أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: القطة تأكل صغارها

  1. #1
    الصورة الرمزية تيسير الغصين أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2015
    المشاركات : 137
    المواضيع : 26
    الردود : 137
    المعدل اليومي : 0.04
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي القطة تأكل صغارها

    قصة قصيرة
    بقلم الكاتب القاص
    تيسير الغصين

    القطة تأكل صغارها

    في ليلة شتوية ببردها القارس، وفي معسكر أقيم خصيصا للقوات الفلسطينية التي خرجت من لبنان على أثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982م. على مقربة من بلدة عراقية صغيرة يقال لها (المسيب) آويت إلى سريري الحديدي الصدئ ليس بدافع النعاس والحاجة إلى النوم بقدر حاجتي إلى الدفء عبر ثنايا الفراش المتواضع، لم يكن المكان غرفة في منزل، بل خيمة تعبث بها الريح المسافرة بجنون!!
    البرد كان يتسلل إلى مفاصلي كالمسامير تنخر عظمي .. أحسست بأطرافي ترتجف، وأسناني تصطك بعضها ببعض، مُحدِثةً صوتًا أشبه بخرخرة القطة..جذبت أغطيتي دثرتُ بها جسدي المرتعش، لكني سرعان ما قذفتُ بها بعيدا .. إذ كانت رائحة العرق المتراكم مختلطةً بروائح كريهة أخرى كرائحة البول تنبعث من ثناياها، وانفتح باب الخيمة فجأة حين اندفع تيار من الريح الباردة تُجمد أطرافي من جديد..لا مناص إذن من التحاف تلك الأغطية النتنة، وإلا سقطتُ صريعا لمرض من أمراض البرد يلازمني طيلة سنواتي الباقية ..أغمضت جفنيّ محاولا اصطناع النوم على طريقة ( غوبلز ) في معالجة حربه الدعائية، أقفلت فمي أيضا، ليكف هو الآخر عن صراعه الداخلي، في محاولة مني لإغراء هواجس النوم من استمالة التوغل في غياباته، لكن دونما جدوى ذهبت محاولاتي .. صوت الريح العاصفة في الخارج ومسامير البرد اللاسع، ورائحة الفراش النتن، بالإضافة إلى هواجسي المتصارعة، تضافرت جميعها، فوقفت سدا منيعا بددت نعاسي وأرّقت جفوني فانجلى النوم باحثا عن مُتكأ آخر، ولأن الباب كان مفتوحا على مصراعيه للواعج نفسي المنهكة وخلجاتها، فقد هامت ذاكرتي في استعراض ما حدث لصديقٍ تعرفتُ عليه في مطار بغداد وكانت غايتنا واحدة ..عمل صاحبي مراسلا لصحيفة خليجية، وكان الوقت بعد ظهر أحد أيام شهر تموز الحارقة، عندما بدا الإعياء على وجهه بوضوح !! في حين راحت قطراتُ العرقِ تتصبب من جبهته السمراء متلاحقة غزيرة.. ألقى بثقل جسده فوق حافة سريري ثم همس بصوت أجش مُجهد:
    ـ ألديك ماء بارد ؟؟
    أومأت برأسي، وأشرت إلى صندوقٍ من الفلين الأبيض عادة ما يستخدمه العراقيون لحفظ الثلج، فأسرع إليه وأخرج زجاجة ماء، راح يُفرغ محتوياتها في جوفه على عجل، لكنه سرعان ما توقف عن الشرب، وأخذ يتأمل الماء في تقزز، وذرات الكلس والطين تتسرب أمام عينيه إلى قعر الزجاجة، حدّجني بنظرة حملت الكثير من الدهشة والامتعاض في آن، فسارعت إلى القول:
    ـ اشرب .. اشرب ، صحة وعافية
    قال دون أن يحول نظراته عني:
    ـ إنها قذرة !!
    أومأتُ برأسي قائلا:
    ـ أعلم ذلك ..
    تابع قائلا:
    ـ وملوثة!!
    أومأت برأسي من جديد وقلت:
    - نعم، نعم..
    هتف صديقي بعصبية، والدهشة لا تزال تعقد حاجبيه:
    - إنها غير صحية، ولا تصلح للشرب ؟!!
    أكدت على صحة حديثه بإيماءة من رأسي، فتابع صديقي وهو يكاد ينفجر غيظا:
    - وكيف تشربون هذا الماء القذر؟!
    - لم أتمالك نفسي من الحنق، فانفجرت ضاحكًا:
    ـ مثلما شربتَه أنتَ قبل قليل يا صديقي..
