كنت قد جاوزت الثلاثين بقليل ,,, وكأكثر أبناء جيلي لم تتح لي فرصة الزواج لضيق ذات اليد ,, كنا رفقة نتكاتف علي مرارة واقعنا بالسمر والسهر ,,, نتجمع يوميا وننطلق لتجاذب أطراف الحديث علي حدود قريتنا في فضاء واسع يشعرنا بالحرية ولو قليلا ,,, ويطلق لضحكاتنا وسخريتنا العنان ,,, فنفرغ همومنا وألمنا يوميا في تلك الجلسات التي نناقش فيها كل ما سمعناه ورأيناه ,,, عند عودتنا كنا نستشعر أننا قد ألقينا عن كاهلنا كل ما أحضرناه من هموم ,,, لكن مع تكرار الحديث ورؤية نفس الوجوه يوميا أصبنا بالملل وشعرنا بأن طوق الألم قد استحكم في رقابنا ,, فأصبحنا لا نتقابل سوي مره كل عدة أيام وفي ليله من ليال الصيف المضجرة في قريتنا النائية ,,, كنا مجتمعين أنا والصحبة من أقراني في طرف البلدة نتسامر,,, حين هبط علينا ,,, سمعنا صخبا وعراكا مختلطا بخشخشة أصوات متداخلة ,,, قمت استطلع الأمر فوجدته أمامي بأسماله وملابسه عجيبة الألوان ومسابحه الملتفة حول العنق ,, يمسك بيده عصا غليظة يتكئ عليها ,, رفعها في وجهي فورا أن رآني ,,, وسرعان ما خفضها حين لاحت ابتسامة علي وجهي ,,, وانفرجت شفتاه عن ضحكه مجلجلة ,,, وأخذت الأحرف تتطاير من بين ضحكاته وهو يلتفت وراءه فلمحت امرأة تحمل طفل وبيدها أخر تشاركه الضحك وهي تحاول تغطية وجهها بطرف ثوبها ,,, استمرا في الضحك وهما يترنحون إلي الأرض خاصة بعدما أتي أصحابي ,,, وتعلقت أعينهم المحملقة بدهشة بهذين الغريبين وأولادهم .
مرت أيام وهو يأوي إلي خيمة كان فد شيدها عند وصوله قرب ساحة القرية ,,, قوته اليومي يحمله إليه أطفال القرية الذين ألفوه وتوثقت عري الحب بينه وبينهم ,, حكاياته الغريبة وضحكته الطفولية العذبة ,,, مداعباته كلها أشياء جعلتهم يتحلقون حوله يوميا يغنون أغنياته التي يحفظها ويرددها ويقلدون حركاته ونظرات عينيه ,,, يحضرون إليه ما لذ وطاب يلتهمه في نهم ويدفع إلي زوجته وطفليه بالباقي ,, زوجته لا تظهر خارج الخيمة كثيرا لكن صوتها الجهوري وسبابها المستمر له ,,, ولعن اليوم الذي قابلته فيه ينبئهم دوما عن وجودها ,,, كنا نمر بخيمته في ذهابنا وإيابنا نجده محملقا في السماء أو منشغلا بالتهام طعامه ,,, حركته قليلة جدا إن لم تكن معدومة ,,, لم نره إلا جالسا مسندا ظهره إلي شجرة ربط فيها طرف خيمته ,,, يرمقنا بنظره شاردة مبتسما ,,, أحيانا يشير لنا بيده ,,, نعبره إلي وجهتنا والأسئلة تتزاحم برؤوسنا عن سر هذا الرجل الذي هبط علي قريتنا كسكان الفضاء ,,, لا نعرف عنه شيئا ولا عن سبب اختياره لقريتنا ,, لكن دوما كان كل منا يتظاهر بأن الأمر لا يعينه ولا يصرح بأسئلته ,, إلي أن ضاق صدري بتساؤلاتي في ليله هادئة