أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: القطار لا يكذب

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 921
    المواضيع : 189
    الردود : 921
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي القطار لا يكذب

    نعم إنه القطار.
    أوضح له خاله وهو ممسك بيده النحيلة :
    يأخذنا إلى بلاد بعيدة جميلة ،في وقت قصير. يأخذنا إلى أحبابنا الذين يستحقوننا ونستحقهم، فهم من يشتاق إلينا، ومشتاق إليهم.
    ألم تحن إلى جدتك؟
    إنها تشتاق إليك، كثيرا ،منذ أن جاءت لزيارتك العام الماضي .
    . وأمرتني الآن أن آخذك إليها.
    رقص قلب الصبي وهو يتابع تحركات القطارات على أرصفة المحطة الكبيرة.
    تعرف يا خال؟ أنا أول مرة أشاهد القطار !
    كان الصبي مبهورا بما يرى. أسيأخذني إلى جدتي؟؟
    كم أحبها يا خال أتذكرها حين جاءتني.. يوجد الكثير من الحلوى في عباءتها.
    أعندها بيت كبير؟
    سمعتها تحكي عن دجاجاتها وعنزاتها وأرانبها !
    تقافز الصبي إلى جوار خاله فرحا جذلانا. هيا لنركب هيا.
    انتظر .. فليس هذا قطارنا . إنه بعد نصف ساعة من الآن. القطارات، يا بني، تسير وفق مواعيد محددة في الانطلاق والوصول.وهي دائما في موعدها.
    يعني يا خال القطارات لا تكذب.
    ضحك الخال من سذاجة الصبي الغرير، وغرابة منطقه.
    . لم يستشعر الصبي طعم البسكويت بالشوكولا في فمه، إذ ذهب عقله إلى حيث عربات القطار ، فمنها الأبيض ومنها الأحمر ومنها الأزرق.
    ما لون قطارنا يا خال؟
    أو جعلته قطارنا إذن .نعم نعم أليس هو من سيوصلنا لجدتي؟
    حسنا لونه أخضر.
    كل الحلوى واشرب الماء هل تريد ان تتبول؟ .. لا لا .. أنا فرح والحمد لله.
    $$$$
    حين عانقته جدته لأمه؛ عصرته بين ذراعيها إلى صدرها الدافيء. وغمرته بقبلاتها الممزوجة بالدموع.
    أنت أول أحفادي أيها العفريت.
    لعب كثيرا، ونام كثيرا ،وأكل كثيرا. كانت دجاجات جدته وديكهن الأحمر رفقاء لعبه، يسطو على بيضاتهن كل صباح ، فيكسر بعضهن ، وهو يركض بهن إلى جدته ، مبشرا إياها فتسقط منه بعضهن . فتصرخ فيه جدته.
    أيها العفريت اصبر ، ولا تتعجل .
    تأخذ منه جدته البيض لتسلق له الكثير .
    كم أحب الصبي تلك الدجاجات السمينة.
    . وكم أحب عنزاتها اللواتي صرن له صديقات لهوه ورفيقات ركضه.
    كانت جدته تبتسم، ناهرة اياه برفق:
    أيها العفريت. ، انتبه كي لا تزل قدمك وتسقط.
    طارد الأرانب حتى إنزلقت قدمه الصغيرة، فانكفأ على وجهه، ولستر الله ، لم تمسسه حافة الأريكة سوى بخدش سطحي بسيط، ارتعد من رؤية اللون الأحمر على ركبته .ألم أحذرك. لا يهم لا يهم. الخدش بسيط . الحمد لله، الحمد لله.
    استرخى الصبي ليومين كاملين، بحجة ذلك الخدش الصغير، مستريحا يرشف حساء الدجاجات السمينات، ويأكل البيض المسلوق.
    $$$$
