى: وهو الذي يذكره السلف .وتفسير على الإشارة والقياس: وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم.وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:أن لا يناقض معنى الآية.وأن يكون معنى صحيحا في نفسه .وأن يكون في اللفظ إشعار به. وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم. فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا. (40) فالكلام الإلهي يقتضى ظاهرا حكما إما بالأمر أو الترك، ويتضمن معاني مختزنة بإحدى أبعاده الأربعة، لا تستبعدها الألفاظ، ولا تستقبحها العقول، ولا تستهجنها النفوس، وهذا ما يسمى بروح النص، أوالمعنى الضمني الذي يقابله ظاهر النص المتحقق مناطُه بالإدراك العقلي الذي يعتمد قانون اللغة والمنطق. -وهذا هو الفقه بالمعنى العام- أما يتجلى للصوفي بروح النص من أسرار وإيماضات، ويطالعه من كشوف ومطالعات، فلا يمكن استكشاف أسراره العميقة، واقتناص مراميه البعيدة، إلا بواسطة فهم الدلالات التي وضعها الصوفية للمصطلحات المتداولة في دائرتهم، والمتكررة في حضرتهم، يقول ابن خلدون مفرقا بين علمي الفقه والتصوف قائلا: "وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهو الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات. وصنف مخصوص بالقوم –الصوفية- في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق، والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك" (41) فالتفسير الإشاري بهذا الفهم، يعطي للكلم دلالات عميقة تدل على معان أخرى لا تحصل إلا بالرياضة والمجاهدة، قال أحمد ابن الحواري: وسمعت شيخي أبا سليمان الدارني (رض) يقول: إذا اعتادت النفوس ترك الآثام، جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما، (42) قال ابن عجيبة فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم، وقليل ماهم، (43) فالصوفي لم يستغن بنفس المعنى القريب عن المعنى البعيد تعميقا للبحث عن أسرار يصل إليها أهل التغريد، فالصلاة في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء كما رأينا صرفت للفعل المخصوص شرعا، ودالة بروح التفسير على الحضرة القدسية، والسكر معروف فقها لغيبوبة العقل وتعطيله بالخمر، وعن طريق الإشارة على حب الدنيا والأغيار، والجنابة لها مدلول شرعي لمانع من عبادة الصلاة، ودخول المسجد، وهي بالرمز دليل غفلة القلب عن الله، وهذا الإدراك ذوقي في فهم لغة الشرع التي تشير إلى معان باطنية غير ظاهرة في المواضعات اللغوية، ويسمى هذا كما مر معنا بالمعجم الصوفي الذي ألف فيه كثير من الباحثين دراسات هامة تحاول أن تستقصي الإشارات الصوفية وتفهمها على أنها مدلولات توحي بومضات روحية تحتملها الألفاظ، وإشرقات قلبية تنسجم مع روح النصوص، فالرمز قد يلتجأ إليه الصوفي للتعبير عن المعنى المقذوف في القلب بالمحسوس، وهذا ما وضحه الغزالي في قوله :'' اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس''(44) ويقولون :'' نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة'' والإشارة لنا والعبارة لغيرنا "وهو أمر يعود '' إلى قصور اللغة الوضعية نفسها، إذ أنها لغة وضعية اصطلاحية تختص بالتعبير عن الأشياء المحسوسة والمعاني المعقولة، في حين أن المعاني الصوفية لا تدخل ضمن نطاق المحسوس. وقرر الغزالي ذلك الأمر أيضا•في قوله : '' لا يحاول معبر أن يعبر عنها (أي الحقيقة الصوفية)•إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكنه الاحتراز عنه''• فهل الأعمال رموز وإشارات لمعان أخرى مقصودة بالإدراك الباطني؟؟ أم هي وسائل لتحقيق العمل في ذاته بغض النظر عن معناه المخزون فيه؟؟ يقول بعضهم:
    ألا إن الرموز دليل صـــــدق على المعنى المخبأ في الفؤادِ
    المثال الثاني، إن التعبير الصوفي يحتاج إلى تأويل مبني على أساس تحسين الظن في هذا التراث المتحرر من سجن اللغة التجريبية، والخارج من أزمة المنطق التقليدي، إلى آفاق الحرية في التراكيب اللغوية والدلالية، وهذا ما سيعطي للباحثين عن فردوس الحقيقة أملا في كسب لحظات الانتشاء مع هذه الأقوال المصورة للحقائق الوجودية الكبرى بلغة تمتزج فيها الدلالة الوضعية بالدلالة الضمنية، يقول الحلاج مستعملا الدلالة الرمزية: إن الإنسان إذا أراد الحج، أفرد فى داره بيتاً، وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً، وكساهم قميصاً قميصاً، وعمل لهم طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك ، قام له ذلك مقام الحج. (45) فالحلاج وهو من الصوفية الأوائل الذين استخدموا الإشارات، قد استعمل هنا الرمز في معناه المعنوي، فقوله بالحج الروحي في النص المسوق أو الحج بالهمة، يؤسس نظريا لاستعماله للرمز الحسي في بعده المادي والمعنوي، وذلك حين ابتنى في بيته تمثالا للكعبة حتى يتذكر المسير الذي يجعله دائم الحضور مع الذات الإلهية في مشيئتها المطلقة، وقد أدى هذا التجسيد بثلة من المنتحلين لصفة الفقاهة إلى اعتباره مارقا مباح الدم، كما ذكر الخطيب البغدادي (46) ، لكن الدارس لتجليات التصوف عند الحلاج يدرك أنه كان مرتبطا بالله في حدود لا تقبلها عقليات أولئك الذين يرون الشعار،ولا يقرءون ما وراء الستار، يقول فيما ينفي عنه تهمة الإلحاد، من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية فقد كفر(47). وقال: إن معرفة الله هي توحيده، وتوحيده تميزه عن خلقه، وكل تصور في الأوهام فهو تعالى بخلافه، كيف يحل به، ما منه بدأ (48). ولنتأمل رمزية قوله على خشبة الصليب:
    ألا أبلغ أحبائي بأني**** ركبت البحر وانكسر السفينة
    على دين الصليب يكون موتي****فلا البطحا أريد ولا المدينة
    فهذا الكلام نسبه بعض القائلين بتكفيره إليه، ونفاه عنه آخرون اعتمادا على ما عرف به من صرافة عقيدته، ولطافة عبوديته، ومنهم من حاول أن يفهم رمزية هذا الكلام، وإشارته إلى الخلاص الذي يوجزه الصليب، فالحلاج في هذا المقام قد أفشى بعبارته سر التوحيد، فاستوجب القتل بفتوى القاضي أبي عمرو المالكي، يقول ابن الفارض: إنما قتل الحلاج لأنه باح بالسر، إذ شرط هذا التوحيد الكتم، فليس كل سر كما قال الإمام الغزالي في مشكاة الأنوار يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر، فتحقق الإنسان كما قال السرهندي بتلك الأسرار العرفانية هو كمال الإيمان، والتعبير عنها بعبارة كيفية عين الكفر والإلحاد، وهذه الأسرار هي أسرار الذات، وأنوار الصفات التي تجلى الحق بها في مظهر الأكوان، فمن لطف الله ورحمته كما ذكر سيدي أحمد بن عجيبة (49) أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله، ومن أفشاه لغير أهله، فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه، كما قال أبو مدين رضي الله عنه:
    وفي السر أسرار دقاق لطيفة***تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
    ولي حبيب عزيز لا أبوح به***أخشى فضيحة وجهي يوم ألقاه(50)
    ولعل الحلاج كان صريحا في عبارته التي اعتمدت الإشارة إلى بعض الخلجات المحصورة في قالب المعنى، و التورية عن بعض الحقائق السجينة في قفص العبارة، بينما حاول غيره ممن استعمل هذه اللغة الإشارية أن يزيل عنه هذه التهمة بالتعمية والتورية، كما ذكر عن أبي بكر الشبلي حين ادعى الجنون، ودخل المارستان، وهو يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله، وخلصني جنوني، فالحلاج كان ضحية اللغة الصوفية فقتل بفتوى علماء الظاهر كما ذكر ابن خلدون، وهو لم يرتكب جريمة يستحق عليها عقابا، والشبلي أنجته الحيلة من القتل، وأنقذته التقية من الحتف، لقد قتل الحلاج وهو يقول:
    اقتلوني ياثقاتي****إن في قتلي حياتي
    ومماتي في حياتي****وحياتي في مماتي
    إن عندي محو ذاتي****من أجل المكرمات
    فما هو موقف القاضي النزيه في زمن الحريات والحقوق، في مدعى عليه، يقول: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، فالله الله في دمي!!!؟؟ هل سيحكم ببراءته، أم سيدينه ؟؟ وهل التوري عن السر بلغة مشاكسة جريرة وجريمة؟؟ أم العجز عن فهم الآخرين هو الذنب والخطيئة؟؟ وهل الغاية من قتل الحلاج وصلبه وحرقه وذره في مياه دجلة أن يزال شره؟؟ أم هناك سر آخر لم يظهر لنا؟؟ أم الشريعة هي التي أمرت بذلك؟؟ أم قوانين الحرية لم تقنن في ذلك الزمن الأغبر المشئوم؟؟
    ومن ناحية أخرى، فإن القاعدة العامة في فهم كلام الناس، أن يسألوا أولا عنه، ثم يحصل الحكم عليهم ثانيا، حتى لا يقع القاضي- وهو المسئول الشرعي- في ما يوهمه الكلام من رأي قد لا يكون مقصودا للمتكلم، وإن كان في عبارته ما يدينه على حسب زعمهم، فقصارى الرأي في مثل هذا، أن الكلام المحتمل يجوز أن يفسر بالتأويل والظاهر، فمن أحسن الظن به عد صاحبه من طبقات الصوفية، ومن كانت عباراته تستوحي عنده ظلمة، قال فيه ما أوهمه النص من معنى يستسيغ به دمه، ويستبيح به عرضه.
    أهل الأحكام تعلل؟؟
    إن الإنسان المحدود في قواه العقلية، قد تخفى عليه بعض الحكم الموجهة للفعل، وتغيب عنه بعض الصور التي من أجلها شرع الأمر، فكما أخفى الحق سبحانه كثيرا من أسراره الكونية عن عيون الناس، لا يراها إلا الرسخون في العلم، كذلك أخفى حكما كثيرة لا يمكن رؤيتها إلا لذوي البصائر والتمييز، يقول أحدهم:
    وكم لله من سر خفي***يدق خفاه عن فهم الذكي
    قال الامام الغزالي في المنقذ من الضلال: إن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته، وكل مريض يقلد الطبيب فيما يصفه من دواء ولا يناقشه فيه. العبادة في الإسلام، للقرضاوي 208 فالحكمة ولو لم تظهر لا تمنع من مكابدة العمل، لأن "الأعمال العبادية لا يجوز أن تعلل في مجموعها، ولا يمكن للعقول أن تبلغ لكل الأفعال حقائق معانيها، فالهدف منها ولو لم يظهر للعيان، والنتيجة منها وإن لم تستوحها الأفهام، هو استفادة المكلف درساً تربوياً في العبودية الخاضعة، والعبادة الخاشعة لله سبحانه في محراب الحياة، لذلك يصدر التكليف من المولى في أغلب الأحيان ـ بأمر من الأمور، ويحيطه ببعض القيود والحدود التعبدية ليتمرن العبد على الخضوع والتعبد بامتثاله مع التقيد والتعبد بقيوده حتى وإن لم يعرف السر في أصل التكليف والإلزام بتلك القيود مع لزوم إيمان المكلف بحكمة الله سبحانه كما سبق، وأنه لذلك لا يشرع حكماً بلا غاية وحكمة، كما لا يخلق شيئاً بدون غرض وهدف . ولذلك لا يتوقف المؤمن عن الامتثال لمجرد عدم الاطلاع التفصيلي على الحكمة الخاصة في تشريع هذا الحكم أو ذاك"(51) فالأعمال ولو لم تظهر حكمتها ابتداء، فإن لها وجه اعتبار توحي به صورة العمل كما تتجلى في ظاهرها، ولا يصل إلى هذا إلا الصوفية الذين تجاوزا سقف المحسوس، وأسقطوا الارتباط بهيكل العمل، وانحاشوا إلى معان تشرق عليهم بواسطة المعراج الروحي، ويدل على هذا سؤال فتاة للجنيد، وهو يعاتبها عن إنشاد شعر في الحب وهي تطوف، فقالت له: أتطوف بالبيت، أم برب البيت؟؟ فرد بأنه يطوف بالبيت، فقالت له الجارية:
    يطوفون بالأحجار يبغون قربة******إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر.
    ثم غشي على الجنيد فأدرك أن التوجه لا يكون للكعبة وإنما لرب الكعبة،(52) فهذه الحقيقة هي التي جعلت الفارق متسعا بين العرفانيين وغيرهم، فالعرفاء يتجهون على المثال إلى رب البيت، لقوله تعالى فليعبدوا رب هذا البيت، وغيرهم يتجهون لذات الكعبة، ويتعلقون بالأستار والجدران، ويطنون أن الله تجسد فيها، والفرق فيما بينهما هو مابين المادة والمعنى، فهل نتصور فرقا فيما بينهما، أم لا؟؟؟ويرحم الله رابعة العدوية حين قالت: (هذا الصنم المعبود في الأرض، وإنه ما ولجه الله، ولا خلا منه؟) (53) فقولها ما ولجه الله، يقتضي عدم التحيز والمادية، وقولها ما خلا منه، أي أنه موجود في كل شيء وقبله وبعده، وهذا القول وإن كان يفهم منه هذا المعنى الدقيق، فإن المقصود منه عندي، هو تصحيح لعبادة العوام الذين يعبدون الكعبة، وينسون عظمة رب البيت، ويعظمون الحجر الأسود، ويغفلون عن سر التقبيل، ويشهدون الأركان والمطاف، ويتركون سر الحق في دورة الكون حول المقام.
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -32آفاق الأساليب الصوفية، أحمد عبد الرحيم السايح.
    -33 مجلة الإشارة عدد 28 مع مقاربات التصوف وقفة مع المقاربة اللغوية – المصطلحية.
    -34 المعرفة الصوفية "دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة" ناجي حسين جودة، ص .129
    -35 الحَلاَّجُ ومُحَاوَلَةُ تَفْجِيرِ اللُّغَةِ، يوسف زيدان-مقال-.
    -36 عند تفسيره للآية43 من سورة النساء.
    -37 إيقاظ الهمم، ابن عجيبة ص36
    -38 النساء43
    -39 مناهل العرفان،594/1
    -40) التبيان في أقسام القرآن 50/1
    =41 آفاق الأساليب الصوفية، أحمد عبد الرحيم السايح.
    -42 إيقاظ الهمم، ص39
    -43 إيقاظ الهمم، ص 93
    -44 مجلة الإشارة عدد 28 مع مقاربات التصوف وقفة مع المقاربة اللغوية – المصطلحية.
    -45 سير أعلام النبلاء 14/341
    -46 في تاريخ بغداد ج 8/129
    -47 أخبار الحلاج، ابن باكويه، ص 47
    -48 المرجع السابق ، ص 31
    -49 إيقاظ الهمم ص 156
    -50 إيقاظ الهمم، ص 39
    -51 فلسَفة الحجّ في الإسلام،الشيخ حسن طراد، ص 92
    -52 محاضرة الأبرار، ابن عربي، ج1 ص 322.
    -53 رابعة العدوية، ص 58 عبد الرزاق سعاد، شطحات الصوفية ص 26 د. عبد الرحمن بدوي.
    أسرار الحج
    سأقوم هنا باستعراض بعض الحقائق الباطنية لركن الحج الذي هو أهم ركن تتجلى فيه الحقائق الصوفية منصهرة في أفعال يؤديها الحاج بين زمان ومكان مخصوص، بطرق ووسائل مخصوصة.
    فما هو الحج؟؟
    تعريف الحج هو القَصْد؛ : إلى الله بشرط التبري عن جميع ما سواه، فَقَصْدٌ إلى بيت الحق، وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص. (54) قال ابن عربي في الفتوحات المكية***: الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود، تكرار القصد في زمان مخصوص للحج الواجب والنفل، ويقال رجل محجوج، أي مقصود، وهو بالفتح قياسا، وبالكسر وهو الأكثر سماعا، واللغتان أيضا في الحجة، وقيل بالفتح هو المصدر، وبالكسر هو الاسم، وقيل الاسم بهما معا، ويترتب عن هذا أن من فتح وجب عليه أن يقصد البيت ليفعل ما أمره الله به أن يفعله عند الوصول إليه في المناسك التي عين الله له أن يفعلها، ومن قرأ بالكسر وأراد الاسم فمعناه أن يراعي قصد البيت، فيقصد ما يقصده البيت، وبينهما من الناحية العرفانية كما قال ابن عربي في الفتوحات المكية، بون بعيد، فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت، وبكسرها يقصد قصد البيت، فيقوم في الكسر مقام البيت، ويقوم في الفتح مقام خادم البيت، فيكون حال العبد في حجه بحسب ما يقيمه فيه الحق من الشهود، ويقال: الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه: فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام. (55) والحج واجب على كل مستطيع مكلف شرعا، ووردت النصوص القرآنية والحديثية في تأكيد وجوبه على أفراد الأمة إيجابا مقيدا بالاستطاعة والحرية والأهلية الشرعية- التكليف- وهو على الفور مرة في العمر. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}(55) فالحق لم يخاطب الله عباده في شيء من العبادات بأن لله عليهم كذا إلا الحج، وفيه فوائد: إحداها: أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج فأخرجه بهذا الاسم. وقيل: هى عبادة يكثر فيها التعب والنصب على مباشرتها فأخرجه بهذا الاسم ليكون عونًا له على ما تباشره لعلمه أنه يؤدى ما لله عليه في ذلك. وقيل: لما كان فيه الإشارات القيمة من تجريد ووقوف وغيرة، قال الله تعالى: عليك لتهيئ باطنك للموقف الأكبر كما هيأت ظاهرك لهذا الموقف.
    وفى الحج إشاراتٌ قيل: إنَّ رجلاً جاء إلى الشبلي فقال له: إلى أين؟ قال: إلى الحج، قال: هات غرارتين فاملأهما رحمة، واكبسهما، وجئ بهما لتكون حظنا من الحج، نعرضُها على من حضر، ونحيى بها من زار، قال: فخرجت من عنده فلما رجعت قال لى: أحججت؟ قلت: نعم، قال لي: أي شيء عملت؟ قلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت، فقال لي: عقدت به الحج؟ قلت: نعم، قال: أفَسَختَ بعقدك كل عقدٍ عقدت منذ خُلِقت مما يضاد هذا العقد، قلت: لا، قال: فما عقدت، قال: ثم نزعت ثيابك؟ قلت: نعم، قال: تجردت عن كل فعل فعلته؟ قلت: لا، قال: ما نزعت قال: ثم تطهرت؟ قلت: نعم. قال: أزلت عنك كل علةٍ بطهرك؟ قلت: لا. قال: ما تطهرت قال: ثم لبيت؟ قلت: نعم. قال: وجدت جواب التلبية مثلاً بمثلٍ؟ قلت: لا. قال: ما لبيت. قال: ثم دخلت الحرم؟ قلت: نعم، قال: عقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا، قال: ما دخلت الحرم. قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم، قال: أشرف عليك من الله حالٌ بإشرافك؟ قلت: لا، قال: ما أشرفت على مكة. قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: دخلت فى قربه من حيث علمته؟ قلت: لا، قال: ما دخلت المسجد. قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم، قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الكعبة. قال: رملت ثلاثًا ومشيت أربعًا؟ قلت: نعم. قال: هربت من الدنيا هربًا علمت أنك به فاصلتها، وانقطعت عنها ووجدت بمشيك الأربع أمنًا مما هربت منه فازددت لله شكرًا لذاك؟ قلت: لا. قال: فما انقطعت. قال: أصافحت الحجر؟ قلت: نعم، قال: ويلك قيل من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافحه فهو في محل الأمن، أظهر عليك أثر الأمن؟ قلت: لا. قال: ما صافحت الحجر. قال: أصليت ركعتين بعدها؟ قلت: نعم، قال: وقفت الوقفة بين يدى الله جل وعز، ووقفت على مكانك من ذلك وأديت قصدك؟ قلت: لا. قال: ما صليت. قال خرجت إلى الصفا ووقفت بها؟ قلت: نعم. قال: أي شيء عملت؟ قلت: كبرت عليها. قال هل صفا سرك بصعودك على الصفا، وصَغُرَ في عينيك الأكوان بتكبيرك ربك؟ قلت: لا. قال: ما صعدت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت نعم. قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا، قال: ما هرولت ولا سعيت. قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم. قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت على المروة؟ قلت: لا. قال: لم تقف على المروة. قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم. قال: أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا. قال: ما خرجت إلى منى. قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم. قال: هل تجدّد عليك خوف بدخولك مسجد الخيف؟ قلت: لا قال: ما دخلته. قال مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم. قال: عرفت الحال التي خلقت لها والحال التي تصير إليها؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرًا له؟ وهل تعرَّف الحق إليك بشيء مما تعرَّف به إلى خواصه؟ قلت: لا. قال ما مضيت إلى عرفات. قال أنفدت إلى المشعر؟ قلت: نعم. قال: ذكرت الله فيه ذكرًا أنساك فيه ذكر من سِواه؟ وهل شعرت بماذا أجبت وبماذا خوطبت؟ قلت: لا. قال: ما نفدت إلى المشعر. قال: ذبحت؟ قلت: نعم. قال: أفنيت شهواتك وإرادتك في رضا الحق؟ قلت: لا. قال: ما ذبحت. قال: رميت؟ قلت: رميت جهلك منك بزيادة علم طهر علمك. قلت: لا. قال: ما رميت. قال: زرت؟ قلت: نعم. قال: كوشفت شيئًا من الحقائق، أو رأيت زيادة الكرامات عليك للزيارة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الحاجُّ والعمَّار زوار الله حقٌّ على المزور أن يكرم زائره ". (56)قلت: لا. قال: ما زرت قال: أحللت؟ قلت: نعم. قال: عزمت على أكل الحلال؟ قلت: لا. قال: ما أحللت. قال: ودَّعت؟ قلت: نعم. قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا. قال: ما ودَّعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك.(57)
    والحج عند الصوفية، هو استجابة وتلبية لنداء الاسم الذي يقبل من العبد طاعته وعصيانه، وليس موجها من حقيقته التي لا يمكن رفض أوامرها، فالنداء إما أن يراعى فيه توجيهه من عين الذات التي هي عينك، كما قال ابن عربي في الفتوحات، أو من عين الصفة، فيكون الخطاب في الأول حقيقة الذات، ويقتضي الخضوع بدون عرض خارجي، وفي الثاني تكون الإجابة من كونه عز وجل متكلما، ويستلزم وجوب الفعل على السامع لكونه مأمورا بالإتباع، وهذا فرق فيما بين درجات العارفين في اعتبار الأمر الإلهي، فالسابقون رأوا الأمر ذاتا، واللاحقون رأوه صفة، فتعددت طرق التزامهم بالفعل إيجادا وعدما.
    وصية، أن يحرص الحاج على أن يرجع بمعرفة الله عز وجل، تلك المعرفة التي توصله إلى ملكوت هذه الآية : " ألم يعلم بأن الله يرى " لا أن يرجع بمشاهدة الأطلال والمغاني. أن ييأس من الخلق تحقيقا لمظهر عظمة الذات، أن يجلي مرآته عن صور الأكوان المنطبعة فيها بمظاهر الأسماء الإلهية وتجلياتها.
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -54 القشيري، لطائف الإشارات عند الآية 196 من سورة البقرة
    ***لن أتمكن من الإحالة على جميع الصفحات من الفتوحات المكية لابن عربي، وسأكتفي بالتنبيه على بعضها مما تيسر لي، وأذكر الإخوة بأن النسخة التي اعتمدتها مملوكة لدار الحديث الحسنية الرباط، وهي مطبوعة بدار الفكر بتقديم الدكتور محمود مطرجي، ويمكن للقارئ أن يعود إلى هذه النسخة أو مثيلها من الصفحة 532 إلى 708 من الجزء الثاني.
    -55 لطائف الإشارات عند قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. آل عمران 97
    -56 فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حيان في صحيحيهما , ولفظهما : وفد الله ثلاثة الحاج والمعتمر والغازي .
    -57 حقائق التفسير للسلمي عند قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت...