ونحن عائدون ,,, حين لمحته جالسا في هدوء محملقا في القمر,, أسرعت الخطي نحوه ,,, نظرت إليه وأنا القي التحية فتبسم وهو يشير إلي أن أجلس قبالته ,, وبيده الأخرى إلي أذنه كي أنصت ,,, تملكتني الدهشة ,,, لم أسمع شيئا ,,, ظل يهز رأسه في انسجام غريب ,, جلس الباقون قريبا في صمت ,,, همس هل سمعت صوت القمر يوما ,,, أنصت, أنصت جيدا ,, أذن حاول أن تسمعه الآن ,,, أنصت ,, حين صك سمعي الصمت أيقنت أن الرجل به جنه ,,, أو مس من الجن ,,, هممت بالانصراف ,, أبتسم وهو يصيح أتظنني مجنون ,,, لم استطع كتم ضحكتي ,,, أتسع فمه عن ابتسامه عريضة ,, وعلا صوت ضحكته فجلجل صوتنا جميعا في فضاء الساحة بالضحك ,,, ساد صمت بعد برهة قبل أن يهمس تحدث قل ما عندك ,, أطرقت إلي الأرض فقال سأوفر عليك الحرج ,,, أنا يا بني كما تري لا أملك شيئا ,, ولا أتقن عمل شيئا بالأحرى ,, فشلت في كل ما حاولت ,, فهمت علي وجهي بعد وفاة والدي ,, لم أري أمي ,,, جلدتني الحياة بقسوة وها أنا ذا ,,, أغتصبها ,,, أستبيحها ,,,, واستمتع كما يحلو لي ,, لا كما تريد هي ,,, رفع عمامته أشار إلي شعره الأبيض أتري هذا الشيب يا ولدي ,, انه نتاج الحياة الطويلة التي عركتني وعركتها ,,, لست سفيها أو مجنونا ,, لكنني أعيش حياتي ببساطه ,,, فلما اعقد الأمور وأنا قادر أن أحيا دون تعقيداتكم ,,, رفع غطاء كان بجواره وهو يتمتم والآن عليكم الرحيل فقد حضر سلطان النوم ,, ومال بجسده فاردا الغطاء ثم أردف ناظرا إلي أعرف أن لديك أسئلة كثيرة ,,, عد متي شئت ,, وراح في سبات ,,,,
بقيت طوال الليل أفكر في حديثه ,,, وقد شعرت برغبة عارمة أن ألتقية ,, أن أتحدث إليه ,, واثبر أغوار نفسه الغريبة والعجيبة ,,, في الصباح وأنا في طريقي للعمل مررت بخيمته وجدته جالسا يأكل ,, دعاني إلي الطعام,, اعتذرت وأنا أرد سلامه في عجله ,, بقيت يومي منشغلا به ومقلبا للأفكار برأسي ,, بعد عودتي أخذت قسطا من الراحة ,, وقد وطدت العزم أن أجالسه وحدي ,, اعتذرت لرفاقي عن مرافقاتهم ,, توجهت إلي خيمته حاملا معي رغبتي المحمومة في الاقتراب أكثر من عالمه ,,, تبسم حين رآني قادما ورفع عصاه صائحا في الأطفال المتحلقين حوله أن يرحلوا ,,, وليعودوا محملين بالأطايب التي تجود بها أمهاتهم ,,, جلست بقربه ,,, بدا سعيدا لمجيئي,, صاح شاي للأستاذ يا بت ,,, فجاءه الرد سيلا من الشتائم والصياح ,,, سبق خروجها الغاضب ,,, ما أن رأتني حتى غطت وجهها بطرف ثوبها وهي تكمل صياحها ,,, ثم اعتذرت لي وهي تكمل ,, أصل البعيد عامل فيها عمده ,, طيب يقوم يشوف شغله ,,, أو يكد زى كل الرجالة ,, وألا طول عمرنا هنفضل كدا شحاتين ,,, ثم ختمت حديثها لا مؤخذه يا أستاذ أعملك الشاي حالا ,,,
