وبنيت مَوعِدي
10
هل جرَّبتَ يا صديقي يوماً أن تتذوق طعم قطرات المطر في الوهلة الأولى التي ترتمي فِيها على هامة الأرض ؟
هل أحسست بطعمها حين نمت على مِيناءِ وجهك ودفعتها متوضأً بها مراتٍ ومراتٍ ؟
هو ذاته الطعم واللون والنكهة بألوان حواسك الخمس التي تستخدمها حين تمتلك دما ًولحماً مغلفاً وأجهزة متحركة سكنت لساعات .
فتلقي بها على سقف البر
وتمضي
أصعب ُمن هذا أن تُودعَ خصلةً من قلبك في نفاية ِالفضاء.
وأصعبُ منهُ أن تترَكهُ للهواء ولضغطة التراب ، لغصَّته في حلقك ثم عشاءُ ديدان _لست مدَّعواً إليه _ وفنَاء .
××××
سأحكي لك عن دواعي كتابتي عن صغيرتي التي استسلمت للحياة بعد عدة محُاولاتٍ فاشلة منِّي ومن زوجتي لإيداعِ اسمي الوحيد في بنوكِ هذه الدُنيا ، كنتُ أحلم أنني أسكن القمر و أعيش في قصرٍ فسيح امتلكته قرضاً غير قابل للسداد ، ولي عائلة كبيرة مُفلطحة و ناعمة في الآن نفسه.. كنتُ أستمتع كثيراً بحكاية هذه القصِّة لصغيرتي كلماَّ طاف النوم ُحول عينيها ،و أحقنها بها لأسحب من أوردتها قطرات الأرق المتبقية فيها فتستسلمُ بين يدَّي وتحكيني في أحلامها .
كانت تكبر معي يوماً بعد يوم ،لم يحدث أن كبرت هي وصغرت أنا أو كان العكس ، فربما كان تناسبنا الطردّي في الزمن معياراً ممتازاً لقياس مدى اختلِافنا عن هذا العالم الذي كلما ازددنا جرأة على اقتحام جزيئات الأيام ، كان يزدادُ هو انزواءً وانكماشاً وخواءً.
ظلَّت طفلتي تكبر مع أحلامها وابتساماتها وغضباتها وكبريائها و ألعابها التي أهديتها لها في صباحاتٍ جائعة ، لم تكن تحفظُ تواريخ ذكرياتها معي ،لم يكن عقلها الصغير قادراً على ترتيب هذه الذكريات في طابورٍ مُستقيم ، كل ماكانت تفعله أن تستلم منِّي الهدية وترسل من صندوق بريدها رسالةً قصيرةً مكتوبةً بحبر صوتها أو أن تكتفي بابتسامةٍ مُحرجة لأترجمها بلغةِ الحروف إلى كَلام.
يوماً ما ، لم تعد صغيرتي
أو بمعنى أصح لم يعد الزمان ليقتنع بها كطفلةً صغيرة ، فقد توقف عن قبول المزيد من الرشاوى مُسبقة ِالدفع ،و التسهيلات والتمديدات لمهلة ِبقائها حيَّه في وطن الطفولة .
فَصَّل لها هذا الزمن الخياط زياً موحداً و ممغنطاً ثم أجبرها على ارتدائه وكتب في اقامتها مهناً متعددة ليست منها ..وألقاها في طريق الحياة ،كعمالة مخالفة لأنظمة الحَقيقة ،ثم قام بالتبليغ عنها !
تمددَّت صَغيرتي حتى فاقتني طولاً ، وحين جاء دور الجزر قلصها الوقتُ إلى شكلٍ اسطوَاني يدور ويدور بفعل حركة سبابةٍ بسيطة التأُثير عليه بِلا بداية ولا انتهاء.
حينها فقط ..أدركتُ أنَّ المَحبة لاتعني الالتصاق ، أنهَّا لاتعني أبداً مرض التوحد مع آَخر هو نفسك مرفوعاً إلى الأس اثنين
كان حبي لها حكاية مختلفة تماماً عن حبي لأمها ،كان حُباً قديماً منفياً إلى أجلٍ مسمى قبل قدر الإله في أن أغُرر بها في فخ الحياة ، حُبٌ مجهول لضميرٍ غائب مبني على الفرح المتُصل بكل مِنحةٍ ملائكية يهديها لنا الله.