  2. #2
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الاستطاعة.
    والاستطاعة هي إمكان الوصول مع الأمن كيفما تيسر،(56) وفسرت الاستطاعة بأنها الزاد والراحلة، لما روى الترمذي عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال أبو عيسى هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج وإبراهيم، هو بن يزيد الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، قال أبو القاسم‏:‏ ومن ملك زادا وراحلة‏, وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة، وقيل، بأن الاستطاعة كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ كما في تفسير الثعالبي، وقيل بأن الاستطاعة -فقها وعرفانا- فنون؛ فمستطيع بنفسه ومَالِه، وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره، وهو الزَّمِنُ المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه، وهو مستطيع بربه، وهذا نعت كل مخلص مستحق، فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا. (57)....
    فالراحلة في التصوف رمز للجسم الذي هو مركب الروح، والزاد هو كل ما يؤدي وظيفة السكون والهدوء في حياة الإنسان، وينزع عن الذات حجب الألم والشقاء، ويرص الطريق أمامه للوصول إلى الهدف المرجوِّ بقوة العزم، وصلابة الموقف. والزاد الواجب في الرحلة ما ذكره الحق سبحانه في قوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (58) "فالتزود هو إعداد الزاد، أي الطعام الذي يحمله المسافر لأجل سفره، والتزود هنا استعارة للاستكثار من فعل الخير استعدادًا ليوم الجزاء، شُبِّه بإعداد المسافر الزاد لسفره، من باب إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت" والمقصود " اجعلوا زادكم لمعادكم وآخرتكم اتقاء القبائح { فإن خير الزاد التقوى } لا ما يتخذ من الطعام، وتحقيق الكلام أن الإنسان له سفران، سفر في الدنيا، وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد له أيضا من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه بالاشتغال في طاعته، والاجتناب عن مخالفته ومناهيه، وهذا الزاد خير من زاد المسافر في الدنيا، لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم، وزاد الدنيا فان، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة.(59) ، وقوله تعالى: وتزودوا "حث على الخير عقيب النهي عن الشر، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى؛ ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. أوجعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، وينصره قوله تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها (60). يقول الإمام الغزالي في الإحياء في بيان الأعمال الباطنية في الحج: فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى، وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت ويخونه، فلا يبقى معه كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر فيبقى وقت الحاجة متحيرا محتاجا لا حيلة له، فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت، بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير.. (61). ويقول في الراحلة: وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يحمل عليها، فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة، ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لأن يكون زادا له لذلك السفر على ذلك المركب؟ فما أقرب ذلك منه، وما يدريه لعل الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل، وركوب الجنازة مقطوع به، وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه، ويستظهر في زاده وراحلته، ويهمل أمر السفر المستيقن؟؟(61)
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -56 أسهل المدارك، شرح إرشاد السالك، في فقه إمام الأئمة مالك، الكشناوي ص442/ 1
    -57 لطائف الإشارات القشيري عند قوله ولله على الناس حج البيت.
    -58 سورة البقرة 197
    -59 روح البيان، حقي، عند تفسير الآية197 من سورة البقرة
    -60 الزمخشري في التفسير، عند تفسير الآية 197من سورة البقرة
    -61 الإحياء 316/1