    وتابعتُ:
    ـ ماذا يمكننا أن نفعل؟! نحن هنا جنودٌ، ومن غير المسموح لنا أن نقول غير سمعٍ وطاعة..
    لكن صديقي أعاد الزجاجة مكانها في الصندوق متبرما وهمس قائلا:
    ـ لن أشرب هذا الماء !!
    فانفجرتُ ضاحكاً للمرة الثانية وقلت مؤكداً:
    ـ ستشرب مضطراً بعد حين يا صديقي ..
    ومضى إلى حافة السرير فجلس وكفه تسند وجهة في إحباط وإحساس بالمرارة، ورأيته وهو يمسح دمعة سارعت بالسقوط، حاول مواراتها فسارعت إليه محاولا التخفيف عنه بالسؤال عن أخباره وانجازاته الصحفية وكتاباته الأدبية، رفع إليَّ عينين زائغتين، ثم تلفت حوله في حذر، وهمس والحسرة تعتصر صوته:
    ـ ماذا يمكن أن أقول أكثر من أنها مقبرتنا، وانتزاع لما خبأناه بين جوانحنا لسنوات طويلة .. اليوم تمتد خناجرهم إلى أعماقنا .. إلى القلب منا، لتمزق الشريان الموصل للحياة .. أسقطوا الصورة الجميلة المعلقة فوق الجدار الشامخ .. داسوها بأرجلهم، واستبدلوها بحذاءٍ مهترئ وثقيل، ربطوا عيوننا بعصابة سوداء، ويريدون سوقنا كالأنعام إلى المذبح دون أي معنى .. فلمَ يحدث كل ذلك؟!!
    ثم صمت صاحبي هنيهة مطأطئاً، ليهمس بصوتٍ أجشٍ، بينما ترقرقت في عينيه دمعتان كبيرتان حاول جهده إخفاءهما، ثم تابع بمرارة:
    ـ لستُ أدري لِمَ يكبلون يدي عن الكتابة؟! ..ولِمَ يحيطونني بأسوارٍ من الشائك ويقولون: "عليك أن تبقى هنا، محظورٌ عليكَ الخروج، وممنوع أنت من الزواج إلا بإذنٍ من السلطات العليا!! لا تتدخن باستثناء الرديء منه وما يزيد عن الحاجة .. الدجاج المجمّد ليس من حقك، والبيض إذا أوشك على الفساد يمكنك شراءه، وفي الفجر عليك أن ترتدي حذاء شمواي بني اللون حتى لا تُحسم خمسة أيامٍ من راتبك!!
    جذبتُ الغطاء إلى رأسي من جديد، لعلي أتقي البرد .. صوت الريح تصفر في سمعي حاملة صدى صوتٍ أشبه بمواء قطة، أصغيت السمع أكثر، أجل هو كذلك مواء قطة، يتماوج مع صوت الريح .. هدأت الريح والقطة لا تكفُ عن المواء .. كم يزعجني صوتها!! ما أشد قسوة هذه الليلة وما أحلك ظلامها!!
    .. يتواصل المواء ويتعالى .. ما خطبها ؟! أتراها جائعة لا تجد طعامها !! أم أنها أحست بالبرد فراحت تبحث عن الدفء مثلي!! .. ربما !! ولكن ما ذنبي أنا ؟!
    أينبغي عليَّ احتمال البرد ورائحة الغطاء النتن وصوت الريح في الخارج ، ومواء القطة، واختلاط الصور في ذاكرتي؟!
    ازداد المواء كأنه الصراخ بالفعل مختلطا بصوتٍ أشبه ما يكون التهام طعامٍ لحيوانٍ جائع .. ألقيتُ الغطاء جانباً وأشعلت شمعة، ثم رُحت أتحسس طريقي داخل الخيمة .. هدأت الريحُ فاتضحت ملامح الصورة أكثر، وشيئا فشيئا تمكنتُ من الاقتراب، قطة افترشت خِرقةً بالية في إحدى الزوايا، وبالقرب منها تجمع عددٌ من القطط الصغيرة جدا، والتي بدا أنها ولدتها في التو، أما المواء الذي قضَّ مضجعي وأرَّق نومي فقد كان صراخا بالفعل!!
    كان شيئا مدهشا بالنسبة لي حين رأيت القطة الأم وهي تلتهم صغارها واحدا تلو الآخر بشراهة غريبة!!
    تداخلت الصور والخيالات في ذاكرتي، وأطلّ وجه صديقي من بينها بعينيه الحزينتين وعذابه الدفين تقطر من جبهته حبات العرق ..
    حدّقت النظر متأملا القطةّ المفترسة من جديد، وهي تلتهم صغارها .. هبت الريح مرة اخرى .. فتراقص ضوء الشمعة في يدي ..أسرعت إلى سريري قبل أن ينطفأ ضوؤها فأعجز عن الوصول إلى مضجعي ..
    دسستُ جسدي تحت أغطيتي، قرّبتها أكثر مني .. تمتمتْ شفتايَّ وأنا أجذب الغطاء إلى رأسي أكثر فأكثر .. حتى القطةُ تأكلُ صغارَها!!