في حُبي لها سألتُ العاشقين عن حب جيني لا تعبثُ به الطفرات ، ولا تُمثلُّه المتسلسلات ، سألتُ دماء رُوحي عن حمضٍ وراثي لهُ طعم الحمضيات ، أو حمض وراثِّي آخر ينتسب إلى فخذ البرمائيات ، مُزدوج البيئه والإِحساس والحنين.
كانت ككلِ الأشياء في هذة الدنيا توجد أولا ًصغيرة مغمورة في كأس ماء تنبت من في كفِّ العمر ثم تشبُّ وتزُهر في عصرها الذهبي ، وتتوالى عليها الأيَّام بنوعيها الطازجة والبائتة ، ثم تَنتهي بعد أن تَقص شريط البداية لحكايةٍ رحلةٍ أخرى .
كنتُ لها أباً وخالاً وعمَّاً وشقيقاً وزَوجاً وصديقاً وعشيقاً ، كنتُ شخصاً واحداً في عدةِ شخوص ، رجلاً لكل ِ المفردات ، لكلِ الطقوس ِوالفصولِ والحِكايات ، أحمل بين ذاتي مجموعة من الذوات المتلونة بألوان الطيف البريء ..
كانت لها أم ، ولكنني كنتُ لها أماً أيضاً، أجلس على دكة الاحتياط لأغطي فترات عملي لديها في مستشفى الأبوة مسائيةً كانت أو ليلية ، أحمل على وجهي فعلاً مضارعاً مبنياً للمعلوم ،و أخفي في داخلي ضميراً مستتراً مبنياً للمجهول ، لأُعرب حالاتي معها .
أتساءل عن أنواع الحيوات ، تلك التي عاشتها ، وأسألُ عن أخرى لم تدركها ولم تعِ كنهها ، أستفسرُ عن الأشياء التي لم أعلِّمها إيِّاها ، وأَبكي لأن كل هذة الكوكبة من الحنان والتفاعل ،لم تكن كافية أبداً لصغيرتي كي تعيش حياتَها كما يجب .
علمتها الحب .. ونسيت أن أعلمها أن تمنحه لمن يستحق
علمتها الحرص .. فأكلته كله وأَلقت بقشره في طرِيقها ثمَّ تعثرت به
علمتها كل شيء إلا أن تكون امرأة لحياتها الخالدة .
إنني أعترف أنَّني كنتُ قد أخفقت حقاً في تعليم ابنتي كيف تعيشُ كأُنثى للحياة الخَالدة ، للحب الذي لايموت ، لصداقة لايُفتِتّها الفِراق ، لرجلٍ لا انتظار لحافلته ، لمطرٍ بلا رحيل ولا نسيان ولا حرمان لسنواتٍ عريضة ..طويلة جميلة ..لاتُشبه ياسميننا .
كانت صغيِرتي لا تصلي ، ومن لايصلي.. فقد وقع في بئر الأسرار لوطنٍ عربي كلّه سرٍ كبير ، أَعني أنَّ هَذا الوَطن احتفظ بِأسرارهِ مفشية عند صدر سرٍ آخر يثق فيه ،وكان لهذا السر الآخر سرٌ ثالث ويلتف حُبل الحكاية وتلعبُ الأسرار وتلتف أكَثر ثُمَّ تتعقَّد وتزدادُ حلكة ثم ثم .. ينكشفُ السر!
فلِم وكيفَ ينمو فِينا الكلام المكسي في حواصل مثقوبة من كافة جهاتها ؟ لاتلتصق بصمغ ولاتسد فتحاتها بِقطع تراكيب لعبة متاهات هذه الدُنيا؟!!
تِلك هي طفلتي التي كانت لاتمنح رُوحها شيئاً من وقتها ، تُبذِّرها في مقهى الفراغ , تَكشطُ الساعات ثُمَّ تشحنُ أيَّامها برصيدٍ هائل من الضَياع وتَلوكها كعلكة بيضاء مُهترئه.
رحلت غاليتي
ككل الأشياء التي تسير برتابةٍ على أرض ٍ لا تحتمل ثقل وزنِها ، كان رحيلها مفخخاً ، ثلجياً ، شوكياً ، وساخناً جداً!