  3. #3
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    المواقيت.
    الميقات زماني: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، (62)
    الميقات، ما حدد ووقت للعبادة من زمان ومكان، والميقات من الوقت***، والوقت ما حضرك في الحال، فان كان من تصرفات الحق، فعليك الرضا والاستسلام، وان كان مما يتعلق بكسبك فالزم ما أهمك لا تعلق لك بالماضي والمستقبل، فان تدارك الماضي تضييع للوقت، وكذا فيما يستقبل، فإنه عسى أن لا تشغله وقد فاتك الوقت، (63) فالصوفي ابن وقته، مشتغل بما هو أولى به في الحال ، لا يدبر أمرا، ولا يصرف نهيا، فهو ريشة في مهب الرضا، ومسافر في فضاء اليقين، مستسلم لما يبدو له من الغيب من غير اختياره، ووقت الصوفي ما به قيام حاله سكرا وصحوا، وقبضا وبسطا، قال أبو علي الدقاق، وقتك ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا، فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى، فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور، فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن، فوقتك الحزن."(63) وإن كنت واقفا بالحل، فوقتك الحل، وإن فررت إلى الحق عملا بقوله تعالى: {ففروا إلى الله}(64) فوقتك الحرم، والفاصل بين حله وحرمه، ما يستشعره من تنقل من وقت إلى وقت، ومن حال إلى حال، وهو يطوي مغارب ألطاف العقل، ومشارق أنوار شمس التجلي، لينسحق في صفاء الأحدية، وقيل الكيس من كان بحكم وقته، فإن كان وقته الصحو، فقيامه بالشريعة، وإن كان وقته المحو، فالغالب عليه أحكام الحقيقة. (63)
    قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج}(65) قال القشيري(66) مواقيت لأهل القصة في تفاوت أحوالهم؛ فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهي لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم:
    أعد الليالي ليلة بعد ليلة***وقد كنت قدما لا أعد الليالي
    وقال النصرآباذى: وقَّت الله عز وجل العبادات بأوقات ليتأهب العبد لها قبل أوقاتها بالآداب الظاهرة، ولم يوقت المعرفة بوقتٍ لئلا يخلي العبد سره عن مراقبة المشاهدة بحالٍ. (67) فمعاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، وحج القلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا:
    لولا شهود جمالكم في ذاتي***ما كنت أرضى ساعة بحياتي
    ما ليلة القدر المعظم شانها***إلا إذا عَمَرَت بكم أوقاتي
    إن المحب إذا تمكن في الهوى***والحب لم يحتج إلى ميقات
    وقال آخر:
    كل وقت من حبيبي***قدره كألف حجة
    فاز من خلى الشواغل*** ولمولاه توجه(68)
    والميقات له سلطة معينة لا يمكن تجاوزها، كأوقات الصلاة لا يجوز تعديها، وكذلك حدود الله العادلة في الأرض، لا يحل قطعها حياء من كونها علما على أسماء ذاته. قال ابن عربي(69): { يسئلونك عن الأَهِلة } أي: عن الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها { قل هي مواقيت للناس } أي: أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك، وطواف بيت القلب، والوقوف في مقام المعرفة.
    لا يستوهب سوى الأدب مع طلائع النور التي تهب عليه من بطحاء الحضرة، وتنسم عليه من حطيم الإرادة،
    الزمان، أحدي بمعنى الكثرة، لا أصل له ولا نهاية، فهو إما فوق الطبيعة، أوما تحت الطبيعة، فالذي نحس به وندركه ونعده بالحقب نسبي، و*أثر للشأن الإلهي الذي اقتضاه التجلي الحاكم على الوجود بالتغير، وهو معنى قوله: {كل يوم هو في شان}(70) كما قال عبد الكريم الجيلي،(71/1) * والذي لا نشعر به، هو الحقيقي الذي لا نهاية له، فهو أزلي أبدي سرمدي لا يقاس بالحركة والسكون، مضاف إلى الحضرة العندية، لما في الأثر، ليس عند ربك صباح ولا مساء، (71/2) وروي عن ابن عيينة أنه قال: الدهر عند الله يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه: الأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه: الجزاء والحساب.البحر المديد تفسير الآية 29 من سورة الرحمن. وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه وتعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، فاسأل العآدّين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون}(72) "فالزمن كرة من نار، تحرق منك الأنامل ليستيقظ الوعي، وإذا بك أمام هول الحقيقة، حقيقة الزمن، حيث تجد نفسك ريشة في مهب الوجود". (73)
    المكان، إن المرور عبر هذه النقاط الأرضية يذكرنا بمرورنا النسبي في هذه الحياة، ويبين لنا أن اللقاء الحقيقي مع الحق، لا يتم إلا عبر معالم نصبها الله عز وجل للدلالة عليه، وينبهنا إلى أن الدخول في حرم حضرة الله لا يمكن إلا بالتجرد من كل علائق الأرض، والتخلص من عناصر الطبيعة، وحجب الكثرة، وعوارض الوحدة، فلا بد للمريد الصادق أن ينطلق من حِل ذاته إلى حرم الله عز وجل، عبر سلسلة من الوسائل يجتاز بها بساط الزمان والمكان. فالزمن والمكان مخلوقان، والمكان يقع بين زمانين، زمن الخلق، وهو الزمن الذي تنزل من الزمن المطلق الذي يشير إلى غيب الغيوب "الله خالق هذا الكون" ، والزمن المعاش "الحادث" وهو الزمن الإنساني الذي أحدثته حركة الأجرام السماوية والأرض التي نعيش فيها. (74) ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -62 شرح إرشاد السالك، في فقه إمام الأئمة مالك، الكشناوي ص449/1
    -63 جامع أصول الأولياء، أحمد الكمشخانوي النقشبندي 163 / 367والفرق بين الوقت والمدة والزمان، أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة إلى الماضي والحال والمستقبل، والوقت الزمان المفروض لأمر، روح البيان، حقي عند تفسيره للآية 189 من سورة البقرة.
    -64 الآية 50 سورة الذاريات.
    -65 الآية 189من سورة البقرة.
    -66 لطائف الإشارات، عند تفسير الآية 189 من سورة البقرة.
    -67 حقائق التفسير للسلمي عند تفسير الآية 197من سورة البقرة
    -68 البحر المديد، ابن عجيبة عند تفسير الآية 197من سورة البقرة.
    -69 تفسير ابن عربي.
    -70 سورة الرحمن الآية 29
    -71 الإنسان الكامل، عبد الكريم الجيلي، 105/106 ج 1
    -(71/2) جامع الأصول في الأولياء، أحمد النقشبندي الخالدي تحقيق، أحمد فريد المزايدي، ص 118.
    -72 الآية 112/113 سورة المؤمنون.
    -73 قطار ولا محطة، أمين البرت الريحاني بيروت: دار نلسن، 2006، 199 صفحة
    -74 عادل محمود أحمد الأمين، ميتافيزيقيا الزمان والمكان. مجلة أفق.
    أركان الحج.
    أركان الإسلام أربعة، الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، (75)
    فالاغتسال لإرادة دخول الحرم، وهو باطنا غسل الذات لتقبل بجمعيتها على القدوس، وتطهير القلب بالتوبة عن كل ما سوى الحق سبحانه، قال ابن عربي في الفتوحات: فلا تدخل عليه إلا بصفته، وهي الطهارة، كما لم تدخل عليه إلا بأمره، وطهارة الظاهر انعكاس في الغالب لطهارة الباطن. يقول العارف سعيد القمي ولكل باطن سلطنة على الظاهر بالتربية والتدبير (76) ويقول أيضا،(77) فالوافد إلى الله ينبغي له إذا أراد دخول الباب، أن يقف على الأُسكفة، ويقيم على العتبة، فيستأذن من صاحب الباب، بأن يتأهب للدخول بالطهارة عن الأوساخ المكتسبة في دار البعد والغرور، والنظافة عن الألواث الموجبة للطرد والحرمات عن دار السرور، وبالتشبه بمن جاور الحضرة، وأقام نفسه بالخدمة بالموت عن كل شيء، ورفض ما سوى المحبوب من كل ضوء وفيء. فكذلك جرت السنة هنا بالغسل ولبس ثياب الإحرام.
    والعبد مأمور في الحج بأغسال عديدة، عند الإحرام والميقات، وعند دخول المسجد الحرام ... وكأنه يريد أن يجدد التوبة دائما، ليلتقي بمحبوبه خاليا من كل وضر، و"الاغتسال يكون بماء القربة والإنابة وصدق الطلب وحسن الإرادة وخلوص النية من جنابة ملابسة الدنيا وشهواتها"(78) التي يحصل بها طهارة الجنان، ويغيب المتطهر بها عن رؤية الأكوان.
    والتجرد أول خطوة يخطوها الحاج أو المعتمر على درب التعبد لله سبحانه بهذه الفريضة المقدسة، وهو نوع من التجريد الذي يعني به عند أبي يزيد البسطامي، إماطة السوى والكون من القلب والسر، (79) والتجرد يكون من المخيط والمحيط حسا، وهو خلع لأسمال المعصية ذوقا، ولُبس لتاج الطاعة معنى، وإبعاد للتركيب المُعلِم بالنقص حالا، وتشبه بالكمال في المفرد المطلق مقاما، يحكى السراج الطوسى (ت : 378هـ) آداب الصوفية فى الإحرام فيقول : ( وإذا نزعوا ثيابهم للإحرام ، وتجردوا وحلو العقد واتزروا وارتدوا كذلك نزعوا عن أسرارهم الغل والحسد ، وحلوا عن قلوبهم عقد الهوى ومحبة الدنيا ولم يعودوا إلى ما خرجوا منه من ذلك )(80) والسبب في هذا كما قال ابن عربي في الفتوحات: أن الحجاج وفد الله دعاهم الحق إلى بيته، وما دعاهم إليه سبحانه بمفارقة الأهل والوطن والعيش الترف، وحلاهم بحلية الشعث والغبرة، إلا ابتلاء ليريهم من وقف مع عبوديته ممن لم يقف، وإنما أمر الرجل بالتجرد دون المرأة لكونه وإن كان مركبا فهو بسيط، فأبقاه الله على أصل بساطته في الإحرام، لأن الثوب وإن كان منسوجا فهو بسيط لكونه غير مخيط، وكل مركب فهو في حكم الانفصال، والمرأة كثيفة ومركبة حقة، لأنها جزء من الكل الذي هو الرجل، فأبقيت أيضا على أصل تركيبها، وإن كان هذا الافتراق في بعض الحيثيات لا يمنع الاشتراك في الأمور الكبيرة، والرداء والإزار يذكران العبد بإحرام الله عز وجل، الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي، (81) يقول ابن عربي: فإنه ذكر ثوبين ليسا بمخيطين، فألحق سبحانه المحرم من الرجال بما وصف به نفسه 000فالمحرم قد تلبس بصفة هي للحق معنوية، وفي الخلق حسية، هي في الحق كبرياء وعظمة، وفي الخلق رداء وإزار، والله خلق العبد للتشبه به، لكونه خلقه على صورته. ولأهل الأسرار غوامض في عدم إلحاق المرأة بالرجل في الإحرام تخفى على العاجز مثلنا، وقصارى الجهد فيها أنها للستر، وستر العورة حسا ومعنى واجب شرعا وعرفانا، والتجرد أيضا من الثياب التي بها يحصل الخيلاء يعني التجرد من شهوات النفس والهوى، وحبسها عن كل ما سوى الله، وعلى التفكير في جلاله،(82) قال أبو سليمان الدارني(83) من أظهر الانقطاع إلى الله فقد وجب عليه خلع ما دونه من رقبته، وقال أيضا (84) إذا سكنت الدنيا في قلب ترحلت منه الآخرة، فالصوفي يبادر بالتسليم طوعا قبل أن يطالب بالتسليم كرها فلا يجد فرصة لمحق الذات لتقبل عليها واردات الحق من بستان المعاني، فيزهد في السوى اكتفاء بمعرفته وحبه.
    ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
    -75 شرح إرشاد السالك، في فقه إمام الأئمة مالك، الكشناوي 454/1
    -76 أسرار العبادة ص 120
    -77 نفس المرجع ص122
    -78 روح البيان، حقي عند تفسير الآية 43 من سورة النساء.
    -79 أبو يزيد البسطامي، المجموعة الكاملة، تحقيق قاسم محمد عباس ص 153.
    -80 اللمع ص228
    -81 الحديث أصله في صحيح مسلم وأخرجه الإمام أحمد و أبوداود ، و ابن ماجة ، و ابن حبان في صحيحه وغيرهم.
    -82 الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت ص120
    -83 طبقات الصوفية للسلمي ص
    -84 طبقات السلمي ص 76
    الإحرام، هونية الدخول في أحد النسكين مع قول أو فعل يتعلقان به، كالتلبية والتوجه على الطريق، كما في مناسك خليل رحمه الله، وعقد النية يكون بإحدى الأنساك الثلاثة، الإفراد، أو التمتع، أو القران، والإحرام كتكبيرة الإحرام، يدخل به الإنسان في منع أشياء معينة عليه كانت حلا له، كحلق الشعر وتغطية الرأس وصيد البر والنكاح والجماع وغير ذلك مما بينته كتب الفقه، كما تمنع التكبيرة الأكل والالتفات وغيرهما مما ليس من جنس العبادة به في الصلاة، ومدلول الإحرام العرفاني، أن يعقد النية على أن يفسخ على نفسه كل عقد عقده منذ خلق مما يضاد العقد الأول، {وإذ أخذ ربك من بني آدم} (85) ومما يضاد العقد الثاني المعقود بقوله: نويت أن أتجرد من كل ما سوى الحق سبحانه، قال الإمام الجنيد لرجل محرم يريد الحج: هل تخليت عن صفاتك الآدمية كما تخليت عن ثيابك الاعتيادية؟، فقال: اللَّهم لا، قال له: إنك إذا لم تحرم.(86) يقول الشيخ حسن علي باقري،(87) بالإحرام والابتعاد عن هذا التعلق بالأمور الممنوعة يتصف الإنسان بصفة إلهية ألا وهي التشرف بالمحضر الربوبي"، والمشهد الألوهي، فليتذكر المحرم عنده الكفن ولفه فيه، فإنه فيه سيرتديه ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل، وربما لا يتم سفره إليه، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفا في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلا مخالفا عاداته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلا في زي مخالف لزي الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن. (88) والإحرام يعني في حدوده الدنيا أن الإنسان سيرد على منطقة تحرم عليه أمور معينة، وهذه الأمور بها سعادة ذاته، وقوام عيشه، ورفاهية حياته، وهذا ما يشعره بالقدرة على الاستغناء عن هذه الأشياء المسببة لجزء كبير من همه، والمتعبة لتفكيره وتدبيره، فالتجرد من المخيط والمحيط، تجرد من الوهم الذي يصور للإنسان خيال العظمة والوجاهة، وترك ما هو محظور في الإحرام، مخالفة للطبع، وخروج عن المألوف.
    وصية: "ما أشبة ثوبي الإحرام بالثوب الذي يلف فيه الوليد حين يوضع على الأرض، وبين الثوب الذي يكفن فيه الميت، فليكن إحرامنا تذكرا للموقف ما بين الولادة والموت، وقديما قالوا: قم واغتنم الفرصة بين العدمين!! ." يقول الإمام الغزالي:(89) فليحضر في قلبه أنه ماذا يريد؟ وأين يتوجه؟ وزيارة من يقصد؟ وأنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له الذين نودوا فأجابوا، وشوقوا فاشتاقوا، واستنهضوا فنهضوا، وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت الله عز وجل الذي فخم أمره، وعظم شأنه، ورفع قدره تسليا بلقاء البيت عن لقاء رب البيت، إلى أن يرزقوا منتهى مناهم، ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم، وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول، لا إدلالا بأعماله في الارتحال، ومفارقة الأهل والمال، ولكن ثقة بفضل الله عز وجل، ورجاء لتحقيقه وعده لمن زار بيته، وليرج أنه إن لم يصل إليه وأدركته المنية في الطريق، لقي الله عز وجل وافدا إليه، إذ قال جل جلاله: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله (90)
    والتلبية إجابة نداء الذات، أو هي إجابة نداء إبراهيم عليه السلام، إذ قال عز وجل آمرا إياه، وأذن في الناس بالحج،(91) لينادي من في الأصلاب والأرحام من الأرواح، ليجيبه من أجاب ممن يصدق على كل منهم إذا وجد كان إنسانا، فهذه تذكرة للإجابة السابقة، وتجديد للعهود المتقدمة، وهل كلامه لفظي أم نفسي أم عقلي؟؟ ففيه إيماضات وإشارات تُحار فيها العقول، ومناقشات تنظر في مظانها. والتلبية تعني أن الكون كله لله، فلا قيام فيه لأمر إلا بالله، وُتبين أن الحرية من تجليات العبودية، فلا سطوة لأحد على مخلوق إلا بمشيئة الله، ولا قدرة لكائن على الاستعباد إلا للخالق الأجل الأعظم. إن كلمة لبيك لا يمكن لها أن تحدث تغييرا في الحياة، ولا أن تعطل قانون الانحراف، ما لم تكن نابعة من قلب حر لله لا تسيطر عليه الأهواء والمخالفات، ولا تستغله الخواطر عن شهود الحق في الوجود. والصوفي حين يقولها يدرك عمق تبعاتها، وغور معانيها، وأبعاد تشريعها في موقف يشتاق فيه الإنسان إلى وصال الحقيقة في مظهرها الرمزي، وصورتها المنعكسة في عالم الإيجاد المكشوف أثرا للحق سبحانه وتعالى، قال الإمام الغزالي:(92) فليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل، فارج أن تكون مقبولا، واخش أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك، فكن بين الرجاء والخوف مترددا، وعن حولك وقوتك متبرئا، وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلا، فإن وقت التلبية هو بداية الأمر، وهي محل الخطر، قال سفيان بن عيينة: حج علي بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته، اصفر لونه، وانتفض، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك،(93) وذكر عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: صحبت جعفر الصادق، فلما أراد أن يلبِّي تغير وجهه، وارتعدت فرائصه، فقلت: ما لك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: أردت أن ألبِّي، قلت: فما يوقفك؟ قال: أخاف أن أسمع غير الجواب.
    والصوفية يلبون دائما، فحالهم سماع دعاء الحق في قلوبهم مع كل نفس من أنفاسهم، قال ابن عربي: فهم ينتقلون من حال إلى حال، بحسب ما يدعوهم إليه الحق، وهكذا المؤمنون الصادقون في الدنيا.. بما دعاهم الشرع إليه في جميع أفعالهم، وإجابتهم هي العاصمة لهم من وقوعهم في محظور، فهم ينتقلون أيضاً من حال إلى حال لدعاء ربهم إياهم، فهو داع أبداً، والعارف غير محجوب السمع، فهو مجيب أبداً. والتلبية أيضا طرد للشياطين، واستجابة لأمر جبرائيل وهو يقول لسيدنا محمد ‘كما في سنن الدرامي، إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج. (94)
    وصية: على العبد أن يخشى من أن يأتيه النداء عند التلبية من قبل الرب المتعال قائلا : لا لبيك ولا سعديك ..؟!
    كشف الرأس للذكر دليل في البعد الرمزي العرفاني القريب على الذل والخضوع والمسكنة لله عز وجل، وفي معناه البعيد على أن الصوفي قد عاد إلى ربه من رحلة الطين كما كان أولا بدون قيد ولا تخصيص، وكذلك تعود الذوات إلى ربها مقهورة بنهاية أمرها من عالم الوجود.
    ترك الطيب هو ترك التخلق بأخلاق الربوبية، والتشبت بأوصاف العبودية، والأغلب في هذا المقام البقاء على العبودة لله عز وجل، لما فيها من التحجير والمنع على العبد.
    -85 الأعراف172
    -86 كشف المحجوب ص393
    -87 رسالة التقريب العدد 40الحج رؤية عرفانية،
    -88 الإمام الغزالي في الإحياء 316/1
    -89 الإحياء 317/1
    -90 سورة النساء الآية 100
    -91 الحج:28
    -92 الإحياء 317/1
    -93 تهذيب التهذيب 7 : 268.
    -94 رواه ابن خزيمة الحديث رقم ‏2628‏ كنز العمال 5/ 31 .

