لم أكن أعلم أن الحياة أقصر مما نعتقد، وأنها تتمدد على قارب صغير يخترق زرقة البحر والموج الطافح بأسرار الأعماق
لا تحاور أوردة شحيحة النبض..
البحر أمي، وأمي هي الحياة، الحب، حبها يجعل الحياة بطعم محتمل، تمنح قلبها شمسا...
لسنوات شغلت عن زيارتها، أما هي فقد كانت تزورني كل عام، لعلمها أنني مقيدة بأطفالي ومسؤولياتهم، إضافة إلى تسلط زوجي ذو المزاج الصعب
منذ خمسة أعوام توقفت عن زيارتي، لكننا كنا نتواصل هاتفيا كل يوم، وقبل أيام صدمت عندما قالت لي صوتك لا يشبه صوت ابنتي ضحى!
اتصلت بأخواتي فقلن لي إنه بداية الزهايمر، بدأ ينهش ذاكرتها، قررت زيارتها وترك كل شيء خلفي...
دخلت عليها وهي جالسة على حافة سريرها، نظرت إلي وقالت من أنت؟
اقتربت واحتضنتها قلت لها: أنا ضحى.. ضحى ابنتك، أخذت تنظر إلي بتمعن واستغراب، لمحت في عينيها طفلة تعاني من الفقد، طفلة ليس لها أب أو أم.. تبحث في ملامحي عن وجه كانت تعرفه..
بعد دقائق قالت بفرح: ضحاااا... واحتضنتني وبكت، وبكيت بفرح حتى أني نسيت نفسي بحضنها.
سهرت في غرفتها حتى وقت متأخر.. صباح اليوم التالي وبعد الإفطار اقتربت منها وقبلت يديها، سألتني من أنت؟
بكيت وأنا أتأمل وجه أمي الذي يطل منه ذلك الطفل الضائع، طفل يحاول أن يلتقط من أطراف الذاكرة أسماء، أمي تردد أسماء لأشخاص لم يعودوا بين الأحياء
أهمس وأنا أدلك قدميها: أمي أنت كنزي الذي أتمنى أن لا أفقده...
قضيت أكثر من ثلاثة أسابيع مع أمي وهي بين النسيان والتذكر، وحين ودعتها للعودة إلى ابنائي بكيت وانهمر الدمع بغزارة..
حتى وصلت لمدينتي وجدتها مغتسلة بالمطر، لم أبتسم إلا عندما شاهدت بعض الناس على الرصيف يستدفئون بالحطب ويثرثرون ويضحكون بفرح
تذكرت المجمعات التجارية والمطاعم الفخمة هناك، والناس الذين يجتمعون ليحاكي كل منهم جهازه الخاص.. وعدت للبكاء حين تذكرت أمي..
أمي عادت طفلة، لكنها طفلة لا تكبر
وحين يصغر الكبار تترك الصور أصواتها حتى يشيخ النسيان..
يرحل وحيدا.. بعيدا .. بعيدا وينهمر...