    جاء موعد المدرسة.وكان عليه أن يعود. نام الحزن معه في سريره تلك الليلة. لكنه حين تذكر أن سيعود بالقطار، عاودته فرحته الساذجة وسعادته الطفولية البريئة.
    غمرته جدته ، بقبلاتها وأحضانها الدافئة، وأهدته كثيرا من الحلوى والملابس الجديدة، والدجاجات السمينات ،والتمروالفاكهة.
    &&&&
    كانت دموعه المتأرجحة في مقلتيه الصغيرتين ،وتهدج أنفاسه في صدره كالبركان ، وتدفق مشاعره المتلاطمة، واختناق حلقه بغصة بكاء مكتوم، دليلا على غربته وضياعه وفقدانه الأمان بين أولئك الناس؟؟
    لقد استدعت معلمة الحساب أباه إلى المدرسة، تشكو له أن ولده يجيء إلى المدرسة بلا قلم حبر.فيعجز عن متابعة الدرس، ناهيك عن تعطيله لسير العملية التعليمية طوال اليوم، بمشاجرته مع بنت تجلس خلفه.
    وبرغم بكائه الحارق على سرقة قلمه.
    لم تبذل معلمته جهدا يذكر في التفتيش عن قلمه في حقائب وجيوب أقرانه.
    وبرغم شكواه المتكررة من تلك الشيطانة التي تجلس خلفه، وهي تغرسه بدبوسها في قفاه بين اللحظة والأخرى.
    الا أن المعلمة لا تصدقه، ولم تحرك ساكنا لإنقاذه. وتتهمه دائما بالكذب.
    (كان القلم أمامي فوق الطاولة، رفعت يدي لأجيب سؤال معلمتي فوافقت ، وخرجت أمام السبورة ، وكتبت الإجابة لكن المعلمة قالت إنها إجابة خاطئة، فضحك زملائي سخرية مني.
    . وحين عدت إلى مكاني مرة أخرى، لم أجد القلم في مكانه ربما أثناء تحركي قد سقط القلم تحت الطاولة. ولكنني لم أعثر عليه. لم أعثر عليه.
    صاحت معلمتي صارخة في ألا أزعج الدرس بحركاتي، وأن استقر مكاني دون شوشرة.)
    كان صوته متهدجا، وكلماته المتقطعة مختنقة ،بدموعه الحارة.
    أشارت الست الناظرة للمعلمة ، فأصرت الأخيرة أنها سألت جميع التلاميذ المحيطين فأنكروا أخذ قلمه. ثم إن كلهم أبناء حظوة وناس محترمين. وأضافت بأنه غبي ولا ينتبه للدرس، ودائما ما ينظر للخلف.
    أجمع الجميع على كذب الصبي، وضعف مستواه.
    فما كان من أبيه الا أن صفعه على وجنته الغضة السمراء.
    (لم لا تنتبه لشرح المعلمة، وألم أزودك بهذا القلم منذ يومين فقط؟ ثم موجها كلامه للست الناظرة.. هذا الغبي أزوده بقلم جديد كل أسبوع تقريبا . وهو مهمل ولا يستطيع أن يحافظ على قلمه.
    &&&&&
    في طريق عودته ، كانت كفه الصغيرة حبيسة كف قوية خشنة قاسية.كانت خطوات ساقيه النحيلتين ، ترتبك متشابكة متعثرة، لتلحق بخطوات أبيه المتسارعة الغاضبة. فكان أبوه يبادره بصفعة أخرى، شادا ذراعه النحيل حتى ليكاد أن ينزعه .. (أمش يا بن الكلب، يا غبي يا مهمل.).
    من أين أتي لك بقلم حبر كل يوم، يوازي ثمنه ثمن دجاجة؟ أفليس الأولى أن أطعم بثمنه أفواه أخواتك الأربع ؟؟
    والله يا بن الكلب ما أنت نافع.
    من لا يحافظ على قلمه، لا يحافظ على شرفه.
    كانت مبالغات ذلك الأب الغضوب ، لا تصل إلى أفهام ذلك الصبي الرقيق.
    كانت وجوه أقران له يراهم في الطريق ،تتابع في بؤرة دموعه، كان بعضها خائفا مرتعدا، وأكثرها كان دامعا حزينا.ووجه جدته هناك بعيدا في الغمام ،يبشره بخير.