  4. #4
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الأنساك الثلاثة:
    فالإحرام ثلاثة أضرب، إفراد وهو أفضلها، وتمتع:وهو أن يأتي الأفقي بالعمرة أو بعضها في أشهر الحج، ثم يحج من عامه قبل رجوعه إلى أفقه، أو مثل مسافته، ويلزمه به الهدي، إلا لحاضري المسجد الحرام، وقران: وهو جمع العمرة والحج في إحرام مقدما للعمرة لفظا أو نية أو يردف الحج عليها في أثنائها ويلزم به الهدي.(95)
    إن الحج حضرة إلهية، ومأدبة ربانية، دعا إليها المحبين من خلقه، ، فالمتصفون بصفات الحق إن عادوا إلى مقام العبودية، ثم فارقوه إلى مقام التشبه بصفات الحق، فهم المتمتعون حقا، قال ابن عربي في الفتوحات المكية: فأيّ عبد اتصف بصفة سيادة من تخلق إلهيّ، ثم عاد إلى صفة حق عبودية، ثم رجع إلى صفة سيادته في حضرة واحدة، فذلك هو المتمتع، وإن دخل إلى حضرته بصفة الحق، وبقي عليها فذلك المفرد، قال ابن عربي: وأمّا الإفراد فمثل قوله: { ليس لك من الأمر شيء }(96) ومثل قوله: {قل إن الأمر كله لله }(97) ومثل قوله: { قل كل من عند الله }(98) وكقوله: { وإليه يرجع الأمر كله }(99) وما جاء من مثل هذا مما انفرد به عبد دون رب، أو انفرد به رب دون عبد، فمما انفرد به عبد دون رب، قوله تعالى { أنتم الفقراء إلى الله } (100) وقوله تعالى لأبي يزيد (في رؤيا) يا أبا يزيد، تقرب إليّ بما ليس لي، الذلة والافتقار..... والافتقار.....والإفراد يعني نسبة الأفعال إلى الله، والعبد محل ظهورها وتجليها، ومتى قارن بين صفة العبودية وصفة الربانية كان قارنا، قال ابن عربي: القارن من قرن بين صفات الربوبية وصفات العبودية في عمل من الأعمال كالصوم أو من قرن بين العبد والحق في أمر بحكم الاشتراك فيه على التساوي، بأن يكون لكل واحد من ذلك الأمر حظ، مثل ما للآخر كانقسام الصلاة بين الله وبين عبده فهذا أيضاً قران... والقارن ينسب الأفعال إلى الله، ولكنها تظهر منه على وجه الكسب كما هو معروف عند علماء الكلام.
    -95 شرح إرشاد السالك، في فقه إمام الأئمة مالك، الكشناوي ص454/455/456
    -96 آل عمران 128
    -97 آل عمران 154
    -98 النساء 78
    -99 ) هود 123
    -100 فاطر 15
    مكة، قيل بأن بكة بالباء للموضع، ومكة بالميم لسائر البلد، وقيل هما اسم للبلدة المباركة، قال الزمخشري جار الله(101): وهي عَلَمٌ للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء: ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة، وقيل: مكة، البلد، وبكة: موضع المسجد. وسميت مكة لأن الناس كانوا يمكون فيها، ويقال لمن قصدها: قد مكا- بناء على أن أصل المكاء المك فقلبت إحدى الكافين حرف علة كما يقال في أمللت أمليت، وذلك قوله تعالى: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } (102) فالمكاء التصفير، والتصدية صفق اليدين، (103) وقيل اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها. وعن قتادة: يَبُكُّ الناس بعضهم بعضاً الرجال والنساء، يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة. قال: إذا الشريب أخذته الأكه فخله حتى يبك بكة
    فيقال بكَّه يبكّهُ إذا زحمه، وتباكّ الناس إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، (104) - فالكلُّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون في الطواف حواليْه، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه. (105) وقيل: تبك أعناق الجبابرة أي تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى. (106) وكذا إذا ألحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا، والبكّ دق العنق، أو لأن الناس يتباكون فيها، فإما بالتشديد، بمعنى يزدحمون، أو بالتخفيف، بمعنى يبكون. (107)ومكة مثل بكة، فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة، وإبدال الميم من الباء كقولـه: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولـهم أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مصّ مصاً شديداً حتى لا يبقى منه شيء، ومك المشاش مكاً، إذا تمشش بفيه، فسميت مكة بذلك لقلة مائها، (108) ولمكة أسماء كثيرة، لمكة أسماء كثيرة، قال القفال رحمه الله في «تفسيره»: مكة، وبكة، وأم رحم، وكويساء، والبشاشة، والحاطمة تحطم من استخف بها، وأم القرى، (109) الفخر الرازي، فمن الأسماء التي وردت لها في القران، مكة ، وبكة ، وأم القرى ، والبلد الأمين، والوادي، معاد، البلدة، والبلد، القرية، ومن أسمائها التي لم ترد في القرآن ماذكره الفخر الرازي بإضافة بعض الأسماء الأخرى الدالة على شرفها وعظمها، فمنها، الباسة، والناسة، والنساسة، وصلاح، والقادس، وأم زحم، والرأس.
    -101 عند تفسيره للآية 96من سورة آل عمران
    -102 الأنفال35
    -103 أسرار العبادات سعيد القمي، 101
    -104 مجمع البيان الطبرسي عند قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس
    -105 لطائف الإشارات القشيري عند قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس
    -106 الكشاف للزمخشري، عند قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس
    -107 سعيد القمي أسرار العبادات، ص 102
    -108 مجمع البيان للطبرسي عند الآية السالفة الذكر.
    -109 الفخر الرازي، عند قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس.