غادرت ككومة خشب متعفنة ومحترقة ، كشيء لايشبه أيامي معها . لايشبه أَحلامِي بها ، كعضوٍ مُستأصل من جسدي ليس منِّي ،فأنا لا أعرفه ولم أتعرف عليه ولم يسبق أن التقيتُ بِه ذات يوم!
أَخبرَتني مُغِّسلتُها ( أو على الأصَّح) المرأة التي حاولت تغسيلها ) ، أنهَّا قد فشلت تماماً في محاولاتها لبسط جسدها المُسود والمُتكور عَلى دُكة الغسل ، حاولت أَن تفردها كعجينة فطائر مُثلثَّة ومحشُّوة بلحمِها المَفروم داخل هيكلها الكُروي المُلتف حول بعضه البعض ،لم تكن هي ،أبداً تلك التي صرخت ذات صباحٍ جاءني مسرعاً يحتضنني ليكون أول مهنئ لي على أبوتي ، لم تكن تملكُ وجهاً ولاَ ملامح ولا أيَّة تقاسيمٍ، كانت جسماً أسوداً كروياً ،صلباً ذا رائحة كريهة وغريبة ومنتنة لا تشبهُ شيئاً قَط في دُنيايَ التي أثَّثتها لها .
المفارقة العظمى أنّها جاءت بعدي وسبقتني رحيلاً ، جاءت بعد دموعٍ كثيرة ذرفتها مع والدتها رغبةً بِها وغابت لتخلَّف بعدها دموعاً أكثر حسرةً عليها . فأيُّ غرابةٍ هذة تلك التي تجعلني أَعيشُ فِي جوف حياةٍ حرجه و مُحاطة بِبركِ الدُموع!! ، أقفُ على جزيرةٍ ذات يابسةٍ صغيرة مُحتلة بخيبة ِ أملي فيها ، أو خيبةِ أَملي نفسي !!
حين رحلت ،ضاقت مع رحيلها الأشياء أو لربما كبرت مقاسات شُعوري حتَّى صرتُ أَرى كل شيءٍ صغيرا ، ضاقت حجرتها بأحشائها الداخلية ففشلت كليتها عن العمل ، ضاق المطر فبكى الطفلُ فيه وأبى أن يصمت، ضاقت السماءُ بسحاباتِها وصفاءِ بَشرتِها فغطَّتهُ التَجاعيد وغضُن صوتها ، ضاقت الأيامُ بِي فلفظتني خارجَ وعيِي وعبثت في تقاسيمي كما لفظتها خارجَ رغبتها وحيدة إلا ِّمن الغياب .. عصيِّة عن النسيان .
رحلت .. نعم ، فورثتُ ذكرياتها ، وورثتُ الحنين اليها , بكيتُ بكاءً يروي ظمأي فيزيدني عطشا , كانت كُل الأشياء تبكي على كتفي المِرآة والحائطُ الذي يمسكها ، معصمُ السرير و أعمدته التي تطاولت حَتَّى سجنتني بين فراغاتها ، الجدار الذي يسندُ كُلَّ هذا والجِدار الذي يَلي ذَلك الجِدار ، نَدمتُ لأنيَّ لم أكن يوماً مُعلما ً ورسولا كما كان يقول أحمد شوقي ، وبت أسأل نفسي : (هل كان في كاملِ وعيه حين قالها ؟!و هل هو في الحقيقة لازال يقولها ؟!! لازالَ يعتقد أن المعلم رسولاً ؟!! وأيُّ رسالةٍ تلك التي يحَمِلُها ولم يَكتفِ بوضعِها في يدِ ساعي البريد ليتولَى الأخير حملها وترحالها ؟!!
اليَوم ..أَقفُ على مرآةٍ ميتة وفي وجهها صُورةُ قلبي ،و أجدني مشوياً على بابها أتأمل الفراغات الساكنة ، أَحُل شيئاً من مِسائلها وأَغشُ في أُخرى حالكة الصُعوبة ،أَنظُرُ إلى الهواءِ المفقُوء كبالونة حامل بِطفلٍ عنقودي،تَحملُ حُزناً خارج الرَحم . وتلَده خَارج الذكريات، وتدفنه خارجَ الحياة.
