هي مغالطات أو إشكاليات أدبية وفكرية كبيرة - ربما ..
- وربما كانت مآسي يُسطـّرها الكاتب ويذهب ضحيتها طالب المعرفة- القارئ الحديث البريء-
الذي تتكرر أمام ناظريه وعلى مسامعه فيعتادها فتقنعه فينقلها بدوره-وعلى حسن نية-إلى بيئته العربية الصغيرة الفقيرة التي تسمع وتـُسبّح الله ..
فمثلاً : عندما يقول أحدنا هذه " ثقافتنا الإسلامية " فهو في هذه الحالة مُـخطئ من الناحية الأدبية والفكرية- من غير شك ، ومذنب من ناحية أخرى ولا ريب ؛ لاسيما إذا كان يعني ما يقول . إلا أن الأمر- بالطبع- يختلف
عندما يتعمد الإنسان ذلك الخطأ مؤقتاً -لإيصال رسالته - نزولاً عند ثقافة سائدة لا يملك تصحيحها .
فعندما نقول " الثقافة العربية " فإن ذلك مفهوم لا غبار عليه- لغوياً وأدبياً- مع بقاء الغبار على الجانب الفكري منه . ولكن ليس دقيقاً-
بل إنه ليس صحيحاً بالمطلق أن نقول " ثقافة إسلامية " ؛ لأن ذلك خلط كبير وتوظيف خاطئ لمفهوم الثقافة ،
وهو في الوقت ذاته تجن على المعتقدات والتشريعات الإسلامية السماوية .
حيث أن ثقافة الإنسان هي جزء لا يتجزأ منه - سواءٌ فسدت أخلاقه أم صَلُحت ؛ وهي تظهر للآخرين جلية وكاملة- تطبع صورته وترسم معالم شخصيته ، فتعكسها رغباته وميوله وحصيلته المعرفية .
ونجد أن الإنسان لا ينفك يُحاول إخفاء بعضٍ من مظاهر ثقافته -لاسيما عندما تبرز عيوبها - أمام ثقافات أخرى .
أما معتقداته الدينية فهي على النقيض من ثقافته ؛ حيث أنها لا تظهر للآخرين كاملة وجلية ؛ وهو عادة يُحاول إثبات وجودها ويُـحاول كتابة ثقافته وتبريرها مستنداً إلى علاقتهما .
فالثقافة إذن مادة أدبية فكرية جماعية تفاعلية متطورة متجددة- يشترك في إيجادها وتطويرها عقل الإنسان وعاطفته - وفق تجاربه واحتياجاته وميوله ورغباته وإمكاناته ...
أما المعتقدات الدينية فهي مؤثرات معنوية روحية خارجية لا تنبع من عقل الإنسان ، وإنما تخاطبه من خارجه لتصحح ثقافته وتـَحُـدّ من غروره ، وتـُخطـّط له سياج حريته ، وتـُحـدّد له سقف طموحاته التي لا يرى ما وراءها من سلبيات جسيمة أثناء سعيه لبلوغ إيجابياتها العقيمة .
وكذلك فهي تـُعـرّف الإنسان بناموس الحياة ، وتُطلعه على بعضٍ من أسرار كينونته- فيتفاعل معها وفق رجاحة عقله ، وبمساعدة كبيرة من القضاء والقدر .
ولما كانت الثقافة عبارة عن صورة حياتية آدمية ، وجُـملٍ أدبية لغوية- ينحتها ويكتبها الإنسان على بعض صفحات التاريخ والجغرافيا- بيد جماعية- لتعكس ميول وتفاعل وقدرات العقل البشري فيتم نسخها وتطويرها على هيئة عادات وتقاليد وموروثات فكرية ، وتعاطٍ مع البيئة .
فإن الحضارة وفقاً لذلك ستكون هي الأثر والصورة العملية المنظورة والباقية لتلك الثقافة .
والثقافة تتأثر بالمعتقدات الدينية ولكنها لا تـُنسب لها ، لأنها لا تعكسها ولا تـُعبـّر عنها . وبصورة أخرى يمكننا أن نقول أن حقيقة التفاعل القلبي والالتزام الحسي والعقلي بالمعتقدات الدينية وتعاليمها - هي مسألة فردية لا يمكن لأحد إثباتها للآخرين عن نفسه ، كما أنه لا يمكن للآخرين نفيها عن أحد يدعيها ، كذلك فإنه لا يمكن لأحد فـرْضها على آخـر ، لأنها تـُمَـثـّل حقيقة الإيمان- ذلك الأمـر الذي لا يعلم بُعده الروحي إلا الله ثم ذلك الإنسان الذي يدّعي الإيمان .