  5. #5
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الكعبة، هي البيت المكعب، أي المربع، وقيل المرتفع. قال الشوكاني: سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة، والتكعيب التربيع،(110) والسبب في تسميتها ماذكره الفخر الرازي(111) أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً، لارتفاع ثديها، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم، وقيل: لأنها وسط الدنيا، لكونها بحذاء البيت المعمور، لما أخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ البيت المعمور مسجد في السماء، بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم إذا خرجوا منه لم يعودوا‏ "وقيل بأنه في السماء الرابعة، قال الحافظ في الفتح، وبه جزم شيخنا في القاموس، وقيل: بأنه في السماء السادسة، وقيل: تحت العرش، وقيل غير ذلك، ويسمى البيت المعمور الضراح والضريح‏، وقيل بأن الضراح في السماء الرابعة التي هي كشمس القلادة لعالم الطبيعة الجسمانية –بيت الله في عالم الطبيعة- لأجل تطواف الملائكة المدبرة. (112) وهو من المضارحة أي المقابلة والمضارعة، ويقال البيت الحرام لحرمته، قال تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام }(113) والبيت الحرام: أول بيت وضع للناس فى مكة المكرمة، وأقيم لهم للعبادة والطاعة، ويقال: البيت العتيق-أي القديم، لأنه أقدم بيوت الأرض كما قال الفخر الرازي، أو لكونه حرا عتق من الناس لا يملكه أحد، قال تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (114)
    وفي المصطلح الصوفي، هو القلب واستدل له عبد الرزاق الكاشانى بقوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (115) ، يقول: فمن باب الإشارة هو القلب الذي وسع الحق، واختص بكونه مستوى الحق بذاته، وبجميع أسمائه وصفاته، دون غيره من سائر المخلوقات، (116) وهو عند ابن عربي، الذات الإلهية في عين أهل المشاهدة، أو عرش الرحمن الأعظم، وحرم الله، وهو في كل عالم من العوالم من جنس ذلك العالم. يقول القشيري (117) البيت حَجَرةٌ والعبد مَدَرَةٌ، فَرَبَطَ المدرة بالحجرة، فالمدر مع الحجر. وتعزَّز وتَقَدَّس من لم يزل. ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب! البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن:
    تلك آثارنا تدل علينا***فانظروا بعدنا إلى الآثار
    ويقال البيت حجر، ولكن ليس كل حجر كالذي يجانسه من الحجر. حَجَرٌ ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج، لا بل لقلوب قومٍ مِثْلِجٌ مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج. وهم على أصناف: بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم. بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسرٍ خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب، كما قيل:
    إن الديار- وإن صمتت- فإن لها***عهدا بأحبابنا إذ عندها نزلوا
    بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته. ويقال قال سبحانه:{ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ }(118) وأضافه إلى نفسه، وقال ها هنا: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } وفي هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع....والبيت لم يخاطِب أحداً منذ بنِيَ بُمْنَيةٍ، ولم يستقبل أحداً بحظوة، ولا راسل أحداً بسطر في رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر - هذا وصفه في التعزز فما ظنُّك بِمَن البيتُ له. قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه سبحانه: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ". ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات، فكيف تطمع أن تصل إلى ربِّ البيت بالهوينى دون تحمُّل المشقات ومفارقة الراحات؟! ويقال لا تُعِلِّق قلبك بأول بيتٍ وضع لَكَ، ولكن أَفْرِدْ سِرَّكَ لأول حبيبٍ آثرك.ويقال شتَّان بين عبدٍ اعتكف عند أول بيتٍ وُضِع له، وبين عبدٍ لازم حضرة أول عزيز كان له. ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت، ليس بأقل من ازدحام الطائفين بِقَدَمِهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بِقَدَمِهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم. ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه في السِّر، قال قائلهم:
    لستُ من جملة المحبين إن لم*** أجعل القلب بيته والمقاما
    وطوافي إجالة السر فيه*** وهو ركني إذا أردت استلاما
    فاللطائف تطوف بقلوب العارفين، والحقائق تعتكف في قلوب الموحِّدين، والكعبة مقصود العبد بالحج، والقلب مقصود الحق بإفراده إياه بالتوحيد والوجد. قال الإمام الغزالي(119) : فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنا، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخش أن لا يكون أهلا للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائبا ومستحقا للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبا، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحق الزائر مرعي، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع، وأما وقوع البصر على البيت فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت، لشدة تعظيمه إياه، وارج أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم، كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم، واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة، وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه، واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول، ومصروفين انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين، ولا تغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما تراه، فإن كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة.
    وصية: "إن من مصاديق الفرار إلى الله تعالى فى قوله تعالى: { ففروا إلى الله} الذاريات50 هى الحركة الباطنية إليه، ولكن الحج حركة ظاهرية للفرار أيضا.. فإذا دخلت المسجد الحرام فتصور نفسك أنك عبد آبق ارتمى في أحضان مولاه.. وداخل بيته، وخاصة عند الدخول الأول، وخاصة في الحجة الأولى فإنها مشاعر لا تتكرر في أي بقعه من بقاع الأرض.. و على الحاج أن يعيش مشاعر متنوعة عندما يدخل المسجد الحرام.. منها: الإحساس بأن هذا بيت ربه الودود، ومنها أنه بيت أبيه، إذ جعل القران الكريم إبراهيم أبا لهذه الأمة، حيث قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم } الحج78 ومنها أنه بيت الأمن والأمان حيث قال تعالى:{ ومن دخله كان آمنا} آل عمران97 ومنها أنه بيت الحرية حيث أنه البيت العتيق، ومنها أنه بيت البركة حيث قال تعالى: { ببكة مباركا } آل عمران96.."
    -110 فتح القدير 2/79
    -111 في تفسيره للآية 96من سورة آل عمران.
    -112 القمي مرجع سابق ص 112.
    -113[المائدة97]
    -114[الحج29]
    115[الحج/26]
    -116 معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص64
    -117 في لطائف الإشارات عند قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت.
    -118[الحج: 26]
    -119 في الإحياء ص 317/1

  6. #6
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الطواف، وهو سبعة أشواط، ويجعل البيت عن يساره، وحكمة جعل البيت عن يساره كما قال الحطاب: أنظر الكشناوي، ليكون قلبه إلى جهة البيت، ووجهه إلى وجه البيت، إذ باب البيت هو وجهه، فلو جعل الطائف البيت عن يمينه لأعرض عن باب البيت الذي هو وجهه، ولا يليق بالأدب الإعراض عن وجوه الأمثال.
    والصوفي يتخيل أن حركته تشبه حركة الحافين بالبيت المعمور الذي جعله الله في السماء السابعة لتعمره الملائكة، قال تعالى: {وترى الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم}(120) ولما في حديث الإسراء عن البيت المعمور، قال: وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، صحيح مسلم، وفي مسند الإمام أحمد، فقال جبرئيل للرسول صلى الله عليه وآله حين سأله، هذا البيت المعمور يصلي في كل سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم، فدعاء الطائف في تطوافه بالعقل يماثل تسبيحهم القادس، وفناءه يساجل تهيمهم القاهر، قال عبد الكريم الجيلي(121) (ت:829هـ) البيت المعمور قلب الإنسان فهو محل الحق، ولا يخلو أبدا ممن يعمره، إما روح إلهي قدسي، أو ملكي أو شيطاني أو نفساني، وهو الروح الحيواني، فلا يزال معمورا بمن فيه من السكان، قال اللَّه تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ }(122) فالصوفي مظهر من تجليات الأسماء والصفات، ونسمة من نفح الملكوت، اختاره الله بالابتلاء، واجتباه بالاختيار، فحين يندفع في المطاف يستلهم من أشواطه اتصاله بالحق عبر سلسلة كبيرة تمتد من عالم الأرض إلى حضرة الله عز وجل، ينتظمها نظام العبودية لله عز وجل، فينخرط فيها لتبيين موقعه من هذه الكوكبة الكبيرة الفانية في دورانها حول الحق، ويقول سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) في تفسيره : ( البيت المعمور قلوب العارفين ، المعمورة بمعرفته ومحبته والأنس به وهو الذي تحجه الملائكة ، لأنه بيت التوحيد) وأورد القشيري في تفسيره، ( البيت المعمور هو قلوب العابدين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته )(123) وقال أيضا: ( البيت المعمور مواضع عباداتهم ومجالس خلواتهم ). والبيت الحرام معاكسة للبيت المعمور، وكأنها تقابلها في عالم الأرض، أوهي محاذية لعرش الله المجيد الذي هو أول مظاهر الروح الكلي في العالم النفساني، وهو الجسم المحيط بالكل الذي ابتدأ أثر النفس الكلية فيه، فما ثمت سر ينزل منها إلا وكانت هي مجلى له، والحق أن الأمر يتنزل من سماءٍ سماء إلى أن انتهى إلى أرض الشهود، وأن كل ما في العالم الحسي، فإنما هو صورة للعوالم الفوقية إلى أن انتهى إلى صورة الصور،(124) فكما يطوف بها هناك ملائكة كرام، يطوف بظلها في الأرض أناس عقليون،وبشر نوريون، يطوفون بوله وهيمان يبرز فيهم كمال تصريف الله وتدبيره، ويجولون حول حريم العظمة كما جرت السنة الإلهية، وسبقت العناية الربانية بوقوع ذلك في أرض البعد والفراق، لتتذكر هؤلاء الأناسي حالات أولئك البشر العوالي.(125) ويرتقي الصوفي في درجات اليقين حتى يرى طوافه للبيت المعمور، أو للعرش، لا للكعبة، فالكعبة محج العباد الجسمانيين، والبيت المعمور محف العباد النورانيين، وقلم التصريف القائم في الملكوت الأعلى ،قائم هنا بالتجلي والاستظهار، والروح بين العالمين واصلة للامتداد في الزمانين والمكانين، إلا أن الكعبة تفاضل كل مطوف به، لكونها محل يمين الله، والمحل يتشرف بالحال به إن كان فضيلا، قال ابن زكري:
    وإذا ما الجناب كان عظيما .....مد منه لحامليه اللواء
    والطواف أيضا هو طواف الأرواح حول بيت الله الحرام، لتستشعر عظمته، وتطلب المدد منه، وتلوذ إلى فناء داره، وهو محاولة الإنسان التخلص من ذاته، وجعل الروح هي التي تطوف دون جسده، فلو أخذنا الجانب الفيزيائي لمعنى الدوران، فإننا سنجد أن الدوران، يعني طرد المواد الخفيفة إلى الأعلى، لتبقى المواد الصلبة الثقيلة، ونحن نعلم أن الروح خفيفة بالنسبة للجسم الترابي، والدوران يدفع الروح لتخف للارتقاء في ملكوت الله، فلو نظرنا إلى كل ما في الكون من الالكترونات التي تدور حول النواة، إلى المجرات العملاقة التي تدور حول مركز الكون، سنجد أنها تدور عكس عقارب الساعة، كذلك الطواف يكون عكس عقارب الساعة، كي يحدث الاتساق مع المنظومة الكونية، فيكون الإنسان جزءا منها، أي مكونا من مكوناتها، وليس معاكسا، أو معارضا لها. قال الفخر الرازي(126) في معنى البركة، وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة، وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة، وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلٰهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً.
    وكون الطواف سبعا وتر باعتبارين: الأول، أن الطواف كالصلاة شرعا، إلا أنه لا ركوع فيه ولا سجود كالجنازة، وأقل الصلاة ركعة، فهو ركعة واحدة، والركعتان من بعده ثلاثة، فهو بهذا الاعتبار وتر كصلاة المغرب التي توتر صلاة النهار، والثاني أنه سبع وهي وتر، والركعتان إذا أضيفت إليه يتكون منها عدد تسعة، وهي وتر أيضا، وسبعة أشواط تقابل أفعال الصلاة السبعة، القيام الأول، والثاني، والركوع، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والسجود الثاني، والجلوس للتشهد، كما قال ابن عربي، ويمكن اعتبار الأشواط السبعة صلاة رباعية من حيثية أخرى، وقد ذكرها ابن عربي في فتوحاته، فقال: ومن ثم طوافه أشبه الصلاة الرباعية، لوجود الثمان السجدات التي يتضمنها الأسبوع-الأشواط السبعة- من السجود على الحجر عند تقبيله بالحس، وهي ثمان تقبيلات في كل أسبوع، عند الشروع فيه، وفي كل شوط عند انقضائه.... ويترتب عن هذا ثمان تقبيلات هي عدد سجدات الصلاة الرباعية، فمن أقامه بنية المغرب جوزي، ومن أقامه بنية الرباعية جوزي، وفي كل خير، والمقصود به هو الذات، أو العرش كما مر معنا، وقد مال الصوفية إلى التطابق بين الأعمال العبادية والأعداد الوترية، ليصلوا من خلالها إلى نفي كل الاعتبارات و الممكنات، حتى تبقى الذات بأحديتها ووتريتها هي كل مد وجزر في هذا الكون، قال ابن عربي في الفتوحات: فمازالت الأحدية تصحبه في كل حال، فهو مثل قوله "كان الله ولا شيء معه"، وهو الواحد، وهو الآن على ما عليه كان. وتكرار الطواف إلى عدد سبعة لترسيخ المحورية الربانية، وهذا العدد له اعتبار في التناسق العددي بين خلق الله وبين ما جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية من تشريعات وأحكام، ليعلم الناس أن هذا الدين قائم على نظام محكم ومعجز يقوم على حقائق رقمية وحسابات عددية، وأن هذا التوافق والتطابق إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية العدد سبعة، وأنه رقم يشهد على وحدانية الخالق والمعبود. (127) قال الغزالي: (128) وأما الطواف بالبيت فاعلم أنه صلاة، فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما فصلناه في كتاب الصلاة، واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين حوله، ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، حتى لا تبتدىء الذكر إلا منه، ولا تختم إلا به، كما تبتدىء الطواف من البيت، وتختم بالبيت، واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي عالم الملكوت، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر، وهو في عالم الغيب، وأن عالم الملك والشهادة مدركة إلى عالم الغيب، والملكوت لمن فتح الله له الباب، وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة، فإن طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت، ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف، أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم، أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بسند صحيح، والذي يقدر على مثل ذلك الطواف، هو الذي يقال إن الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله سبحانه وتعالى.
    والقدوم، هو قدوم الروح إلى عالمها الخاص بها، فهي في حنين دائم إلى باريها، وإن تشظت في هذا الكوكب الغريب، واتسعت في الزمان والمكان ، ويناسب هذا الشوقَ الرملُ في أشواطه الثلاثة، لأنه إسراع لها لتستغرق نقطة الكون، وتمتد إلى أفقها المنسوب إلى الذات بالتجلي والشهود، وبينه بين الوداع برزخ من المعاني....
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -120 الزمر/ 75
    -121 الإنسان الكامل 1/79 .
    -122 [التوبة/18]
    -123 لطائف الإشارات 3/472
    -124 سعيد القمي، أسرار العبادات، 107.
    -125 سعيد القمي ص 117
    -126 في تفسيره للآية 96من سورة آل عمران.
    127 جوانب من أسرار الرقم 7 في التطابق بين الخلق والتشريعات بقلم الباحثة الدكتورة يمينة أشقار.
    -128إحياء علوم الدين 317/318/1

  7. #7
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    تقبيل الحجر، قال الكشناوي: كلما مر بالحجر قبله، وبالركن اليماني لمسه بيده، (129) وتقيبله هو مبايعة لله عز وجل، وتجديد للارتباط بالميثاق الأزلي، يقول جعفر الصادق ض: وقل عند استلامك الحجر، أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة، ولا أعظم من قبلة القبول والفرح والاستبشار كما سماها ابن عربي، وإن لم نجد إليها سبيلا نرسل إعلاننا بيدنا إشارة إلى إرادتنا وعجزنا عن الوصول اليها، ويمين الله مطلقة، ونحن في قبضتها، وتحت ضغط إرادتها، فما بيننا وبينها ستار ولا حجاب، ولكنها تجسدت محسوسة هنا للرمز على مراد يعلمه الله، وقد يلمس الحجر للتبرك نيابة عن غيره من الأركان، وهذا شأن آخر، وقد يعتبر لمسه بيعة شرعية للمصطفى ص كما قال عبد الله بن عباس ض يقول ابن عباس: واستلامه اليوم (أي الحجر) بيعه لمن لم يدرك بيعة رسول الله «ص».فالغاية من استلام الحجر الأسود هو إحياء للميثاق القلبي الذي ارتبط به الخلق مع الحق سبحانه.
    وفي الخبر، إن الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة ويبعث يوم القيامة له عينان الحديث أخرجه الترمذي وصححه النسائي من حديث ابن عباس الحجر الأسود من الجنة لفظ النسائي وباقي الحديث رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن عباس أيضا وللحاكم من حديث أنس إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة وصحح إسناده ورواه النسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، ويرى الترمذي، أن الله قد غير لونه من البياض إلى السواد، حتى لا ينظر إليه أهل الدنيا فيروا زينة الجنة.(130) فالياقوتة البيضاء في الإشارة الصوفية، جامعة لألوان عديدة، وصور مختلفة، وهي ترمز إلى العقل الأول عند ابن عربي، كما في كتابه اصطلاحات الصوفية.
    وصية، قال الامام الغزالي في الاحياء ص 318/1 اعتقد عند استلام الحجر، أنك مبايع لله عز وجل على طاعته، فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك، فمن غدر في المبايعة استحق المقت.
    الرمل، قال ابن عربي فيه: هو إسراع في نفس الخير إلى الخير، فهو خير في خير، واستعجال لإدراك العلم الخاص بالأمر الإلهي...وللسرعة حكمها الخاص في الأشياء، وتختلف من مقام إلى مقام، فسرعة كن الإلهية نافذة كلمح البصر، وسرعة الخلق معلولة بتقدير فيكون الإلهية، فالبرق منها ليس كالبعير، وهذا فرق دقيق بين الأشياء وربها، وبين الذوات المقيدة والذات المطلقة.
    -129مرجع سابق ص 462/1
    -130 الترمذي أسرار الحج، ص 50
    مقام إبراهيم، هو الحجر الذي فيه أثر قدميه، أو الموضع الذي كان فيه حين قام عليه، ودعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، والذي يسمى اليوم مقام إبراهيم هو موضع ذلك الحجر،(131) وهو الذي يصلون خلفه ركعتي الطواف (132) ومقامه قوله تعالى: سورة النجم، 37 { وإبراهيم الذي وفى } من التوفية- أي لم يقصر بوجه البتة- (133) و قال ابن عربي: أي بلغ مقام التوحيد، ومقام إبراهيم هو مقام الروح، ومقام الخلة، قال الشبلي: مقام إبراهيم، هو الخلة، فمن شاهد فيه مقام إبراهيم الخليل فهو شريف، ومن شاهد فيه مقام الحق فهو أشرف، (134) { مقَام إبراهيم } أي: العقل الذي هو موضع قدم إبراهيم الروح، يعني محلّ اتصال نوره من القلب كما قال ابن عربي في تفسيره، وقال محمد بن علي الترمذي: مقام إبراهيم مقام بذل النفس والمال والولد في رضا خليله، فمن نظر إلى المقام ولم يتخل مما تخلى منه إبراهيم من النفس والمال والولد مدة سفره فقد بطل وخابت رحلته، (135) ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلماً أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمناً، فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإِذا لم تكن للعبد إرادة واختيار، فأيُّ مساغٍ للخوف في وصفه ؟ (136) والصلاة فيه للمشاهدة والمواصلة الإلهية، والخلة الذوقية، كما قال ابن عربي في تفسيره.
    شرب ماء زمزم، هو العلم بالأسرار الإلهية التي سماها ابن عربي العلم الخفي، أو العلم بالله، قال: علم خفي في صورة طبيعية عنصرية قد اندرج فيها، تحيى بها النفوس، والصلة فيما بين الطبيعة التي يعد الماء جزءا منها، وبين العبد هي العبودية، فتمحضها في الطبيعة يقتضي وجودها بتلك الصفة عند العبد.(137)
    وصية، إن الماء طبيعته طاهر مطهِّر لا تشوبه شائبة، فالشرب من ماء زمزم لا يتلائم مع عصيان الرب، فمن شرب منه لابد وأن يلحظ تأثير هذا الشرب على نفسه صفاء و طهارة.
    السعي، وهو ركن من أركان الحج عند المالكية لا يجبر بالدم، ، ويكون بين جبلي الصفا والمروة، وينطلق الحاج بين ذينك الجبلين ماشيا، حتى إذا بلغ فيما بين العلمين أوالميلين الأخضرين هرول، ويفعل ذلك سبعة أشواط، يبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، فالساعي يجسد حقيقة هاجر وهي تسعى فيما بين الجبلين من غير يأس، طلبا للماء في صحراء الظمأ والغربة، وسعياً لسقي طفلها، (138) والله يقول: وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون، والساعي يبحث بلهفة وشوق عن الله الذي بمعرفته تحيى الأرواح، وتزول العلل، وتكون حياته حقيقة لا موات فيها، قال ابن عربي في الفتوحات: ثم إن الله جعل هذه الأحجار محلاً لإظهار المياه التي هي أصل حياة كل حيّ في العالم الطبيعيّ، وهي معادن الحياة، وبالعلم يحيى الإنسان الميت بالجهل، فجمعت الأحجار بالخشية وتفجر الأنهار منها، بين العلم والحياة، قال تعالى: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} البقرة 74 مع اتصافها بالقساوة، وذلك لقوّتها في مقام العبودية، فلا تتزلزل عن ذاتها، لأنها لا تحب ما لم تعطه حقيقة الحجارة من الخشية والحياة والعلم بالله والثبات في مقامهم.
    فالصفا والمروة أحجار جامدة موصوفة بالعبودية لله، لكونها تهرب من مزاحمة الربوبية في العلو، فمحلها السفل، قال ابن عربي: فمن سعى ووجد مثل هذه الصفات في نفسه حال سعيه، فقد سعى وحصل نتيجة سعيه فانصرف من مسعاه حيّ القلب بالله، ذا خشية من الله، عالماً بقدره وبماله ولله، وإن لم يكن كذلك، فما سعى بين الصفا والمروة...والصفا والمروة جبلان على خط واحد، يقابل الأول منهما الآخر على السواء، فالصفا كان محلا لصنم لقريش اسمه إساف، والمروة محل لنائلة، قال ابن عربي في الفتوحات: فعندما يرقى في الصفا، يعتبر اسمه من الأسف، وهو حزنه على ما فاته من تضييع حقوق الله تعالى عليه، ولهذا يستقبل -البيت - بالدعاء والذكر ليذكره ذلك، فيظهر عليه الحزن، فإذا وصل إلى المروة وهو موضع نائلة، يأخذه من النيل، وهو العطية، فيحصل نائلة الأسف، أي أجره، ويفعل ذلك في السبعة الأشواط، لأن الله امتن عليه بسبع صفات ليتصرف بها ويصرفها في أداء حقوق الله، لا يُضيع منها شيئاً فيأسف على ذلك، فيجعل الله له أجره في اعتبار نائلة بالمروة إلى أن يفرغ. قال الحق سبحانه وتعالى: { إن الصفا والمروة من شعائر الله }(139) وقال ابن عجيبة (140): الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية، والنفس اللينة الطيبة، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق، وبهما يسلك إلى عين التحقيق، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروح بالفناء في الذات، أو عمرة النفس بالفناء في الصفات، فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ويشرب من كأسهما، حتى يغيب عن حسّهما، ومن تطوّع خيراً ببذل روحه لله، والغيبة عنها في شهود مولاه، فإن الله يشكر فعله، وينشر فضله ويظهر خيره، ويتولى أمره، والله ذو الفضل العظيم. والسعي واجب لنداء الحق، لقوله عز وجل في الجمعة { فاسعوا إلى ذكر الله} (141) ونداء الحق لا يكون إلا بواسطة، وقد نادانا بقوله: ولله على حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال ابن عربي في تفسيره الإشاري: { إنّ الصفا والمروة } أي: إنّ صفاء وجود القلب، ومروة وجود النفس، { من شعائر الله } من أعلام دينه ومناسكه القلبية كاليقين، والرضا، والإخلاص، والتوكل، (فابن عربي جعل السعي منسكا قلبيا شبيها بالمقامات التي ذكرها) والقالبية، كالصلاة، والصيام، وسائر العبادات البدنية، (ربط فيما بين القلب والقالب، وصير معنى الحج الدخول في حضرة الله كما سيأتي في كلامه) { فمن حجّ البيت } أي: بلغ مقام الوحدة الذاتية، ودخل الحضرة الإلهية بالفناء الذاتيّ الكليّ، {أو اعْتَمر } نار الحضرة بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال، { فلا جناح عليه } حينئذ في { أن يطوّف بهما } أي: يرجع إلى مقامهما، ويتردّد بينهما، لا بوجودهما التكويني، فإنه جناح وذنب، بل بالوجود الموهوب بعد الفناء عند التمكين، ولهذا نفي الحرج، فإنّ في هذا الوجود سعة بخلاف الأوّل، { ومن تطوّع خيراً } أي: ومن تبرّع خيراً من باب التعاليم وشفقة الخلق والنصيحة ومحبة أهل الخير والصلاح بوجود القلب، ومن باب الأخلاق، وطرق البر والتقوى، ومعاونة الضعفاء والمساكين، وتحصيل الرفق لهم ولعياله بوجود النفس بعد كمال السلوك والبقاء بعد الفناء، { فإن الله شاكر } يشكر عمله بثواب المزيد {عليم } بأنه من باب التصرّف في الأشياء بالله لا من باب التكوين والابتلاء والفترة. ويقول الإمام القشيري (142): قوله جلّ ذكره: { إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ }.تلك المشاهد والرسوم، وتلك الأطلال والرقوم، تُعَظَّم وتُزَار، وتُشدُّ إليها الرحال لأنها أطلال الأحباب، وهنالك تلوح الآثار:
    أهوى الديار لمن قد كان ساكنها وليس في الدارِ همٌّ ولا طَرَبُ
    وإن لتُرابِ طريقهم بل لغبار آثارهم - عند حاجة الأحباب - أقداراً عظيمة، وكل غبرة تقع على (حافظات طريقهم) لأعزُّ من المِسْك الأذفر:
    وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمةٌ في ترِبها وجرَّت به بُردا
    قوله جلّ ذكره: { فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }. حَظَى الصفا والمروة بجوار البيت فَشُرعَ السعي بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن في النُّسك فالسعي أيضاً ركن، والجارُ يُكْرَمُ لأجل الجار. وقال السلمي (143)في قوله تعالى: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ}(144). قيل: إن من صعد الصفا ولم يصف سرُّه لله لم يبنِ عليه من شعائر الحج شيء، ومن صعد المروة ولم تبين له حقائق المغيبات لم يظهر عليه من شعائر الحق شيء. وقيل الصفا موضع المصافاة مع الحق، فمن لم يتجرد لمصافاة الحق معه، فليعلم بتضييع أيامه وسعيه فى حجه. سمعت منصورًا يقول بإسناده عن جعفر قال: الصفا: الروح لصفائها من درن المخالفات، والمروة: النفس لاستعمالها المروءة في القيام بخدمة سيدِها، وقال: الصفا صفاء المعرفة، والمروة مروءة العارف. وقال: الصفا التصفية من كدورات الدنيا وهوى النفس، والسعي هو الهرب إلى الله، فإذا اجتمع سعيك بالهرب إلى الله، فلا تبطله بالنظر إلى غيره". والسعي يجمع بين ثلاثة أحوال، الانحدار والترقي والاستواء، قال ابن عربي: وهو في كل حال منها سالك، فانحداره إلى الله، وصعوده إلى الله، واستواؤه مع الله، وهو في كل ذلك بالله، لأنه عن أمر الله في الله، فالساعي بين الصفا والمروة من الله، إلى الله، مع الله، بالله، في الله، عن أمر الله، فهو في كل حال مع الله لله.
    والحكمة من الرمل في بطن الوادي –أي بين العلمين- أن بطون الأودية مساكن الشياطين، ولهذا تكره الصلاة فيها، كما حدث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حين نام عن صلاة الصبح في واد، فقال: إن هذا واد به شيطان، واه الإمام مالك في الموطإ، قال ابن عربي في الفتوحات: فيرمل في بطن الوادي ليخلص معجلاً من الصفة الشيطانية، والتخلص من صحبته فيها، إذ كانت مقره، كما يفعل في بطن محسر بمنى، يسرع في الخروج منه، لأنه واد من أودية النار التي خلق الشيطان منها، وكذلك الإسراع في بطن عرنة، وهو وادي عرفة، وهو موضع وقوف إبليس يوم عرفة. ويهرول فيما الميلين ليفر بهرولته من هوى النفس والغرور الكاذب المفتعل، ليصل بروحه وباطنه إلى مقام الحضور واللقيا لحضرة الحق.
    فالسعي مدرسة روحية يجتازها السالك ليجد مثل هذه الصفات، فينصرف انصرافا يريده منه سبحانه وتعالى بدون عودة إلى ذلك المقام، إلا إذا تمتع بالألطاف الإلهية فهو مطالب بالرجوع إلى هذه العبادة استحضارا للمعنى الذي به تحصل الترقية في المقام الأول. قال الإمام الغزالي: في الإحياء ص 318/1 وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت، فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا مرة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد ؟؟ فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى. وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة، وليمثل الصفا بكفة الحسنات، والمروة بكفة السيئات، وليتذكر تردده بين الكفتين ناظرا إلى الرجحان والنقصان، مترددا بين العذاب والغفران.
    عرفات، يقول حقي(145) في تفسيره، علم للموقف، وليس بجمع حقيقة، بل هو من قبيل ما زيدت حروفه لزيادة معناه، فانه للمبالغة في الإنباء عن المعرفة، يقول ابن عربي(146) هو مقام المعرفة بالله التي أوجبها علينا، فالمشي بالله مع الله إلى الله يحصل من منى إلى مسجد عرفة بيت المعرفة بالنفس، ومعرفة النفس سلم يرتقيه من يريد معرفة الله عز وجل، وهناك يعترف العبد بذنوبه أمام خالقه، ويكتسب المعرفة بالمبدأ والمعاد وبتوحيد الله، وعرفة مظهر العرفان، يقف الحاج فيها ليكتسب المعنويات المنتشرة في أجوائها النابعة من معدن العلم والمعرفة قطب عالم التكوين سيد الوجود محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله، ومحطة ينطلق الإنسان فيها من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين. والحضور بعرفة يذكرنا بقيام الحق للخلق يوم القيامة، وأن إتيانه عز وجل في ذلك اليوم للفصل والقضاء ليس كإتيانه للمغفرة والإفضال، واختلف في سبب تسميتها بعرفات، فقيل لأن إبراهيم عليه السلام عرفها بما تقدّم له من النعت لها والوصف. وقيل: أنها سمّيت بذلك لأنّ آدم وحواء اجتمعا فيها فتعارفا بعد أن كانا افترقا. وقيل سميت بذلك لعلوّها وارتفاعها ومنه عرف الديك. وقيل سمّيت بذلك لأنّ إبراهيم عليه السلام كان يريه جبرائيل المناسك فيقول عرفت عرفت. وقيل لأن العبد يعترف فيها بالذنب، والاعتراف أول المقامات الموجبة للتوجه إلى الله، والهرب عما كان صدر عنه من الخطأ المقتضي للبعد عن الله، واختيار الهبوط إلى أرض الغربة لرفع القاذور، وتحصيل الطهارة عما كان فيه من ألواث دار الغرور. (147) قال الإمام الغزالي: 318/319/1 فاذكر- بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، وباختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر اقتفاء لهم، وسيرا بسيرهم -عرصات القيامة، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة، واقتفاء كل أمة نبيها، وطمعهم في شفاعتهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول، وإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين، وحقق رجاءك بالإجابة، فالموقف شريف، والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض، ولا ينفك الموقف عن طبقة من الأبدال والأوتاد وطبقة من الصالحين وأرباب القلوب، فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم، وامتدت إلى أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة، فلا تظنن أنه يخيب أملهم، ويضيع سعيهم، ويدخر عنهم رحمة تغمرهم، ولذلك قيل: إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات، ويظن أن الله تعالى لم يغفر له، وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة الأبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج وغاية مقصوده، فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد.
    المزدلفة، هو مقام القرب، قال ابن عربي: المزدلفة اسم قرب، والعمل فيها قربة، فمن فاته صفة القرب في محل القرب، فما حج، فإن الحج نشأة كاملة من هذه الأفعال كلها، فهي له كالصفات النفسية للموصوف، إذا زال واحد منها بطل كون ذلك الموصوف، وهكذا كل عبادة تقوم من أشياء مختلفة بمجموعها تصح تلك العبادة، وهي المعبر عنها بأركانها، فتسمى في العبادة ركناً، وتسمى في الذوات والأعيان صفة نفسية. وأما تسميتها بالمزدلفة: لأنها من الإزدلاف بمعنى التقدم والإفاضة، وقيل: إنما سميت كذلك لمجيء الناس إليها في زُلَفٍ من الليل: أي ساعات. ويقال لها: المشعر الحرام، ولكن المشعر يقع في وسط المزدلفة، وهو المسجد القائم في المزدلفة، وإطلاق المشعر على المزدلفة كلها إطلاقٌ مجازيٌ من باب تسمية الشيء باسم الجزء، كما تقول اشتريت مائة "رأس" من الغنم. وسماه أيضا في مقام آخر مقام الجمع بضم الجيم وفتح الميم ، لأنه جمع فيه العرب والعجم على حكم واحد،(148) أو لأنه كان في مقام الفرق، فتوقع القرب والتحقق بمقام الجمع، (149) والجمع عند أبي يزيد البسطامي، شهود الحق بلا خلق، (150) وفي معجم المصطلحات للكاشاني، الجمع شهود الوحدة فى الكثرة، ويسمى عالم الجمع، وحضرة الجمع، ومقام الجمع، وهو أن تشهد الذات بحسب واحديتها المحيطة بجميع الأسماء والحقائق.
    وسمي بالمشعر الحرام لأن العرب في الجاهلية كانت تشعر عنده هداياها، وعند ابن عربي(151) كما قال: لنشعر بالقبول من الله في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات، ووصفه بالحرمة لأنه في الحرم، فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله، فإنه من جملته، فأمر بذكر الله فيه، يعني بما ذكرناه، فإن الشيء لا يذكر بأن يسمى، وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات المحمدة، فإن الأسماء في أصل الوضع إنما هي أعلام للمسمى بها، لا نعوت، فلا يذكر بالاسم العلم إلا للتعريف، لتعلم من هو المذكور بما ذكرته من المحامد أو غيرها. قال ابن عربي في تفسيره عند قوله تعالى في سورة البقرة، {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (152) والمشْعر هو محل الشعور بالجمال المحرّم من أن يصل إليه الغير، ويقول حقي(154) في تفسيره روح البيان: والمشعر العلم، أي للعبادة، والشعائر العلامات من الشعار، وهو العلامة، ووصفه بالحرام لحرمته، فلا يفعل فيه ما نهى عنه، وفيه يسرى الإيمان من القلب إلى جوارح الإنسان ومشاعره وما نهله الإنسان في عرفات. "المشعر الحرام هو البرزخ بين عرفة ومنى والبرزخ بين العرفان والعمل، ففي عرفة يعرف الإنسان نفسه من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ وفي منى ينتقل إلى مرحلة العمل حيث الصراع مع الشيطان الواقعي والشيطان الصوري ثم الشكر بالهدي والحلق أو التقصير، ولكن رغم ذلك لابد من وجود برزخ بينهما يصل الإنسان فيها إلى مرحلة الشعور والإدراك، فيعلم ماذا سيفعل وكيف يفعل، فالشعار يتوقف على الشعور، فالبُدن شعار{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ...} (153) ولكن تقوى القلب هو الأساس الذي يكتسبه الإنسان في المزدلفة { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } (154) ومع وجود التقوى يتمكن الإنسان من تعظيم الشعائر الإلهية".
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -131 روح البيان، حقي، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -132 البحر المديد، ابن عجيبة، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -133 لطائف الإشارات، للقشيري، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -134 حقائق التفسير السلمي، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -135 حقائق التفسير السلمي، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -136 لطائف الإشارات القشيري، عند تفسير الآية 97 من سورة آل عمران.
    -137 حقيقة العبادة عند ابن عربي، 253
    -138 الحج رؤية عرفانية. مرجع سابق.
    -139 البقرة 158.
    -140 عند تفسيره للآية 158 من سورة البقرة في كتابه البحر المديد.
    -141 الجمعة 9.
    -142 لطائف الاشارات.
    -143 حقائق التفسير.
    -144[الآية: 158] البقرة.
    -145 روح البيان.
    -146 الفتوحات المكية، ص 625/ج2.
    -147 أسرار العبادات، سعيد القمي130.
    -148 الفتوحات المكية، ابن عربي ص 625/ج2.
    -149أسرار العبادات سعيد القمي ص 131.
    -150 أبو يزيد البسطامي، المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق قاسم محمد عباس ص 154.
    -151الفتوحات المكية، ص629/2
    -152 البقرة 198
    -153(الحج/36).
    -154(الحج/32).

