كل شئ تمام
بقلم: دكتور/محمد فؤاد منصور
كنت قد أنهيت يومى تقريباً..لم يبق رسمياً سوى نصف ساعة على إنقضاء اليوم الأخير من الأسبوع أو بالأحرى الساعة الأخيرة من اليوم الأخير من الأسبوع..معظم العاملين بالذات النساء منهم كنّ فى حالة تأهب للإنصراف ..كالمعتاد دفعن صفية سكرتيرتى لجس النبض.. تشاغلت فى الأوراق أمامى وأنا أسمع وقع خطواتها ذات الأيقاع المثير يرن فوق أرضية السيراميك..بدأت السيناريو المحفوظ بالسؤال المعتاد:
_ تحب أساعد حضرتك ياكمال بيه ؟
بأقتضاب قلت:
_ متشكر ياصفية أنا خلصت تقريباً.
تضاحكت وهى تنثنى لترتب الأوراق المتناثرة فوق المكتب
_مش معقول كده ياكمال بيه ..حضرتك بتبذل مجهود كبير فى الشغل.
نظرت إليها من فوق النظارة المعلقة بأرنبة أنفى.. وقفت بحيث يبدو قوامها الممشوق وجسدها البض مثيراً للخيال والأحلام..أشحت ببصرى وأعدت الحملقة في أوراقى وأنا أردد:
_ المسئولية ياصفية .. المسئولية صعبة.
بدا الحوار مكرراً ومحفوظاً وكأنما أستدرجتنى للمقدمة المعتادة.
_كفاية كده النهاردة..ممكن الباقى يتأجل ليوم السبت النهاردة الخميس وحضرتك ماأرتحتش من الصبح.
كأنما لمحت شبح أبتسامة ماكرة وذات مغزى وهى تضغط على عبارة"النهاردة الخميس"
_خلاص..فاضل حاجة بسيطة.
_طيب بعد أذن حضرتك ممكن أحنا نستأذن..حضرتك عارف مسئوليات الستات بالذات يوم الخميس..
مرة أخرى ضغطت على كلمة "الخميس" عادت للكلام الموحى والأبتسامة الماكرة وأنحنت فى حركة مثيرة بدت عفوية لتلتقط ورقة أطاحت بها المروحة إلى منتصف الغرفة فلم يعد هناك بد للتخلص من الموقف سوى أن أشيح بيدى بنفاد صبر
_خلاص..خلاص ياصفية أتفضلوا ..مع السلامة.
كأنما نطقت بكلمة السر فلم أكد أنهى العبارة حتى لف الصمت المكان..غادر الجميع المبنى وحتى الرجال لم يعدموا الحيل,مندوب الصرف تعلل بالذهاب لتفقد الشيكات المتأخرة بالبنك وأمين المخزن أستأذن هو الآخر ليراجع الطلبيات التى لم ترد من المخازن ..لم يبق عملياً فى الإدارة سواى أنا والحاج حامد المعاون المكلف بغلق المكاتب بعد إنتهاء العمل..حتى حامد نفسه لم يلبث أن جاء يتمسح بباب الغرفة كأنما يستعجلنى لكى أنصرف بدورى فقال وهو يفرك أصابعه:
_أعمل لسعادتك قهوة؟
_متشكر ياحامد هات كباية ميه.
أنصرف اللعين بعد أن تأكد أنه ليس فى الوقت متسع لقهوة ولا لشاى ولم تمض لحظات حتى عاد بكوب الماء وأبتدرنى قائلا ً:
_سيادتك مش هاتروّح بقى.؟
زغرت إليه مستغربا.ً.
_ جرى أيه ياحامد حتى أنت مستعجل.
_أبدا بس سيادتك النهاردة الخميس..
لم أدعه يكمل.
_فيه أيه ياحامد أحنا فى مدرسة والا أيه ؟
_أبداً ياباشا.. بس آخر الأسبوع الواحد بيبقى هلكان علي الآخر.
أشرت له بيدى ليصمت ..لم يبق فى المكان سوانا أذن ويبدو أنه لامفر من الإنصراف بالفعل..لفّ الصمت المكان وأنا أجمع ماتبقى من أوراق..فى هذه اللحظة بالذات قطع الصمت من حولى رنين التليفون المتصل وكأنما هو الآخر يتعجلنى للرحيل ,فى تكاسل من أنهى للتو أسبوعاً مشحوناً بالمعاناة وحرق الدم رفعت سماعة التليفون لأجد المدير العام يصرخ على الطرف الآخر:
_ أرفعوا درجة الأستعداد..لاينصرف أحد.. الوزير هنا وهو يمر على بعض الوحدات الآن ..ومن الجائز أن يمر عليكم .. أرجوك ياكمال..لاتدع أحداً ينصرف قبل الوقت .. الكل يلزم مكانه.. النظافة,أهتموا بالنظافة ..كل موظفة على مكتبها وكل موظف كذلك لاداعى للتجمع والرغى بلا مناسبة...
مرت عينى سريعاً على المكاتب الفارغة من أصحابها وبقايا السندويتشات وأكواب الشاى الفارغة متناثرة فى كل مكان ,وكأنما أصابتنى عدوى الصراخ فى التليفون فصحت:
_اطمئن يافندم كل شئ تمام..نحن جميعاً موجودون ونؤدى عملنا على خير وجه..أطمئن تماماً.
عاود الصراخ من جديد حتى أرتعشت أسلاك التليفون.
_وحياة أبوك ياكمال مش عايز مشاكل..ولادقيقة مبكراً ..مفهوم ولادقيقة, إن أمكن بعد الوقت المحدد بدقائق ..من يدرى ربما كانت ساعة الوزير غير مضبوطة ..أعنى .. أقصد.. ربما كانت ساعاتنا نحن غير مضبوطة..فاهم ياكمال إنه يمر الآن.
_ فاهم يافندم أطمئن تماماً..أنهم جميعا أمامى ويسمعوننى جيداً ..كل واحد فى مكانه,معالى الوزير هنا وربما يمر علينا الآن ..
ثم صرخت ليسمعنى المدير العام على الطرف الآخر.
_نعم الآن ..ماالغريب فى ذلك ..كل واحد يلزم مكتبه..أطمئن يافندم..كل شئ تمام..
دكتور/محمد فؤاد منصور
الإسكندرية