نظر إلي سعيدا وهو يتمتم أرأيت نساء مثل زوجتي في حياتك ,,,,, كتمت ضحكتي وأنا أهز رأسي نافيا ,, قال مستهلا حديثه لقد أحببتك يا بني ,, وشعرت بحيرتك وكم الدهشة الذي بعينيك ,,, وتوقك إلي المعرفة,, أتعلم أنا لم يكن لي يوما صديقا سوي نفسي ,,,,, ربما نصبح يوما أصدقاء ,,, نظر إلي عيناي بعمق وأردف لا تتعجل ,,, سنكون كذلك رأيت هذا في عينيك ,,, والآن تري ما تحب أن نتحدث فيه ,, الحياة ,,,, النساء ,,, السياسة ,,, أم المال,,
تأملته في راحة وابتسامة باهته تلوح علي شفتاي ,,, ثم باغته بسؤال عن زوجته كيف ألتقاها ولم يصبر علي لسانها وسبابها ,,, اعتدل وكأنه يهم بإلقاء خطبه ,, ثم نطق في بساطه وهو يبتسم النصيب يا ولدي النصيب ,,,,, وخفف من حدة صوته وهو يقول وما الفرق يا ولدي ,, النساء كلهن واحدة ,, لمعت دهشة في عيناي ,, لمحها فأقترب من أذني وهو يهمس ألأنثى زهره حين تتفتح تتمني مجرد لمسها ,, ثم تقترب منها وتحاول ضمها واستنشاق عبيرها بحرص ورهبه من أن تتأذي من لمساتك ,,, فإذا اقتطفتها وملكتها تذهب بهجتها ,, وتستشعر وخذ الشوك من فرعها ,, تدمي يدك لكنك لا تقدر علي الآفلات من نسيج حبك لها وحرصك علي قربها .
قطع حديثه إطلالة زوجته ,,, قدمت الشاي وهي تداري ابتسامه خجل بطرف ثوبها ,,, همست إليه لكنك تحبها وهي كذلك علي ما يبدوا ,, أطرق للأرض وهو يتمتم وهل لها غيري أو أنا لي غيرها بهذا العالم ,, بادرته بسؤال عن حياته وهل تعجبه حياة التسول ؟ وكيف لم يتسن له أن يوجد بيتا يؤوي إليه ,, فتبسم وهو يلوح بيده جهة الخيمة أليس هذا بيتا ,, بيتي يا ولدي هو حضن زوجتي ,,, وسكني عيناها ,,, أما هذا الفضاء الواسع فهو ملكي لما احدد واكتفي من ملكوت الله الرحب بأربعة جدران ,,, ومن قال لك أنني أتسول أحد أو اطلب يوما من أحد والله يرزقني ,,, أطرقت للأرض لعدم اقتناعي بما يحاول أن يسوقه من حجج بذكاء حاول الانتقال إلي موضوع أخر ,,, أشاح بوجهه بعيدا وهو يتمتم تري هل سمعت شيئا عن التعديل الوزاري ,,, عانقت الأبتسامه شفتاي وأنا انظر إلي القابع أمامي في أسمال باليه ,,, ويتساءل عن أمر قد لا يهم الكثيرين أو يعنيهم ,,,, لكنني فضلت أن أسايره لأعرف إلي أين يأخذنا الحديث ,,, أجبته نعم هناك تعديلا وزاريا محدودا ,, لكن أيشغلك هذا الأمر؟ لم يجيبني لكنه أردف بسؤال كم بلغ عدد ضحايا إعصار تسونا مي ,,, فغرت فاهي وأنا لا أكاد اصدق الرجل في شبه عزله لا وساءل اتصال بالعالم لديه ,, حتى إنني أكاد اجزم أنه ليس لديه مذياع ,,, ألتفت إلي وهو يبتسم ,, وهمس من جديد لا تتعجب يا ولدي الذي يريد أن يعرف سيعرف ,, والذي يريد أن يتعلم سيتعلم ,, تعثرت الأحرف علي لساني ,, وبقيت ساكنا للحظات ,, ثم باغته بسؤال عن أسمه ,,, ضحك ضحكته العالية وأخذ نفسا عميقا قبل أن يهم بالكلام ,,, يا بني أنا كنت في شبابي أفضل من يرمي بالحدافه ,,, وكي أوفر عليك فهذه بالحدافه عبارة عن حبل طويل مربوط بآخرة قطعة حديد هلالية الشكل ,, نرمي بها لنلتقط الأشياء الساقطة في عمق أو المعلقة في مكان عال كشجره ,,, وكنت أمتهن تلك المهنة إن عددتها مهنه ! وأجني من ورائها قوت يومي ,,,, وسرح بخياله كمن يستعيد مجد الأيام الخالية ,,, وهمهم ببعض الكلمات ,,, فهمت منها كيف كان التصفيق يصم آذانه عندما ينجح في التقاط شيئا ذا قيمه من أول مره خاصة إذا كان هذا الشيء يخص شخص ذو أهميه ,,, ثم انتبه لي وهو يقول لهذا أطلق علي هذا الاسم ولازمني حتى إنني كدت انسي أسمي الحقيقي ,,, نظر مليا إلي عيناي ثم قال وأنت لما لم تتزوج حتى الآن ,,, تبسمت وأنا أجيبه لكن كيف عرفت أنني لم أتزوج ,, قال للعيون لغة لا يفهمها ألا القليل ,,, قلت كيف لي بتكاليف الزواج ,, ومتطلباته ,, هز رأسه في استنكار ,, أذن فقد استسلمت ,, لم اجبه ,, أردف هل رأيت من هو أفقر مني ,, لكني لم ألعن ظروفي ولم أرهن حياتي ,,, قلت لكن كما ارادتني هي أن أعيشها ,,,,,, قلت لكن ربما ظروفك وطبيعتك مختلفة ,,, رد في بساطه ترى من جعلها مختلفة ,,,, أنا ؟ ,,,, لا يا بني لكنني عشتها باختلافها ,,, لم استسلم يوما واقتنصت كل ما هو جميل في هذه الحياة ,, كان الوقت قد تأخر فنظر إلي وهو يغمض عينيه ويتمتم سلطان النوم يا ولدي ,,, تبسمت وأنا أهب واقفا وأقول سأزورك غدا إذا سمحت لي ,,, همس قبل أن يغط في نومه ,, إذا بقيت أنا إلي الغد فأهلا بك ,,, هززت رأسي في تعجب ومضيت,,
في طريق عودتي ظللت اقلب كلامه في رأسي وأقارن بين طريقته في الحياة ونفسه بتركيبتها الغريبة ,,, التي تتعانق فيها كل المتناقضات بانسجام عجيب فيحيا سعيد هانئ البال ,, وبين حياة فرضتها علي نفسي وتقوقعت بداخل إطارها باستكانة دون أن اسعي ولو لمرة واحده إلي التغير ,,, أو محاولة الانفلات من دائرة الاستسلام والضعف التي ألفتها وألفتني ,,, تساءلت في سخريه وأنا استشعر وهنا يخالط قلبي ,, أتراني قادرا يوما علي التحليق ؟في الصباح مررت بمكان خيمته لم أر شيء ,,, اختفت الخيمة والرجل وكأنه حلم وأنقضي ,,, هممت أن أكمل طريقي إلي العمل كعادتي ,,, لكن خطواتي تجمدت ,, كان هناك شيئا قد تغير ,,, وصدي كلماته الأخيرة تطن في أذناى ,,, قفلت عائدا وقد شعرت لأول مره أنني أملك جناحين ,,, وبدا نسيم الحرية يخالط كياني ,,, ويدفعني كي اكسر الطوق الذي ضربته حول نفسي بعد أن دبت الحياة في قلبي من جديد .
تمـت