أُعاود الوُقوف على بابها منقوعاً في مياهٍ آسنة ، وأسألُ الذكريات الهشَّة التي ربطت بيننا بخيط عُنكبوتٍ أَسألُ الأغصان المُطِّلة مِن نافذة حجرتها ، أسألُ الأشياء والكائنات وهديل الحماماتِ حولي.. أسأل أمي التي قد ماتت كيف كانَ طعمُ الموت ، هل شاهدته أم تذوَّقته أم أحسَّت بِه ؟!! أم جمعت بين كُل هذا مع أنواع موتاتها السابقة من مرضٍ ونومٍ ،وحُلم ويقظة ،في الحقيقة والخيال؟!
كل ماكنتُ أُفكِّر فِيه وأتساءل عنه عن حَقيقةِ غيابها والفارق بينهُ وبين غيابها الابتدائي حين كانت لاشيئاً يذُكر وحين أصبحت في حضرة ِغيابٍ امتصصنا عصيره وتركنا الباقي .
أتساءلُ عَن لعنتي التي دفعتني لأكتب قصةً قصيرة وجَميلة ثمَّ أختمها بمطر أسود ، وأبكي على غرُبتي في حياةٍ واحدة، لا توائم لها ولا أشِّقاء ولا أُخوة رضاع كمحارم أَبديه لأنُثى الحياةِ الفتية.
حينَ جاءني قفصُها _ جثتها_ تخيلتُها بين يدي أفعى كبَيرة تحضنها بعنف لتُخرج منها حليبا ًمُجفَّفا هُو عظامها ، لم أكن أُدرك أن ثَّمة إعجاباً مرضياً أو فلأقل شُذوذاً يصلُ بأنثى أن تحتضن فتاةً كصغيرتي لتُهلك جَسدها ، لم أتوقع أن تتحَّول كفا صغيرتي التي سكبتُ ووالدتها حالات بقائنا ومحافظنا النقدية عِناية بنعومتها إلى وليمة بكتيرية طُفيلية فطرية !! تخيلتُ فعِلاً أننَّي أبكي أو لربما بكيت فقد كنتُ في حالة لا أتذكرها تماماً ، تتقاطع معي في بعض الأجزاء وتوازيني في أُخرى، تخيلتُ أننَّي بادلتها المكان لساعة فكنت أنا هي وهي أنا ، ظننت لوهلة أنها قد لاتبكي ،لرحيلِ أبٍ لايُصلي ، وستستبدله حتماً بأسمالِ رجلٍ تقتنعُ بهِ حبيباً ثم تتزوجه ، لَن تبكي لأنَّها قَد تُنجِب طَفلاً ليكون أباً لها في مساراتها الخلفية !!، ولم تبكي لأنَّي حَقيقة لم أكن أرى في قطرات عينيها إلا غسيلاً من مطر ، أو ردَّة فعل من شيء اصطدمت به رؤيتها وكان ماكان بحسبِ قانون القُوِّة والجَاذبِّية.
لم أعرفها حقاً حَتَّى حين ابتلعها الغياب ، حين وقف على بابها لصاً متُرصداً لتكميم حياتها ، جاء ليلقنني درساً في المعاني لا أنساه ، وليهبني تذكرة سفر سياحّية طويلة المَدى إلى مُدن الذِكريات ، أعرفُ أنَّ كُل الأَلوان في حكايتي تبدو يتيمة عن أبوةِ الكلام ، أعرفُ أن كلَّ الأَقلام فِي رِوايتي أرملة الصِفات والكلمات فِي حكمة الحياة.
لا استطيعُ إلاَّ أن أقَول وأَن أتُرجم جُثةً هِمت بها طويلاً إلى لغُةٍ خاصِّة يفهمها هذا الكون ، التراب والهواء الكهل .. والريح الخبيثة حيثُ سكنت أخيراً في حفرةٍ خربة ليست هُنا ولا هُناك ،بلا غسيل ولا بياض أكفان ولا صلاةٍ ماطرة بالدموع ولا توبةُ عروس ٍفي حفلِ زفافٍ خفي.
اكتشفتُ أننَّي كنت ُ شريكاً لها في خيانتها لحِياتِها ، مجرماً بحقِ الله وحقِّ نَفسي ، التهبت حوَاسي بجراثيم الخَطيئة ، وبقيت ُ ضعيفاً ومريضاً وبنيتُ موعدي مع الشمس والظل ودفءِ حياةٍ أخرى .
25 / 3/2012 م
حافة صندوق أسود
أؤمن تماماً بأن كثيراً من الذكريات مدن سياحية ، كما تَستقطب الفرح تستقطب الدُموع