يَجْلِسُ فِي مَقْهًى عَتِيقٍ، عُكَّازُهُ يُقَاسِمُ الْمَارَّةَ الزُّقَاقَ، يُحَيُّونَهُ، يَبْتَسِمُونَ فِي وَجْهِهِ، طَلَبَاتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَلَبَاتِ الزَّبَائِنِ، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّهَا مَجَّانِيَّةٌ مُنْذُ أَنَّ حَلَّ بِالْقَرْيَةِ قَبْلَ عَشْرِ سَنَواتٍ، يُنَادُونَهُ الْبَطَلَ حَتَّى نَسَوُا اسْمَهُ الْحَقِيقِيَّ، كَثِيرًا مَا تَحَلَّقُوا حَوْلَهُ كَيْ يَرْوِيَ لَهُمْ بُطُولَاتِهِ فِي الثَّوْرَةِ، يَنْفُخُ شِدْقَيْهِ، يُزِيحُ رَأْسَهُ إِلَى الْخَلْفِ كَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي أَمْرًا بَعِيدًا، وَيَسْرِدُ لَهُمْ قِصَصًا لَا تُصَدَّقُ، فَلَا يَنْفَضُّ الْمَجْلِسُ حَتَّى يَفُضَّهُ، وَيُغَادِرُ بِعَيْنَيْنِ لَامِعَتَيْنِ، مَرَّتِ الْأَيَّامُ عَلَى دّيْدَنِهَا، دَخَلَ كَعَادَتِهِ مُنَادِيًا صَبِيَّ الْمَقْهَى كَيْ يُحْضِرَ قَهْوَتَهُ، نَادَاهُ إِمَامُ الْمَسْجِدِ: اقْتَرِبْ يَا بَطَلُ كَيْ نُعَرِّفَكَ عَلَى جَارٍ جَدِيدٍ حَلَّ بِقَرْيَتِنَا، صُعِقَ عِنْدَمَا رَآهُ، كَانَ يَضَعُ نَظَّارَةً سَوْدَاءَ وَآثَارُ الْحُرُوقِ تَحْكِي مَأْسَاةً أَحَاقَتْ بِوَجْهِهِ، عَادَتْ بِهِ الذَّاكِرَةُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَشْؤُومِ الَّذِي فَقَدَ فِيهِ رِجْلَهُ، كَانَ سَاعَتَهَا يَسْرِقُ خِزَانَةَ بَيْتٍ نَزَحَ عَنْهُ أَهْلُهُ بِسَبَبِ الْحَرْبِ، دَخَلَ عَلَيْهِ شَاهِرًا بُنْدُقِيَّتَهُ، طَالِبًا مِنْهُ التَّوَقُفَ، اسْتَجْدَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ، وَجَدَ بِجَانِبِهِ إِنَاءً بِهِ سَائِلٌ رَمَاهُ فِي وَجْهِهِ، انْطَلَقَتْ رَصَاصَتَانِ لِتَخْتَرِقَا رِجْلَهُ، خَرَجَ يُهَرْوِلُ وَدَمُهُ يَلْهَثُ خَلْفَهُ، تَلَقَّفَهُ الثُّوَارُ فِي الْخَارِجِ وَهُمْ يُرَدِّدُونَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ جَرِيحٌ جَرِيحٌ، وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الْمُسْتَشْفَى وَقَدْ وَدَّعَ رِجْلَهُ، انْتَشَلَهُ شَيْخُ الْمَسْجِدِ بِقوْلِهِ: مُدَّ يَدَكَ يَا بَطَلُ، مَدَّ أَصَابِعَ مُرْتِجِفَةً بَارِدَةً، حَيَّاهُ: أَهْلاً بِأَبْطَالِ الثَّوْرَةِ، رَدَّ التَّحِيَّةَ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ كَسِيرٍ، قَالَ الْأَعْمَى: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، صَوْتُكَ لَيْسَ غَرِيبًا عَنِّي، اسْتَلَّ يَدَهُ مُتَلَعْثِمًا: رُبَّمَا رُبَّمَا، خَرَجَ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ قَهْوَتَهُ، فِي الْيَوْمِ التَّالِي وَجَدُوا عُكَّازَهُ مُعَلَّقَةً عَلَى بَابِ دَارِهِ، لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ.