ضوضاء
كَانَ أَمْرًا اعْتِيَادِيًّا فِي حَّيِّنَا أَنْ تَصْدُرَ بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ مِنْ بَيْتِ سِيَادَتِهِ , وَدُونَ أَنْ يَكُونَ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالأَشْخَاصِ أَيَّةُ قِيمَةٍ تُذْكَر .
فَتَارَةً كَانَ صِيَاحًا دَاخِلِيًّا , مَجْهُولَ الأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبِينَ , وَتَارَةً صُرَاخًا مُوَجَّهًا إِلَى الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ ...وَغَالِبًا كَانَ تَأْنِيبًا شَدِيدَ اللَهْجَةِ ( بِعِبَارَاتِ دَاخِلَ أَقْوَاسٍ ) لِلْمُرَافِقِينَ , الَّذِينَ كَانَ مَوْقِعُهُمْ فِي مَدْخَلِ الْبِنَاءِ ,وَقَدْ آنَسْنَا هذا وَتَقَبَّلْنَاهُ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ كَأَمْرٍ وَاقِعٍ(وَكَأَنَّ بِيَدِنَا أَلَّا نَفْعَل !!!) , رَاضِينَ بِمَا قَدَّرَ الله .
أَمَّا الْيَوْمَ , فَقَدْ كَانَ اسْتِثْنَائِيًّا بِكُلِّ اْلْمَعَايِيرِ، فَالتَّارِيخُ يُشِيرُ لِإحْدَى لَيَالِي رَمَضَانَ , وَالْوَقْتُ بُعَيْدَ السُّحُورِ , وَقَدْ أمَّ الْجَمِيعُ فُرُشَهَمْ أَوْ كَادُوا , لِيَنَالُوا قِسْطًا مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ تَوَجُّهِ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى مَيْدَانِ خِدْمَتِه . وَحَتَّى سَبَبُ الضَّوْضَاءِ الْيَوْمَ كَانَ مُخْتَلِفًا , فَمَصْدَرُهَا كَانَ مِنْ شُرْفَةِ بَيْتِ سِيَادَتِهِ , وَمُصَدِّرُهَا كَانَ مُدَلَّل الْبَيْتِ الَّذِي لَمْ يَتَجَاوَزْ الثَّالِثَة مِنْ عُمُرِه , فَقَدِ انْفَجَرَ بِالْبُكَاءِ , وَبِسَفَهٍ قَلَّ نَظِيرُهُ . خَرَجَ الْجَمِيعُ يَسْتَطْلِعُونَ الْأَمْرَ، ثُمَّ يَنْتَظِرُونَ إِيذَانًا مِنْ سُمُوِّهِ بِأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّوْمِ، وَهُوَ يَأْبَى ,وَيَعْلُو زَعِيقُهُ .. وَهُمْ ( وَمَعَهَمْ نَحْنُ بِالطَّبْعِ ) عَلَى جَمْرِ الانْتِظَارِ وَالْمَرَارَةِ يَصْطَلُون ...!!!
وَلُوحِظَتْ فِي الْأَثْنَاءِ حَرَكَةٌ دَؤُوبَةٌ غَيْرُ اعْتِيَادِيَّةٍ فِي مَبْنَى سِيَادَتِه , فَكُلُّ طَاقَمَهِ اسْتَنْفَرَ,وَهَبَّ لِمَدِّ يَدِ الْعَوْنِ وَلَكِنْ هَيْهَات.
ثُمَّ ظَهَرَتْ مُفَاجَأةٌ لَمْ تَكُنْ بِالْحُسْبَانِ صَدَمَتِ الْجَمِيعَ !!! فَقَدْ شَاهَدَ أَغْلَبُ الْقَوْمِ رَجُلًا يَرْتَدِي ثَوْبَ النَوْمِ ( الروب ) , وَهُوَ يَحْمِلُ الطِّفْلَ يُهَدْهِدُهُ قَاطِعًا الشُّرْفَةَ الْوَاسِعَةَ جِيئَةً وَذَهَابًا ..
نَعَمْ .. لَعَمْرِي هُوَ , بَلْ أُقْسِمُ إِنَّهُ هُوَ بِجَلَالَةِ قَدْرِه !! سِيَادَتُهُ (بِلَحْمِهِ وَشَحْمِه) هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ الطِّفْلِ , وَقَدْ كُنَّا لَا نَكَاُد نُشَاهِدُ سِيَادَتَهُ إِلَّا قَلِيلًا عَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ , وَنَادِرًا عِنْدَمَا يَخْرُجُ أَوْ يَدْخُلُ سَيَّارَتَهُ بِحِمَايَةِ جَمْهَرَةٍ مِنْ الْعَضَلَاتِ الْمَفْتُولَةِ، فَنَلْمَحُ طَيْفَهُ مِنْ بَيْنِ الْجُمُوعِ . لكِنَّنَا الْيَوْمَ نُشَاهِدُهُ مُبَاشَرَةً وَدُونَ حَوَاجِزَ بَشَرِيَّةٍ أَوْ آلِيَّة, نَعَمْ , وَقَدْ أَقْلَقَهُ بُكَاءُ طِفْلِهِ الْمُعْجِزَة، حَتَّى تَفَتّقَ ذِهْنُ سِيَادَتَهِ الْأْلَمَعِيِّ عَنْ فِكْرَةٍ جَهَنَّمِيَّةٍ , يُسْكِتُ بِهَا سَيِّدَنَا الصَّغِير !