    $$$$
    حينما يجن الليل ، تتسارع دقات قلب الصبي الصغير، وكأنه يرى في ظلام غرفته عفاريتا وأشباحا، تتابع في ظهورها على جدران الحوائط الرطبة. كان ينكمش تحت غطائه الذي بالكاد يستره وأخواته على سريرهم الخشبي المتهالك، فيلتأمون كالعصافير يستدفيء بعضهم ببعض.
    لكن أباه ،كان أن فصله منذ شهرين عن النوم بين البنات، ووضعه على دكة في ركن من الغرفة الضيقة.
    $$$$
    الكوابيس تلازمه ، ودقات قلبه المتسارعة صارت أنيس لياليه المظلمة.
    لكن التعب كان يأخذه عند الفجر ،إلى نعاس ثقيل لايقدر على مقاومته، فيهذي في كوابيسه : المعلمة تكذب يا أبي. المعلمة تكذب.
    وجوه كريهة كثيرة تتهاوى فوق رأسه بقهقهات مخيفة، ووجه جدته يبدو في غلالة السحاب مبتسما، يبشره بكل خير.
    $$$$
    جاءت خطوات أبيه وقد أتى ليوقظه.
    لماذا تأخر هذا الجحش ؟ ألا يعلم بأن عنده مدرسة؟
    فزع الصبي منتفضا ،على يدي أبيه ترفع عنه غطاءه.
    قم أيها الحمار الكسول
    كانت دقات قلبه تكاد تصل عنان سقف الغرفة شبه المظلمة.
    مد الرجل يديه ليرفع الصبي ، فلامست كفاه بللا ما.
    ( ( أفعلتها يابن الكلب.
    حين توالت صفعات الأب عليه وجهه الغص، لم يبك. ولم تذرف عيناه نقطة دمع واحدة. لكن شعورا غريبا بكراهية شديدة لنفسه وللأشياء وللدنيا من حوله ، كان يجتاح قلبه المتسارع النبضات.
    جأ إلى غطائه الدافيء ينام فيه حتى الظهيرة ممتنعا عن عن أي طعام.كاتما بكاءه بين وستئده الخشنة.
    هل كان مريضا، أم متمردا ، أم كارها للدنيا من حوله. هل كانت تشعر به أمه؟ أم شغلتها زينتها التي ما فارقت أدواتها من يدها. بين تمشيط وحواء وعطور؟ ولم تكن تفعل شيئا وأبوه يسحقه تحت أقدامهم لتبوله في سريره، سوى أن تضحك في سخرية مريرة.
    كانت عيناه تستنجدان بها وهي لاهية عنه لا تلوي على شيء. فليس في مقدورها أن تتحمل ركلة من ذلك الثور الهائج.
    ولا في استطاعتها أن تمنعه، فلا أقل من نفاقه ومجاملته ارضاءا لغضبه، واتقتاء لشره.
    نعم هو أبوك ولازم يربيك.
    $$$$$
    جاءت عطلة منتصف العام، كان لابد من تسلمه لشهادة اختبارات النصف الأول. نعم عاد بشهادته. التي حفلت رغم كل ذلك بكثير من علامات التفوق، اللغة العربية، التاريخ،
    الرسم، العلوم.
    فطار قلبه فرحا.
    إلا درس الحساب. فكانت أرقامه محاطة بدائرة بغيضة حمراء. .
    ؛انقبض قلبه الصغير، وتسارعت نبضاته.
    من المستحيل أن يعود إلى البيت. من المستحيل.
    دفعته روح غريبة في طريقه، فانطلق بكل همة واندفاع؛
    وعرج مسرعا إلى محطة القطار. دلف إلى الرصيف. اختبأ بين زحام الركاب. تسلل بينهم إلى عربة من قطارأخضر اللون، وانزوى في ركن آمن خلف المقعد الخشبي . وغفا مطمئنا أن القطارإذا تحرك في موعده، سيأخذه حتما إلى بيت جدته البعيد.
    التعديل الأخير تم بواسطة ناديه محمد الجابي ; 23-12-2022 الساعة 05:47 PM سبب آخر: خطأ العنوان

