دوران..
دخلت مكتبه ست مرات خلال الأعوام الثلاثة التي امضيتها في الثانوية . وبعد التحاقي بالجامعة نسيته وان لم أنسى مكتبه..كان يضع كرة أرضية على يسار المكتب ولوحة نحاسية في الوسط قرب الحافةكتب عليها " مصباح حمامي "وبخط رقعي ارفع تحت اسمه "المدير". وعلى يمين المكتب صورة بالأبيض والأسود تظهره أمام مدخل قلعة حلب
في إحدى المرات جلست على كرسيه البرام الذي كان ضيقا عليه لسمنه الشديد وان كان ارتفاعه ملائم لقامته القصيرة.يملك شارب نحيف كساتر ترابي فوق فمه ويرتدي نظارة غليظة أما حواجبه كانت معقوفة كهلال نحو الأسفل ويملك وجها مستديرا كقرص عباد الشمس ، يستر صلعته بشعر جلبه من الجهة اليسرى يطير كتنورة فتاة مع الهواء .حاولت تدوير الكرة إلا إنها كانت جامدة فنبهني ابنه الذي رافقته للغرفة بأنها لن تدور فقد ثبتها والده.
عرفت من ابنه وكان زميلي في الصف بأنه غيور، مستبد برأيه، ومحب لكتب التاريخ.و أنه يكره تناول الطعام مع والده لأنه يؤكله بيده ويلح عليه ولا يدعه حتى يدرك بان ابنه غير قادر على تناول المزيد أو انه بحاجة للتقيؤ.
كان يدخل علينا أحيانا ويعطينا درسا عوضا عن مدرس غائب. نصغي إلى حديثه وأعيننا إلى ابنه الذي يتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه حسب قوله.يحدثنا عن الأدب القديم ويسخر من الشعر الحديث فينتقد نزار قباني والسياب ويمجد جرير والمتنبي ويذمّ الماغوط ويعتز بأبي تمام وكان لا يؤمن بإيمان العجائز فيقول بأنهم لا يملكون القوة للقيام بالسرقة أو ارتكاب الفواحش ..
تذكّرتُ كل ذلك صباح اليوم بعد عشرين عاما.في بيت دلنا عليه سمسار نرغب في شرائه لأختي المترملة وقد باعت بيتها الكبير لتستثمر الفائض في مشروع يضمن قوت أولادها..
تذكّرتُ لما دخلنا الشقة المؤلفة من غرفتين وصالون لا تتجاوز ال65 مترمربعا.حيث أن إحدى الغرف كانت تضم نفس المكتب والكرسي البرام والكرة الأرضية واللوحة النحاسية إلا أنني لم أرى الصورة وقال لنا السمسار بان صاحب البيت مدير ثانوية تقاعد فجلب أشيائه الخاصة من المدرسة وكان يقضي معظم وقته في الغرفة يقرأ في التاريخ ويستمع لاغاني محمد خيري وأم كلثوم ..
وحين سألته عنه أجاب بأنه توفى منذ شهرين وابنه قرر بيع البيت بما فيه..دنوت من اللوحة النحاسية أدهشني بقاء الاسم ببريقه وحين حاولت تدوير الكرة الأرضية وجدتها جامدة ترفض الدوران.