أَثْنَاءَ هذِهِ التَّطَوُّرَاتِ , كَانَ يُمْكِنُ وَبِوُضُوحٍ مُلَاحَظَةَ الْكَمِّ الْكَبِيرِ مِنَ الإِرْهَاقِ وَالنُّعَاسِ وَالتَّمَلْمُلِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ الْمُنْتَشِرينَ عَلَى الأَسْطِحَةِ وَالشُّرُفَاتِ , وَقَدْ كَانَ الظَّلَامُ قَدْ شَرَعَ بِالرَّحِيلِ وَبَدَأَ قُرْصُ الشَّمْسِ يُهَيِّئُ إِطْلَالَتَهُ، وُكُنْتُ لِأَسْتَطِيعَ أَنْ أُقَدِّرَ حَجْمَ الآمَالِ وَالأُمْنِيَاتِ فِي وُجُوهِهِمْ , بِتَوَقُّفِ الطِّفْلِ المُنْفَجِرِ عَنْ البُّكَاءِ . وَلَقَدْ سَمِعْتُ جَارَنَا فِي الشِّقَّةِ المُجَاوِرَةِ , ذَلِكَ الرَّجُلَ المُسِنَّ المُتَدَيِّنَ الهَادِئَ وَهُوَ يَجْأَرُ بِالدُّعَاءِ : " اللهُمَّ هَدِّئْ مِنْ رَوْعِهِ .. وَعَافِهِ .. وَامْنَحْهُ الرَّاحَةَ وَالسَّكِينَةَ وَالرِّضَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " وَالكُلُّ يُؤَمِّنُ خَلْفَه ..!!
لكِنَّ سِيَادَتَهُ أَبَى إِلَّا أَنْ يَحُلَّ المُشْكِلَةَ بِطَرِيقَتِهِ الخَاصَّةَ المُبْتَكَرَة ..!! فَأَمْسَكَ بِمَفَاتِيحِ سَيَّارَتِهِ الفَخْمَةِ , وَأخَذَ يُوَجِّهُ جِهَازَ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا ,وَيُشَغِّلُ أَجْهِزَةَ الإِنْذَارِ ذَاتِ الأَصْوَاتِ الَّتِي تَكَادُ تُوقِظُ أَهْلَ القُبُورِ..!! ثُمَّ يُوَجِّهُ فِلْذَةَ كَبِدِهِ المُوَقَّرَ لِيُشَاهِدَ وَيَسْمَعَ وَيَأْنَسَ وَيَلْهُو .. فَيَصْمُتَ الوَلَدُ , فَيُخْرِسُ الأَبُ سَيَّارَتَه , فَلَا يَلْبَثُ أَنْ َيُعودَ الطِّفْلُ لِلْبًكَاءِ وَعَلَى مَوْجَةٍ صَوْتِيَّةٍ أَعْلَى , فَيَعُودَ الأَبُ الْحَنُونُ العَطُوفُ لِمِثْلِ مَا بَدَأَ بِه . وَالْكُلُّ يُرَاقِبُ فَاغِرًا فَمَهُ ،وَيَدْعُو وَ.......( وَلكِنْ كلٌّ بِقَرَارَةِ نَفْسِهِ طَبْعًا )..
اسْتَمَرَّتِ الأَحْدَاثُ العَجِيبَةُ هذِهِ , حَتَّى جَاءَ الفَرَجُ وَالْحَلُّ الدَّائِمُ النَّاجِعُ بَعْدَ مَا يَرْبُو عَلَى سَاعَتَيْنِ مِنْ المُعَانَاةِ الجَمَاعِيَّةِ ..!! حِينَ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مُتَّسَعٌ لِتَجَرُّعِ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ . فَهَا هِيَ سيارةٌ فارهةٌ تَصِلُ إِلَى الْمَكَانِ , وَخَرَجَتْ مِنْهَا سَيِّدَةُ الْبَيْتِ الْمَصُونُ وَبَعْضُ صَحْبٍ بِرِفْقَتِهَا . .. نَعَمْ .. لَقَدْ وَصَلَتْ وَوَصَلَ مَعَهَا الْفَرَجُ , وَالْمُشْكِلَةُ حُلَّتْ نِهَائِيًّا بِقُدُومِهَا المُبَارَكِ الْمَيْمُون ..!!
تَنَاهَى إِلَى أَسْمَاعِنَا فِيمَا بَعْدُ , أَنَّ السَّيِّدَةَ الفَاضِلَةَ , كَانَتْ فِي مَأْدُبَةِ سحُورٍ رَسْمِيَّةٍ عَلَى هَامِشِ مُؤْتَمَرٍ تَرْعَاهُ سِيَادَتُهَا , وَأَعْتَقِدُ أَنَّنِي كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ شَيْئًا عَنْ هذَا المُؤْتَمَرِ مِنْ خِلَالِ الْلَافِتَاتِ الَّتِي تَوَزَّعَتْ فِي أَرْجَاءِ المَدِينَةِ , وَالَّذِي انْعَقَدَ تَحْتَ شِعَار : " الْقَضَاءُ عَلَى الضَّوْضَاءِ , جُزْءٌ مِنَ الْحِفَاظِ عَلَى الْبِيْئَة " .!!!!!!!!!!!!!