  2. #2

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 921
    المواضيع : 189
    الردود : 921
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    للاسف لا يمكنني التعديل.
    على إدارة المنتدى التصرف.
    وجب الحذف.
    أعتذر عن الخطأ

  4. #4
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,159
    المواضيع : 318
    الردود : 21159
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ياألهي .. ضاع الصغير...
    أضاعته قسوة أب لا يعرف شيئا عن التربية، ولا يمتلك شيئا من حنان
    وأضاعته ضعف أم لم تشعر به يوما ، ولم توله رعاية أو حماية أو تشعره بالأمان
    وأضاعه ظلم جعله يهذي في كوابيس لعفاريت وأشباح تظهر له على الجدران
    فهرب حيث يتمنى أن يصل إلى جدته منبع الحب والحنان والراحة والأمان
    فهرع إلى القطار ليأخذه إلى جدته ـ فالقطار في عرفه لايكذب ابدا..

    قصة رائعة أخذت بمجامع قلبي على الصغير فدمعت عيني
    حملت إلى جانب السرد السلس والوصف المتقن مغزى عميق هادف
    وحيكت بأسلوب ممتع.. وعليه بصمة ( الحرفوش الصغير)
    دمت ودام حرفك الباهي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,609
    المواضيع : 421
    الردود : 3609
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد نديم مشاهدة المشاركة
    نعم إنه القطار.
    أوضح له خاله وهو ممسك بيده النحيلة :
    يأخذنا إلى بلاد بعيدة جميلة ،في وقت قصير. يأخذنا إلى أحبابنا الذين يستحقوننا ونستحقهم، فهم من يشتاق إلينا، ومشتاق إليهم.
    ألم تحن إلى جدتك؟
    إنها تشتاق إليك، كثيرا ،منذ أن جاءت لزيارتك العام الماضي .
    . وأمرتني الآن أن آخذك إليها.
    رقص قلب الصبي وهو يتابع تحركات القطارات على أرصفة المحطة الكبيرة.
    تعرف يا خال؟ أنا أول مرة أشاهد القطار !
    كان الصبي مبهورا بما يرى. أسيأخذني إلى جدتي؟؟
    كم أحبها يا خال أتذكرها حين جاءتني.. يوجد الكثير من الحلوى في عباءتها.
    أعندها بيت كبير؟
    سمعتها تحكي عن دجاجاتها وعنزاتها وأرانبها !
    تقافز الصبي إلى جوار خاله فرحا جذلانا. هيا لنركب هيا.
    انتظر .. فليس هذا قطارنا . إنه بعد نصف ساعة من الآن. القطارات، يا بني، تسير وفق مواعيد محددة في الانطلاق والوصول.وهي دائما في موعدها.
    يعني يا خال القطارات لا تكذب.
    ضحك الخال من سذاجة الصبي الغرير، وغرابة منطقه.
    . لم يستشعر الصبي طعم البسكويت بالشوكولا في فمه، إذ ذهب عقله إلى حيث عربات القطار ، فمنها الأبيض ومنها الأحمر ومنها الأزرق.
    ما لون قطارنا يا خال؟
    أو جعلته قطارنا إذن .نعم نعم أليس هو من سيوصلنا لجدتي؟
    حسنا لونه أخضر.
    كل الحلوى واشرب الماء هل تريد ان تتبول؟ .. لا لا .. أنا فرح والحمد لله.
    $$$$
    حين عانقته جدته لأمه؛ عصرته بين ذراعيها إلى صدرها الدافيء. وغمرته بقبلاتها الممزوجة بالدموع.
    أنت أول أحفادي أيها العفريت.
    لعب كثيرا، ونام كثيرا ،وأكل كثيرا. كانت دجاجات جدته وديكهن الأحمر رفقاء لعبه، يسطو على بيضاتهن كل صباح ، فيكسر بعضهن ، وهو يركض بهن إلى جدته ، مبشرا إياها فتسقط منه بعضهن . فتصرخ فيه جدته.
    أيها العفريت اصبر ، ولا تتعجل .
    تأخذ منه جدته البيض لتسلق له الكثير .
    كم أحب الصبي تلك الدجاجات السمينة.
