التقيا على صفحات (الفيس بوك)، لم تكن تعرفه، تطورت علاقتهما، صارا يحكيان كل ليلة عبر شاشة صغيرة، وأحرف متناثرة، وأصابع تكابد قسوة لوحة المفاتيح العمياء، مرت الأيام، فاح عطرها في أنفه، تاقت عينه لأن تكتحل بمرآها، دعته بسحر الأنثى، لبى بجنون الذكر، استعد إلى لقائها، أخرج بذلته القديمة من خزانته المتهالكة، شدّ بنطلونها بأن نام فوقه إلى الصباح، مسح بعض البقع التي التصقت بالسترة ببعض الماء والملح، أخرج زجاجة العطر التي لم يشترِ غيرها في حياته، نثر رشة يتيمة، أعادها إلى أكفانها، خرج يسير على مهل حتى لا تنثني ملابسه، بل أصر على عدم ثنيها بأن ظل واقفًا في الحافلة على الرغم من المقاعد الشاغرة، كان يبتسم طوال الطريق كي يحافظ على ظنه بأنه وسيم، دخل مبنى الصحيفة التي تعمل بها ارتبكت خطواته حتى كاد يقع، انتبهت إلى الصوت، أطلت بوجهها الصبوح وابتسامتها العفوية وعينيها الحزينتين اللتين تبينان حجم معاناتها من حبها الأول، حشرج صوته في صدره متمتمًا بكلمات فهمت منها أنه يسألها عن الآنسة نجاة، أجابت: سعد؟
سقطت شفته السفلى بشكل يوحي بالبلاهة من فرحه بأنه لم يطل بحثه، كأن حملاً انزاح عن كاهله، مدت أناملها الرقيقة لتعانق يده الغليظة، فذابت فيها.
دعته إلى الجلوس بعد أن نهضت صديقتها عن الكرسي المقابل لها لتتنازل له عنه، جلس كتلميذ لم يكمل واجبه المدرسي، انتشلته من صمته بسؤالها: كيف قهوتك؟
كأنه كان ينتظر ذلك: قليل من السكر.
مرت من أمامه، التهمها بعينيه من ورائها، غابت قليلاً، حاول أن يستعيد أنفاسه وشجاعته التي خانته عند المدخل، عدل من هيأته، وضع رجلاً على أخرى ليواري تقبًا في البنطلون لم ينتبه إليه قبل خروجه، تظاهر أنه يتأمل مكتبها.
جلسا يحتسيان القهوة، كانت تسترق إليه النظر، فيفاجئها بنظرة مباغته، تخفض ناظريها، تحدثا في السياسة في اللغة في الأدب في الصحافة، لكن لم يدر بينهما أي حديث عن الحب، بعد حديث ليس بالطويل، صارت الجلسة مبتذلة، تحولت إلى مسرحية سمجة في فصلها الأخير، نهض يستأذن، مد يده كي يعتصر كفها من جديد، ممنيًا نفسه بأنه صار فارس أحلامها، بينما كانت تقول في نفسها: ماذا فعلت بنفسي؟، ألا لعنة الله على (الفيس)، سأحطم جهازي اليوم، وأعتزل.
تلكأ في خروجه لعلها تفصح عن موعد جديد، لكنها التفتت إلى أوراقها التي على المكتب ترتبها، وهي تكاد تبكي.