  8. #8
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 51
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    منى، أرض الأمل والرحمة والفضل والكرامة واستجابة الدعاء وطلب سعادة الدنيا والآخرة. (155) و"موضع التمني وبلوغ الأمنية-أي تمني بلوغ القربة والزلفة- فإنها أيام شرب وتمتع ونعيم، فهي جنة معجلة" (156) ومن قوة التمني الذي سمى به منى، أنه يبلغ بصاحبه الذي هو معدوم مما تمناه، مبلغ من عنده ما تمناه هذا المتمني بالفعل على أتم الوجوه،كالمتمني فعل الخير ولو لم يعمله فإنه ينال مرتبة العامل بالنية، لأن أول ما يظهر في القلب الذي هو بيت الله في طريق السلوك إليه، هو التمني، ثم يظهر ثانيا في الأسباب والأعمال الموصلة إليه. (157) وسميت بذلك لما يمنى فيها من الدماء، وقيل: لما يُمنى فيها من الدعاء، وقيل: لتمني إبراهيم فيها أن يجعل الله مكان ابنه كبشاً يأمره بذبحه فدية له، فأعطاه الله مناه... وكل حركة مسبوقة بشوق طبيعي أو إرادي يتسبب عن تمني الوصول إلى القصد. يسمى منى.(158)
    الرمي، هو عبارة عن النفس والطبع والعادة، فيحصبها، أي يفنيها ويذهبها بقوة آثار الصفات الإلهية، وإذا رمى الجمار، رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة في الدنيا والعقبى، (159) قال ابن عربي: الجمرات الجماعات، وكل جمرة جماعة أية جماعة كانت، ومنه الإستجمار في الطهارة، ولهذا استحب له أن يكون أكثر من واحد حتى يوجد فيه معنى الجماعة.... فإن العرب لا تقول في الحجر الواحد أنه جمرة. والجمرة الواحدة سبع حصيات، وهو تعداد أيام الأسبوع المسماة عند ابن عربي(160) بالجمرة الزمانية، قال: وكونها ثلاثة، بإزاء ثلاثة معان - للحضرة الإلهية- الذات، والصفات، والأفعال، ورمي الجمرات مثل الأدلة والبراهين على سلب، كحضرة الذات، أو إثبات، كحضرة الصفات المعنوية، أو نسب أو إضافة، كحضرة الأفعال، فدلائل الجمرة الأولى لمعرفة الذات، لأنها تسلب عن الله الصفات السبع، وهي: الإمكان، والجوهرية، والجسمية، والعرضية، والعلية، والطبيعة، والعدم، والتي يحاول الخاطر الشيطاني أن يلقيها في قلب الإنسان، ليخرج عن دائرة التنزيه، ومن تم التوحيد، فسلب هذه الصفات السبعة عنه يؤدي إلى تنزيه الله عز وجل، وأنه واجب الوجود لنفسه، وغير مفتقر إلى أحد، وبذلك يعرفه الحاج في مرتبة الأحدية،(161) ثم يأتي إلى الجمرة الثانية وهي حضرة الصفات المعنوية، ليثبتها بحصياته السبعة التي يرمي بها، وهي الحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والسمع، والبصر، والكلام، وهي في حق الإنسان مجاز، أو أسماء صفات بتحققه وجوديا في الإنسان، أو يتجلى الله بها على الإنسان، ومن ثم، فإن رمي الحصيات في هذه المرتبة يدحض الأدلة العقلية على ذلك، فإن التجلي الإلهي بوحدانيته، لا يعرف عقلا كما يحاول الخاطر الشيطاني أن يروج، ولكن يذاق روحيا حسب الحال. (162) ويطيل التثبت في ذلك، وهو الوقوف عند الجمرة الوسطى، والدعاء عندها، ثم يأتي الجمرة الثالثة، فيرميها بسبع حصيات، ففي الباطن تعطى معنى الأفعال السبعة، فالمولدات، والعناصر، والفلك، والجن، وجوهر الهباء-أي الهيولي- والنفس الكلية أو اللوح المحفوظ، والعقل الأول، أو القلم الأعلى..وكلها مما يطلق عليه الحق المخلوق به، فهي مرتبة وسطى بين الذات والمخلوق، وهذه المرتبة الوسطى مهما تعددت مسمياتها فهي تفتقر في وجودها إلى الله تعالى، أما في الباطن فنعتقد بأن وجودها متوقف على الله تعالى، (163) فشعيرة الرجم لها أبعاد ثلاثة، البعد الفقهي وتكفلت بتبيانه كتب الفقه، والبعد الأخلاقي، ويتجسد في مقارعة طاغوت الباطن والنفس الأمارة بالسوء، والطواغيت من شياطين الجن والانس، فرمي الجمرات الثلاث هي في الواقع طرد طاغوت النفس والذي يشكّل اكبر خطر على الإنسان، وطرد شياطين الجن، وشياطين الإنس، (164) والبعد الروحي، ويشير إلى إدراك الله معرفيا في ثلاث مراتب، الأولى: مرتبة التوحيد، حيث الذات الإلهية في موقع العزة والكبرياء، والثانية: مرتبة الاشتراك المجازي أو النسبي في الصفات،والثالثة معرفة الوجود، أي معرفة البرزخ بين الألوهية في وحدانيتها أو في اشتراكها، أو معرفة الحقيقة التي تتوسط عالم المعاني المجردة، وعالم المحسوسات. (165) "وسميت الجمار جمارا كما قال ابن الكلبيّ: لأن آدم كان يرمي إبليس فيجمر من بين يديه، والإجمار الإسراع. وهي ثلاثة: الجمرة الصغرى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة-الكبرى. وسميت الجمرة الأخيرة بالعقبة لأنها مدخل منى من الغربة وهي أقرب الجمار إلى مكة".
    قال الإمام الغزالي في الإحياء، 319/1 وأما رمي الجمار فاقصد به الإنقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية، وانتهاضا لمجرد الإمتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه، ثم اقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام، حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأمله، فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به، فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان، واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان، وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيما له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.
    الحلق، أن يحلق رأسه من أذى الأنانية، ووسخ الكبر، تواضعا لله، واستهلاكا لديه، وهو أولى من التقصير عند الصوفية جريا على رأي الفقهاء القائلين بوجوب الحلق، والشعر مثل الشعور، قال ابن عربي في الفتوحات المكية: (166) فإلقاء الشعور، هو إزالة الشعور بوجود العلم. فتخطي مرحلة الشعور لا بد فيها من إزالة الشعر، لأن الشعر ستر على الرأس، والشعور ستر عن الفناء والتجلي الإلهي، ومن تم يجب إزاحة الغطاء، شعر وشعور، فتكون حلاقة الشعر، والفناء في الملكوت الأعلى استمدادا للعلم الحقيقي.(167) فإذا حَلَقَ قطع كلَّ علاقة بقيت له، (168) ونزع كل انطباع للصور الكونية في قلبه المانعة لقبول تجلي الحق(169) والتقصير هو السير من عالم الملكوت إلى عالم الناسوت، ومن لذة الروح إلى لذة الجسم، ومن الوحدة إلى الكثرة، والتقصير تحليل بعد التحريم.(170)
    النحر، هو قربان مقرب إلى الله، وشكر له عز وجل، فينوي بذلك تسريح روح هذا الحيوان من سجن هذا الهيكل الطبيعيّ المظلم إلى العالم الأعلى، عالم الانفساح والخير، فإن الحيوانات كلها عندنا ذات أرواح وعقول تعقل عن الله، ولهذا قال فيها تعالى {كل قد علم صلاته وتسبيحه }(171) فسرّحنا أرواح هذه الحيوانات في هذا اليوم شكرا لله، كما خرجنا نحن فيه من حال التحجير، وهو الإحرام الذي كنا عليه إلى الإحلال والتصرّف في المباحات المقربة إلى الله بحكم الاختيار. (172) وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتَقَرَّب به إلى الحق سبحانه، (173) فيذبح بُدْنة عقله، أو بقرة نفسه، أو شاة قلبه، لكل أحد ما يصل إليه وسعه، ويستحضر مقامه. (174) قال أبو بكر الوراق: الحكمة فى البدن وما ذكر الله من شعائره فيه وحصول الخيرية، وهو تطهير بدنك من جميع البدع والمخالفات، وقتلها بسيوف الخوف والخشية، وأن تجعل التقوى شعارها، والرضا دثارها فإذا فعلت ذلك كان لك فيه أوائل الخيرات وهو أن يفتح لك السبيل إلى الله وإلى الخيرات، وينور قلبك اليقين ويطهر سرك عن طلب كل شىء سوى الله حقائق التفسير للسلمي عند تفسير الآية 36 من سورة الحج. قال ابن عربي في تفسيره { والبدن } أي: النفوس الشريفة العظيمة القدر { جعلناها } من الهدايا المعلمة لله { لكم فيها خير } سعادة وكمال { فاذكروا اسم الله عليها } بالاتّصاف بصفاته وإفناء صفاتكم فيه، وذلك هو النحر في سبيل الله { صواف } قائمات بما فرض الله عليها، مقيدات بقيود الشريعة، وآداب الطريقة، واقفات عن حركاتها واضطراباتها { فإذا } سقطت عن هواها الذي هو حياتها وقوّتها التي بها تستقل وتضطرب بقتلها في الله { فكلوا } استفيدوا من فضائلها وأفيدوا المستعدّين والطالبين المتعرّضين للطلب من المريدين { كذلك سخّرناها لكم } بالرياضة { لعلكم تَشْكرون } نعمة الاستعداد والتوفيق باستعمالها في سبيل الله. وقال ابن عجيبة في تفسيره: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } وتعظيمها: اعتقاد التقرب بها، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان، رُوي " أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب". وأن عمر رضي الله عنه - أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار -. وقيل: شعائر الله: مواضع الحج، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها: إجلالها وتوقيرها، والتقصد إليها. وقيل: الشعائر: أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها: القيام بها ومراعاة آدابها. { فإِنها } أي: فإن تعظيمها { من تقوى القلوب } أي: من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب، لأنها مراكز التقوى. قال إسماعيل حقي الدوسوي في روح البيان: وفيه اشارة الى قربان بهيمة النفس عند كعبة القلب وانه من أعلام الدين وشعار أهل الصدق في الطلب وان الخير فى قربانها وذبحها بسكين الصدق.
    طواف الإفاضة ، بالإضافة إلى مر معنا من كونه صلاة إلهية، فإن ابن عربي جعل طواف الإفاضة شكرا لله ، ليرانا محلين كما يرانا محرمين على جهة الشكر له، حيث سرّح أعياننا، وأباح لنا التصرّف فيما كان حجره علينا، (175) وهو عبارة عن دوام الترقي لدوام الفيض الإلهي، والإفاضة: الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبع بقوة، ثم استعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة، (176) من سورة البقرة. وتعني أيضا عند ابن عربي كما في تفسيره، الاتجاه إلى ظواهر العبادات والطاعات وسائر الأفعال الشرعية والمعاملات، أي الدخول في عموم الناس، وقد قيل للجنيد في هذا المقام، ما النهاية؟؟ فكان جوابه: الرجوع إلى البداية.
    ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
    -155 الحج رؤية عرفانية
    -156 ابن عربي، الفتوحات المكية، 634/2
    -157 سعيد القمي 130
    -158 سعيد القمي 130.
    -159 لطائف الإشارات، القشيري.
    -160 الفتوحات المكية، 632/2
    -161 حقيقة العبادة عند ابن عربي، كرم أمين أبو كرم 263
    -162 حقيقة العبادة عند ابن عربي، كرم أمين أبو كرم ص 264
    -163 حقيقة العبادة عند ابن عربي، كرم أمين أبو كرم ص 264
    -164 الحج رؤية عرفانية
    -165 حقيقة العبادة عند ابن عربي، ص264
    -166 (634/2 )
    -167حقيقة العبادة عند ابن عربي، ص 254
    -168 القشيري، لطائف الإشارات
    -169 أبو يزيد البسطامي، المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق قاسم محمد عباس ص 154
    -170 الحج رؤية عرفانية
    -171 النور41
    -172 الفتوحات ص635/2
    -173 لطائف الإشارات القشيري.
    -174 القمي ص 133
    -175 الفتوحات 635/2
    -176 البحر المديد لابن عجيبة عند شرح الآية 198
    أكتفي بهذا القدر، وأتمنى بعد رجوعي من الحج أن أضيف إلى ما دونته من قراءات خاصة لمنسك الحج زوائد نافعة، وفوائد راقية، والله أرجوا أن يحقق رجائي في طباعة هذه التحريرات في مؤلف خاص، وما ذلك على إرادة الله ببعيدة.