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,141
    المواضيع : 318
    الردود : 21141
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ببراعة تعبيرية وباسلوب تصويري مميز نقلت لنا حروفك وجع ذلك المهجر الفلسطيني
    المقيم بمعسكر عبارة عن مخيم تلعب به الرياح لا يمنع برد أو تشعر بداخله بدفء
    تسرب البرد من خلال حروفك لنشعر به في عظامنا وترتعش أطرافنا بحثا عن الدفء
    فلا نجده إلا في ذلك الغطاء النتن الذي لا يدفء ولا يغني من برد.
    وجعلتنا نشرب مع صاحبك تلك المياة القذرة والمرارة تملأ قلوبنا والرياح تصفر في آذاننا
    ونحن نتالم لحاله وحالك وحال كل اهل المعسكر.
    أما ذلك المنظر الأخير فهو المنظر الأكثر إيلاما ـ منظر القطة وهى تلتهم صغارها
    والقطة أسوأ الأمهات عندما تجوع لا تتورع عن أكل صغارها وكان تعبيرك:
    (رأيت القطة الأم وهي تلتهم صغارها واحدا تلو الآخر بشراهة غريبة!!)
    تعبيرا قاسيا جدا .. ولكنه ليس أقسى مما يحدث في الطبيعة حين تلتهم الدول أولادها بقسوة كبيرة.
    قلم مداده الواقع المؤلم ـ بورك الحس والحرف والفكر والقلم. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية تيسير الغصين أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2015
    المشاركات : 137
    المواضيع : 26
    الردود : 137
    المعدل اليومي : 0.04
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    ببراعة تعبيرية وباسلوب تصويري مميز نقلت لنا حروفك وجع ذلك المهجر الفلسطيني
    المقيم بمعسكر عبارة عن مخيم تلعب به الرياح لا يمنع برد أو تشعر بداخله بدفء
    تسرب البرد من خلال حروفك لنشعر به في عظامنا وترتعش أطرافنا بحثا عن الدفء
    فلا نجده إلا في ذلك الغطاء النتن الذي لا يدفء ولا يغني من برد.
    وجعلتنا نشرب مع صاحبك تلك المياة القذرة والمرارة تملأ قلوبنا والرياح تصفر في آذاننا
    ونحن نتالم لحاله وحالك وحال كل اهل المعسكر.
    أما ذلك المنظر الأخير فهو المنظر الأكثر إيلاما ـ منظر القطة وهى تلتهم صغارها
    والقطة أسوأ الأمهات عندما تجوع لا تتورع عن أكل صغارها وكان تعبيرك:
    (رأيت القطة الأم وهي تلتهم صغارها واحدا تلو الآخر بشراهة غريبة!!)
    تعبيرا قاسيا جدا .. ولكنه ليس أقسى مما يحدث في الطبيعة حين تلتهم الدول أولادها بقسوة كبيرة.
    قلم مداده الواقع المؤلم ـ بورك الحس والحرف والفكر والقلم. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ما أجمل قراءتكِ هذه لنصي أستاذة نادية، توقفتُ عند عدة تعبيراتٍ لك أعجبتني، ودللت على مدى وصول نصي إلى عميق وعيكِ ووجدانكِ
    أعجبني كثيرا توقفكِ عند فقرتي (رأيتُ القطة الأم وهي تلتهم صغارها واحداً تلو الآخر بشراهة غريبة!!) وتعليقكِ عليها بما يدلل على فهمكِِ للمعنى الحقيقي الذي أردتُ.
    أعجبني أيضا تبيان إحساسكِ أن مفرداتي أوصلت ما أردتُ من معاني كشدة البرد القارس ، ورائحة الفراش النتن، والماء القذر....
    ولا عجب فهذا النص عشتُ تجربته بنفسي، عانيتُ برده وشربتُ قذارة مائه بل وأكثر..

    أشكركِ أستاذتي الكريمة

    تحياتي،،،

المواضيع المتشابهه

  1. مشكلة القطة بسبسة.
    بواسطة ناديه محمد الجابي في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 12-11-2021, 05:39 PM
  2. القطة المشاكسة
    بواسطة سعد مردف الجزائري في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 25-10-2021, 09:03 PM
  3. "القِطَّةُ تبقى قِطَّة"
    بواسطة إسلام شمس الدين في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 27-06-2021, 12:05 PM
  4. قصّتنا مع القطّة بيسة
    بواسطة محمد النعمة بيروك في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 07-10-2016, 01:38 AM
  5. ذبح القطة (قصة قصيرة)
    بواسطة دكتور محمد فؤاد في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 28-02-2014, 08:20 PM