    . وكم أحب عنزاتها اللواتي صرن له صديقات لهوه ورفيقات ركضه.
    كانت جدته تبتسم، ناهرة اياه برفق:
    أيها العفريت. ، انتبه كي لا تزل قدمك وتسقط.
    طارد الأرانب حتى إنزلقت قدمه الصغيرة، فانكفأ على وجهه، ولستر الله ، لم تمسسه حافة الأريكة سوى بخدش سطحي بسيط، ارتعد من رؤية اللون الأحمر على ركبته .ألم أحذرك. لا يهم لا يهم. الخدش بسيط . الحمد لله، الحمد لله.
    استرخى الصبي ليومين كاملين، بحجة ذلك الخدش الصغير، مستريحا يرشف حساء الدجاجات السمينات، ويأكل البيض المسلوق.
    $$$$
    جاء موعد المدرسة.وكان عليه أن يعود. نام الحزن معه في سريره تلك الليلة. لكنه حين تذكر أن سيعود بالقطار، عاودته فرحته الساذجة وسعادته الطفولية البريئة.
    غمرته جدته ، بقبلاتها وأحضانها الدافئة، وأهدته كثيرا من الحلوى والملابس الجديدة، والدجاجات السمينات ،والتمروالفاكهة.
    &&&&
    كانت دموعه المتأرجحة في مقلتيه الصغيرتين ،وتهدج أنفاسه في صدره كالبركان ، وتدفق مشاعره المتلاطمة، واختناق حلقه بغصة بكاء مكتوم، دليلا على غربته وضياعه وفقدانه الأمان بين أولئك الناس؟؟
    لقد استدعت معلمة الحساب أباه إلى المدرسة، تشكو له أن ولده يجيء إلى المدرسة بلا قلم حبر.فيعجز عن متابعة الدرس، ناهيك عن تعطيله لسير العملية التعليمية طوال اليوم، بمشاجرته مع بنت تجلس خلفه.
    وبرغم بكائه الحارق على سرقة قلمه.
    لم تبذل معلمته جهدا يذكر في التفتيش عن قلمه في حقائب وجيوب أقرانه.
    وبرغم شكواه المتكررة من تلك الشيطانة التي تجلس خلفه، وهي تغرسه بدبوسها في قفاه بين اللحظة والأخرى.
    الا أن المعلمة لا تصدقه، ولم تحرك ساكنا لإنقاذه. وتتهمه دائما بالكذب.
    (كان القلم أمامي فوق الطاولة، رفعت يدي لأجيب سؤال معلمتي فوافقت ، وخرجت أمام السبورة ، وكتبت الإجابة لكن المعلمة قالت إنها إجابة خاطئة، فضحك زملائي سخرية مني.
    . وحين عدت إلى مكاني مرة أخرى، لم أجد القلم في مكانه ربما أثناء تحركي قد سقط القلم تحت الطاولة. ولكنني لم أعثر عليه. لم أعثر عليه.
    صاحت معلمتي صارخة في ألا أزعج الدرس بحركاتي، وأن استقر مكاني دون شوشرة.)
    كان صوته متهدجا، وكلماته المتقطعة مختنقة ،بدموعه الحارة.
    أشارت الست الناظرة للمعلمة ، فأصرت الأخيرة أنها سألت جميع التلاميذ المحيطين فأنكروا أخذ قلمه. ثم إن كلهم أبناء حظوة وناس محترمين. وأضافت بأنه غبي ولا ينتبه للدرس، ودائما ما ينظر للخلف.
    أجمع الجميع على كذب الصبي، وضعف مستواه.
    فما كان من أبيه الا أن صفعه على وجنته الغضة السمراء.
    (لم لا تنتبه لشرح المعلمة، وألم أزودك بهذا القلم منذ يومين فقط؟ ثم موجها كلامه للست الناظرة.. هذا الغبي أزوده بقلم جديد كل أسبوع تقريبا . وهو مهمل ولا يستطيع أن يحافظ على قلمه.
    &&&&&
    في طريق عودته ، كانت كفه الصغيرة حبيسة كف قوية خشنة قاسية.كانت خطوات ساقيه النحيلتين ، ترتبك متشابكة متعثرة، لتلحق بخطوات أبيه المتسارعة الغاضبة. فكان أبوه يبادره بصفعة أخرى، شادا ذراعه النحيل حتى ليكاد أن ينزعه .. (أمش يا بن الكلب، يا غبي يا مهمل.).
    من أين أتي لك بقلم حبر كل يوم، يوازي ثمنه ثمن دجاجة؟ أفليس الأولى أن أطعم بثمنه أفواه أخواتك الأربع ؟؟
    والله يا بن الكلب ما أنت نافع.
    من لا يحافظ على قلمه، لا يحافظ على شرفه.