  9. #9
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    قولك
    فالصوفي في تجربته الروحية الذاتية يرى بحدسه الباطني حقائق دقيقة يكابدها في طريق الوصول إلى الله،
    \
    أراه يختصر لنا عزوفنا نحن المتلقين لخطاب ابهم علينا صاحبه الغاية من الخطاب
    تقول ان الكلمات لم تسعفه لحمل المعاني
    فكيف تريدنا ان نعي معه مايريد ايصاله لنا في خطابه
    هل نحمل امر القول على ظاهره فلا نصل مع اللغة و تعرجاتها الى غاياتها
    ام تريدنا ان نكتفي باقرار سلامة النية مما يقول ونترك المعنى في قلبه وحسن النية لقلوبنا المنصتة لخطابه الصوفي
    \
    المقال طويل جدا ً
    لولا جعلته في حلقات ليتسنى لنا المتابعة الدقيقة

    للتثبيت

    للكم المذهل من المتون الناضجة التي حواها المقال الثري
    الإنسان : موقف

  10. #10
    الصورة الرمزية سلطان السبهان شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2004
    الدولة : شمال الجزيرة !!
    المشاركات : 3,808
    المواضيع : 145
    الردود : 3808
    المعدل اليومي : 0.52

    افتراضي

    كلام طويل جدا مليء بالتكلف
    وخصوصا ما جاء في عسف عنق شعيرة رمي الجمرات فهي مجرد كلام تخيلي لا دلالة ولا ترابط فيه وإنما تكلف ظاهر .

    ها ما رأيته ودام الود
    ما دام أن الموت أقرب من فمي
    فمجرّد استمرار نبضي معجزة .........

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. فتوى شرعية.. بوجوب وحدة الأمة وتحريم سفك الدماء والاعتداء على دور العبادة
    بواسطة عبدالصمد حسن زيبار في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 02-04-2008, 09:57 AM
  2. صباح الخير (53) شعبان والفرق بين العبادة والعقيدة
    بواسطة ريمة الخاني في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-09-2006, 11:19 AM
  3. رؤية فكرية في المقاطعة الثانية ( الدنمارك) أنموذجا
    بواسطة المقدام في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-01-2006, 08:49 PM
  4. قيام رمضان و درجات العبادة
    بواسطة عبلة محمد زقزوق في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-10-2005, 01:42 AM