أما الثقافة فهي تنبع من الإنسان وتظهر عليه ، ولا يستطيع إخفاءها عن أعين وعقول الآخرين . فالثقافة هي مفاهيم وقناعات ونظريات بشرية انعكست على واقع المجتمع وأخذت منه اسمها .
وبالنتيجة فإن : ما يأتي بعد " قال الله وقال الرسول " هو من المعتقدات التي لا تقبل الجدال وليست في حاجة إلى نقاش - لدى الإنسان الذي يؤمن بالله ويؤمن بذلك الرسول ..
شريطة الاتفاق والإجماع على فهم المقاصد لما قال الله ، وثبوت صحة ما يرد عن الرسول . ويكون الاستدلال بها من أجل تأكيد صحة الأمر وسلامته وضرورته .
بينما الاستدلال بما " قاله المثقف ، أو المفكّـر- ومن خالفه أو وافقه .. فتلك أمـور تخضع للنقاش ويصح فيها القول والقولان . ويكون الاستدلال بها من قبيل الاستنارة الفكرية والمعلوماتية غير الملزمة .
وأود أن أخلص إلى نتيجة من شقين :
الأول : أنه لا يخامرني شك في أن الخلط بين مفهوم الثقافة ومفهوم المعتقد الديني ، واقترانهما لغوياً - صراحةً أو اصطلاحاً- لهو أمرٌ على درجة كبيرة من الخطورة .
فهو يُكسب الثقافة البشرية شيئاً من قداسة المعتقد الديني -وهي لا تستحقه- فيحـدُّ ذلك من- أو يحول دون- انتقاد الثقافة وما تحمله وتنشره من تقاليد سيئة ومفاهيم اجتماعية جاهلية يسودها النفاق تحت اسم المجاملة ؛ والكذب والخداع تحت مبرر الضرورات ... الخ .
والأخطر من ذلك أن هذا الخلط يُوظِـّفُ الدين أحياناً لتبرير انحرافات أتباعه- الناجمة عن انحراف ثقافتهم-عندما تفرض الثقافة نفسها واقعاً على حساب مبادئ الدين .
والثاني : أن الإفراط في الاستدلال بأفكار الآخرين- سواء السابقين أو المعاصرين- لإثبات صواب أفكارنا وكأننا ندرأ بذلك النقد عنا قبل حصوله ، أو كأننا نبحث عن شرعية أدبية لما نكتب ، وكأننا نعترف أن ما نكتبه لا يحمل روحاً أدبية خاصة به تـُعبّر عن المفكّـر الجديد الذي أبدعها ... بدل الاعتماد على المنطق والموضوعية والواقعية لإثبات مهاراتنا ومواهبنا الفكرية ، أدى بنا إلى أن أضحت بعض كتاباتنا المسماة "فكرية " لا تعدو أن تكون نقلاً للبيانات من موقع إلى آخـر ؛ وحتى صرنا نخلط المقالات الفكرية بالتثقيفية .
إن اعتماد غالبية الكتـّاب والمفكّـرين العرب المسلمين- على أفكار ونظريات وكتابات غيرهم للتسويق لأنفسهم ، قد أفرغ كتاباتهم من مضمونها الفكري ، وجعلها دعاية لأفكار ونظريات الآخرين .
إن النظريات الفكرية والأيديولوجيات الفلسفية القديمة-على أهميتها وما قدمته من حلول للإنسانية في أزماتها عبر العصور ... إلا أنها تبقى رافداً ثقافياً محدود الفائدة للفكر . بل إن التركيز عليها بما يُشبه محاولة إثباتها من جديد ، وهي التي تـدّعي فك الطلاسم الفكرية ووضع الحلول النهائية في مختلف المجالات ..
إن ذلك يؤدي إلى جمود الفكـر وفقدان الرغبة والدافع للإبداع والتجديد .. خاصة في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي يبدوا أنه لم يجد مقاسه في أسواق الفكـر ، فاستسلم إلى أزمات مستديمة- احتمت فيها سلبيات الثقافة بقداسة الدين ، واختفت فيها الشهامة خلف سياج الفقر ، وطمرت براكين السياسة ما بقي من معالم الإنسان .
ألقاكم بخير أيها الأحباب ..