    كانت مبالغات ذلك الأب الغضوب ، لا تصل إلى أفهام ذلك الصبي الرقيق.
    كانت وجوه أقران له يراهم في الطريق ،تتابع في بؤرة دموعه، كان بعضها خائفا مرتعدا، وأكثرها كان دامعا حزينا.ووجه جدته هناك بعيدا في الغمام ،يبشره بخير.
    $$$$
    حينما يجن الليل ، تتسارع دقات قلب الصبي الصغير، وكأنه يرى في ظلام غرفته عفاريتا وأشباحا، تتابع في ظهورها على جدران الحوائط الرطبة. كان ينكمش تحت غطائه الذي بالكاد يستره وأخواته على سريرهم الخشبي المتهالك، فيلتأمون كالعصافير يستدفيء بعضهم ببعض.
    لكن أباه ،كان أن فصله منذ شهرين عن النوم بين البنات، ووضعه على دكة في ركن من الغرفة الضيقة.
    $$$$
    الكوابيس تلازمه ، ودقات قلبه المتسارعة صارت أنيس لياليه المظلمة.
    لكن التعب كان يأخذه عند الفجر ،إلى نعاس ثقيل لايقدر على مقاومته، فيهذي في كوابيسه : المعلمة تكذب يا أبي. المعلمة تكذب.
    وجوه كريهة كثيرة تتهاوى فوق رأسه بقهقهات مخيفة، ووجه جدته يبدو في غلالة السحاب مبتسما، يبشره بكل خير.
    $$$$
    جاءت خطوات أبيه وقد أتى ليوقظه.
    لماذا تأخر هذا الجحش ؟ ألا يعلم بأن عنده مدرسة؟
    فزع الصبي منتفضا ،على يدي أبيه ترفع عنه غطاءه.
    قم أيها الحمار الكسول
    كانت دقات قلبه تكاد تصل عنان سقف الغرفة شبه المظلمة.
    مد الرجل يديه ليرفع الصبي ، فلامست كفاه بللا ما.
    ( ( أفعلتها يابن الكلب.
    حين توالت صفعات الأب عليه وجهه الغص، لم يبك. ولم تذرف عيناه نقطة دمع واحدة. لكن شعورا غريبا بكراهية شديدة لنفسه وللأشياء وللدنيا من حوله ، كان يجتاح قلبه المتسارع النبضات.
    جأ إلى غطائه الدافيء ينام فيه حتى الظهيرة ممتنعا عن عن أي طعام.كاتما بكاءه بين وستئده الخشنة.
    هل كان مريضا، أم متمردا ، أم كارها للدنيا من حوله. هل كانت تشعر به أمه؟ أم شغلتها زينتها التي ما فارقت أدواتها من يدها. بين تمشيط وحواء وعطور؟ ولم تكن تفعل شيئا وأبوه يسحقه تحت أقدامهم لتبوله في سريره، سوى أن تضحك في سخرية مريرة.
    كانت عيناه تستنجدان بها وهي لاهية عنه لا تلوي على شيء. فليس في مقدورها أن تتحمل ركلة من ذلك الثور الهائج.
    ولا في استطاعتها أن تمنعه، فلا أقل من نفاقه ومجاملته ارضاءا لغضبه، واتقتاء لشره.
    نعم هو أبوك ولازم يربيك.
    $$$$$
    جاءت عطلة منتصف العام، كان لابد من تسلمه لشهادة اختبارات النصف الأول. نعم عاد بشهادته. التي حفلت رغم كل ذلك بكثير من علامات التفوق، اللغة العربية، التاريخ،
    الرسم، العلوم.
    فطار قلبه فرحا.
    إلا درس الحساب. فكانت أرقامه محاطة بدائرة بغيضة حمراء. .
    ؛انقبض قلبه الصغير، وتسارعت نبضاته.
    من المستحيل أن يعود إلى البيت. من المستحيل.
    دفعته روح غريبة في طريقه، فانطلق بكل همة واندفاع؛
    وعرج مسرعا إلى محطة القطار. دلف إلى الرصيف. اختبأ بين زحام الركاب. تسلل بينهم إلى عربة من قطارأخضر اللون، وانزوى في ركن آمن خلف المقعد الخشبي . وغفا مطمئنا أن القطارإذا تحرك في موعده، سيأخذه حتما إلى بيت جدته البعيد.
    التربية فن، التربية تطلع للأفضل، وطبخ على نار الحكمة...نعم هرب من القسوة ، وربما أنجز بعيدا عنه، كم عباقرة أنتجوا بعد ابتعادهم عما يؤرقهم، وليس بحل على كل حال. فقد يجد حضنا أحن من ذاك، أعاننا وإياكم على ذلك.شكرا لحروفكم.
    فرسان الثقافة

  6. #6
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Nov 2019
    المشاركات : 3,466
    المواضيع : 239
    الردود : 3466
    المعدل اليومي : 2.14

    افتراضي

    مرفوض هو أسلوب القسوة في التربية ـ التربية لا تكون إلا بالحب وبالأحساس، بالود وبدفء العلاقة وبالحنان
    يجب أن نكون قريبين منهم بأجسادنا وقلوبنا فتنمو نبتة الحب من داخل قلوبهم
    فإذا أردنا ان يبرنا أبناؤنا فلنبرهم ونحن عليهم ونحتويهم ـ مع العلم أن الحب ليس بالتغاضي عن الأخطاء.

    قصة رائعة نسجتها بشكل ممتع جذب القارئ للمتابعة بكل حواسه
    نص بديع بيانه، عميق فكره ، بلغة سلسة معبرة ..
    سلمت ودام إبداعك.

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 921
    المواضيع : 189
    الردود : 921
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. نادية الجابي
    تحيات الحرفوش الصغير العاطرة بالود إليك.
    أهلا بك قارئة ومتذوقة وناقدة.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد نديم ; 29-12-2022 الساعة 08:49 AM سبب آخر: خطأ كتابي

  8. #8
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 921
    المواضيع : 189
    الردود : 921
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. ريما الخاني

    أهلا بتواجدكم الثر . العابق بالتذوق الراقي . سعداء لكن وبتعليقكم.

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 921
    المواضيع : 189
    الردود : 921
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. أسيل ...
    تحية مني وفخر لي أن تكوني قارئة وناقدة لحرفي البسيطه.